الإشكالات والاعتراضات


الحجاب وأصل الحريـّة
الاعتراض الّذي أُخذ على الحجاب، أنّه يسلب حقّ الحريّة الذي هو حقٌّ طبيعيٌّ للإنسان، ويُعتبر نوعاً من الإهانة للكرامة الشخصيّة للمرأة. ويزعمون أنّ مسألة الاحترام لكرامة الإنسان وشرفه تُشكِّل إحدى موادّ لائحة حقوق الإنسان وأنّ كلَّ إنسان هو حرٌّ وشريف، بغضِّ النظر عن لونه وجنسه وجنسيّته أو مذهبه، وأنّ فرض الحجاب على المرأة هو إغفال لحقِّ الحريّة وامتهان لكرامتها الإنسانيّة، وبعبارة أخرى: إنّه ظلم فاحش بحقِّ المرأة وعزّتها وكرامتها وحقِّ حريّتها، وكذلك أنّ الحكم المطابق للعقل والشرع يرفض حجز أحدٍ أو أسر حرّيّته، كما أنّه لا يقبل إلحاق الظلم بأحدٍ بكافّة أسبابه وأشكاله وتحت كافّة الذرائع، ويجب رفع الظلم عنه.

الجواب: يلزم التذكير ثانية بالفرق بين حبس المرأة في المنزل وبين إدراكها ما يتوجّب عليها حين تواجه الرجل الأجنبيّ، وهو أنْ تكون مُحجّبة.
إنّ مسألة سجن المرأة أو أَسرِها لا وجود لها في الإسلام. الحجاب في الإسلام هو وظيفة تقوم بها المرأة عند مقابلتها أو مواجهتها للرجل.

فعليها حينما تتعامل مع الرجل أنْ تُراعي أسلوباً خاصّاً في لباسها. وهذه المسؤوليّة لم يُحمِّلها الرجلُ للمرأة! وليس أمراً يتناقض مع كرامتها الإنسانيّة، كما لا تُعدّ هذه المسؤوليّة تجاوزاً لحقوقها الطبيعيّة التي منحها الله إياها.

إذا كانت رعاية بعض المصالح الاجتماعيّة تؤدّي إلى تحديد حريّة الرجل أو المرأة، كالتزامها بأسلوب خاصّ في التعامل، واتباعها شكلاً خاصّاً في الحركة، بحيث لا تُربك الآخرين، ولا تفقد التوازن الاخلاقيّ، فلا يُمكن تسمية ذلك سجناً أو عبوديّة، كما لا يُمكن اعتباره منافياً للكرامة الإنسانيّة والحريّة.


هناك في دول العالم المتمدِّن مثل هذه التحديدات في وقتنا الحاضر، سواء للرجل أو للمرأة. فإذا خرج الرجل عارياً أو خرج بلباس النوم إلى الشارع فسوف تُلقي الشرطة القبض عليه، لأنّه ارتكب عملاً يتناقض وقيم المجتمع.

حينما تقضي المصالح الاجتماعيّة والأخلاقيّة بإلزام الفرد برعاية أسلوب خاصّ في التعامل كأنْ يُمنع من الخروج بلباس النوم، فمثل ذلك لا يُعدّ عبوديّة ولا حبساً، ولا يتناقض مع الحريّة والكرامة الإنسانيّة، وليس بظلم، ولا يُعدّ بالتالي متعارِضاً مع حكم العقل.

بل الأمر عكس ذلك، فستر المرأة في الحدود الّتي قرّرها الإسلام يُفضي إلى رفع كرامتها وتعزيز احترامها، إذ يُحرزها ويصونها.
إنّ الشرف الإنسانيّ للمرأة يقتضي حين الخروج من المنزل أنْ تكون وقورة تُثقل الأرض بمشيتها، وأنْ تتجنّب كلَّ ممارسة تستهدف الإثارة، فلا تدعو الرجل لنفسها عمليّاً، وأن لا تلبس اللباس الحاكي وتمشي المشية الناطقة، وأنْ لا تعتمد الحديث المثير. فمشية الإنسان تحكي، وأسلوبه في الحديث يحكي أمراً آخر غير الكلام نفسه.


خُذِ الضابط العسكريّ مثالاً، فالآمر حينما يستعرض جنوده، وهو يحمل على كتفيه وصدره الرتب والميداليّات والأوسمة العسكريّة، يتبختر في مشيته، ويتنفّس الصعداء، ويعلو صوته متهدّجاً فخماً، فهو يحكي بكلِّ هذا الوضع دون لسان ينطق فيقول: ارهبوني، وليتّخذ الرعب موقعاً في قلوبكم.

والحال كذلك بالنسبة للمرأة، فمِنَ الممكن أنْ تلبس لوناً من الثياب أو تمشي بطريقة خاصّة، بحيث يحكي لباسها ومشيتها، فتدعو الرجل بصوت مرتفع لمتابعتها والّلقاء والتغزّل بها، وإظهار الحبّ والعشق.


فهل أنّ كرامة المرأة تقتضي أنْ تكون على هذه الحالة؟
وإذا سارت المرأة في طريقها هادئة طبيعيّة، لا تُثير الأنظار إليها، ولا تدعو الرجال للنظر الى جسدها نظرة ملوّثة، فهل يكون ذلك متناقِضاً مع كرامتها أو مع كرامة الرجل، أم أنّه متعارض مع مصلحة الجماعة، أو يكون ناقضاً للحريّة؟

نعم إذا قال أحدٌ: يجب حبس المرأة في دارها وغلق الأبواب عليها، والحيلولة دون خروجها من الدار بأيِّ وجه.. فمثل هذه المقولة تتعارض مع الحريّة الفطريّة والكرامة الإنسانيّة والحقوق الإلهيّة الّتي تتمتّع بها المرأة. وهي مقولة الحجاب الجاهليّ وليس لها في نظام الإسلام وجود.

إذا سألتَ الفقهاء: هل يحرم خروج المرأة من دارها؟ يُجيبون: لا.
وإذا سألتهم: هل يجوز للمرأة أنْ تبيع وتشتري وتتعامل تجاريّاً مع الرجال؟ يُجيبون: نعم.
وإذا سألتهم: هل يجوز اشتراك المرأة في الفعاليّات الاجتماعيّة العامّة؟
فالجواب: نعم، كما يجوز للمرأة حضور المساجد وممارسة النشاطات الدينيّة. وليس هناك من يقول إنّ مجرّد مشاركة المرأة في الأماكن الّتي يوجد فيها رجال أمرٌ حرام.
وإذا سألتَهم: هل يجوز للمرأة أنْ تتعلّم، وأنْ تُمارِس الفنّ، وبالتّالي ترتفع بمستوى استعداداتها الّتي منحها الله؟.
الجواب: نعم.

والجواب بـ"نعم" في كلِّ ما تقدّم مشروطٌ بأمرين فقط
1 - أنْ تتوفّر المرأة على الحجاب، وأنْ يكون خروجها من منزلها خروجاً عفيفاً، لا تُثير الرجال.
2 - إنّ مصلحة الأُسرة تقتضي أنْ يكون خروج المرأة من دارها مصحوباً برضا الزوج وتقديره. والزوج بدوره ملزم بأنْ لا يتجاوز حدود مصالح الأُسرة.
فمِنَ الممكن أنْ يكون ذهاب الزوجة حتّى إلى بيت أهلها أمراً مُتعارِضاً مع مصلحة الأُسرة. افترضي أنّ الزوجة أرادت أنْ تذهب إلى بيت أختها، وكانت الأخت امرأة مخرِّبة تسعى لتهديم كيان أسرة أختها فتسيّرها بهذا الاتّجاه. والتجربة أثبتت أنّ هذا الفرض ليس نادراً.

ويتّفق أحياناً أنْ يكون ذهاب الزوجة إلى بيت أمِّها مُتعارِضاً مع مصالح الأُسرة. ففي مثل هذه الموارد يحقّ للزوج أنْ يحول دون هذه اللّقاءات الضارّة، والّتي يكون ضررها غير منحصِر بالزوج بل يعمُّ الزوجة والأبناء.
أمّا في الأمور الّتي لا علاقة لها بمصلحة الأُسرة لا يبقى هناك وجه ومورد لتدخّل الزوج.

الحجاب وتجميد الطاقات
الاعتراض الثاني على الحجاب هو: أنّ الحجاب يؤدّي إلى تعطيل الفعاليّات النسويّة، الّتي خلق الله في المرأة الاستعداد لها.
فالمرأة كالرجل تتمتّع بذوق، وفكر، وفهم، وذكاء واستعداد للعمل. وهذه الاستعدادات منحها الله تعالى لها، ولم يكن ذلك عبثاً، وعليه يلزم استثمارها. فكلُّ استعداد طبيعيّ - من حيث الأساس - يدلُّ على وجود حقٍّ طبيعيّ. فحينما يُمنح كائن ما استعداداً ولياقة لعملٍ ما، فهذا يُمثِّل سنداً ودليلاً على أنّ لهذا الكائن حقّاً في تنشيط وترشيد الاستعداد، والحيلولة دون ذلك ظلم وعدوان.


لِمَ نقول إنّ لكلِّ أبناء البشر حقّاً في التعليم سواء كانوا رجالاً أو نساءً، ولم نُعط الحقّ للحيوانات؟
ذلك لأنّ استعداد التعلُّم موجود لدى البشر، دون الحيوانات. فالحيوان يتمتّع باستعداد التغذية والإنجاب، وحرمانه من ذلك يُعتبر عملاً مخالفاً للعدالة.إنّ الحيلولة دون ممارسة المرأة للفعاليّات والاستعدادات الّتي منحتها لها يدُ الإبداع والخلق ليس ظلماً للمرأة فحسب، بل خيانة للأمّة أيضاً. فكلُّ عمل يؤدّي إلى تعطيل قوى الإنسان التكوينيّة، الّتي منحه الله إيّاها، فهو عمل ضارٌّ للجماعة. فالعامل الإنسانيُّ أكبر رأسمال اجتماعيّ، والمرأة إنسان أيضاً، فيلزم أنْ ينتفع المجتمع بعمل وفعاليّة هذا العامل وقواه الإنتاجيّة. فركود هذا العامل وتضييع طاقات نصف أبناء المجتمع يتناقض والحقّ الطبيعيّ الفرديّ للمرأة، كما يتناقض وحقّ المجتمع، ويؤدّي إلى جعل المرأة عالة وكَلّاً على الرجل.

الجواب: إنّ الحجاب الإسلاميّ - الّذي سنُوضِّح حدوده عاجلاً - لا يؤدّي إلى تضييع قُدرات المرأة وتعطيل استعداداتها الفطريّة. إنّ الإشكال أعلاه يَرِد على الحجاب الذي كان متداوَلاً بين الهنود والإيرانيّين قبل الإسلام أو الحجاب اليهوديّ. لكنّ حجاب الإسلام لا يقول: يلزم حبس المرأة في دارها، والحيلولة دون فعاليّاتها ونموّ استعداداتها. فأساس الحجاب في الإسلام - كما قلنا - هو: أنّ المتعة الجنسيّة يلزم حصرها في محيط المنزل وبالزوجة الشرعيّة، وأنْ يُترك المحيط الاجتماعيّ محيط عمل وإنتاج. ومن هنا لا يُسمح للمرأة حين خروجها من الدار أنْ تُهيّئ موجبات الإثارة الجنسيّة للرجال، كما لا يُسمح للرجل أنْ يتصيّد بنظراته النساء. إنّ هذا اللون من الحجاب لا يُعطِّل طاقات المرأة كما أنّه يؤدّي إلى تدعيم قُدراتها على العمل الاجتماعيّ أيضاً.


إذا قصر الرجل متعته الجنسيّة على زوجته الشرعيّة، وصمّم بعد خروجه من منزله ووطئت قدمه المحيط العامّ على أنْ لا يُفكِّر في مسائل الجنس، فمِنَ المقطوع به أنّه يستطيع العمل بشكلٍ أفضل ممّا لو كان جلّ همّه منصبّاً على ملاحقة الفتيات ومعاشرة النساء والتمتّع بهنّ.

هل أنّ خروج المرأة إلى ميدان العمل بوضع اعتياديّ غير مثير أفضل، أم خروجها بعد ساعات من التجميل والوقوف أمام المرآة، ثُمّ تخرج ليكون كلُّ سعيها باتّجاه جذب قلوب الرجال إليها، وتحويل الشباب - الذين ينبغي أنْ يُمثِّلوا المظهر الحقيقيّ لإرادة وحزم وفعاليّة الأمّة - إلى موجودات طائشة شهوانيّة لا إرادة لها؟.
إنّه لأمر غريب، فبحجّة أن الحجاب يُعطِّل نصف أبناء المجتمع نركن إلى السفور والتحلُّل لنُعطِّل النصفين - الرجال والنساء -!! فيضحى عمل المرأة التأمّل طويلاً أمام المرآة وصرف الوقت في التجمُّل، ويكون عمل الرجل في الركض خلف الشهوات وتصيّد الفتيات!.

لا بأس هنا بنقل نصّ شكوى زوج من زوجته، وقد نُشرت هذه الشكوى في إحدى المجلّات النسويّة، ليتّضح كيف أنّ الوضع القائم للنساء حوّلهنّ إلى موجوداتٍ من لون آخر.

جاء في هذه الرسالة ما يلي:"تتحوّل زوجتي أثناء النوم إلى موجودٍ غريب، يجثم إلى جواري، فلأجل أنْ لا ينفرط انتظام شعرها أثناء النوم تلبس على رأسها قبّعة كبيرة، ثم تلبس ثياب نومها، حيث تجلس أمام المرآة وتطلي وجهها بمساحيق طبيّة، وبعد أنْ تُدير وجهها لي يواجهني موجود لا أعرفه، وكأنّها لم تكن زوجتي، إذ تبدّلت صورتها من حيث الأساس فحاجباها ليس لهما وجود بفعل المساحيق. ويبثّ وجهها روائح كريهة، بفعل المساحيق الطبيّة الّتي تستخدمها، والّتي تُعطي رائحة الكافور، فتنقلني إلى عالم القبور. ويا ليت الأمر ينتهي عند هذا الحدّ! لكنّ ذلك مقدّمة لما يأتي، فبعد ذلك تمشي عدّة خطوات داخل الغرفة وتجمع ما تناثر من أسبابها، ثُمّ تُنادي الخادمة وتطلب منها أنْ تأتي بالأكياس، فتأتي الخادمة بأربعة أكياس، فتنام على السرير وتأخذ الخادمة بوضع الأكياس في يديها ورجليها وتشدّ أطرافها بخيط، وذلك للحفاظ على سلامة الأظافر المستطيلة، وتنام زوجتي على هذه الحالة"!

أجل، هذه هي المرأة بعد تحرُّرها من الحجاب، حيث تتحوّل إلى عنصر فعّال، وطاقة اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة!!
إنّ ما لا يُريده الإسلام هو أنْ تكون المرأة كهذا الموجود المهمل، ويكون عملها مُنحصِراً في استهلاك الثروة وإفساد أخلاق المجتمع وتخريب بناء الأُسرة. إنّ الإسلام لا يُعارض - على الإطلاق - نشاط المرأة الواقعيّ في المجتمع والاقتصاد والثقافة، والنصوص الإسلاميّة وتاريخ الإسلام شاهدان على هذا الادّعاء.

ففي ظلِّ الأوضاع القائمة الّتي تنزع إلى تجديد لا منطق له، لا نعثر على امرأة تصرف طاقتها - واقعاً - في النشاطات الاجتماعيّة، أو الثقافيّة أو الاقتصاديّة المثمرة، إلّا في بعض القرى، ولدى بعض العناصر المتديّنة الّتي تلتزم بأحكام الشرع الإسلاميّ التزاماً حقيقيّاً.

نعم، هناك لون من النشاط الاقتصاديّ الرائج، الّذي يلزم أنْ نُعدّه ثمرة التحرُّر من الحجاب وهو: أنْ يسعى صاحب المعرض - بدلاً من تهيئة السلعة الجيّدة والأفضل لزبائنه - إلى استخدام فتاة بعنوان "البائعة"، فيستثمر قدرتها النسويّة ورأسمالها المتمثّل في العفاف والشرف، ويُحوِّلها إلى أداة لتحصيل المال، واستغلال زبائنه. فالبائع يعرض السلعة على الزبون كما هي، إلّا أنّ الفتاة البائعة الجميلة تجذب الزبون بألوان من التغنُّج النسويّ، وعرض مفاتنها الجنسيّة. فيُقبل العديد من الأفراد الّذين لا ينوون شراء شيء من المعرض، لأجل التحدُّث مع البائعة بعض الوقت، ثم يشترون شيئاً من المعرض!.

فهل هذا العمل فعاليّة اجتماعيّة؟ هل هذا العمل تجارة أم أنّه تحايل ورذالة؟.
يقولون: لا تُعبِّئوا المرأة في كيس أسود نحن لا نقول لأحدٍ ضع زوجتك في كيس أسود. ولكنْ هل ينبغي للمرأة أنْ ترتدي لباسها، وتظهر أمام الملأ بحيث تُظهر نهديها أمام نظرات الرجال الشهوانيّة، وتُخرجهما بشكل ألطف ممّا هما عليه؟. هل ينبغي للمرأة أنْ ترتدي تحت ثيابها الوسائل الاصطناعيّة الّتي تزيد في جمالها، لأجل سرقة قلوب الـرجـال؟ فـهل تـرتـدي الفتيات هذه الملابس لأزواجهنّ؟ لِمَ ترتدي الأحذية ذات الأكعاب؟ فهل هناك غير إظهار حركات ردفيها؟ وهل أنّ ارتداء الملابس الحاكية عن مواضع الحسن في الجسد يستهدف أمراً غير إثارة الرجال وتصيّدهم؟ وعلى الأغلب فالنساء الّلواتي يستعملن أمثال هذه الملابس والأحذية لا يضعن أزواجهنّ فقط في حسبانهنّ، دون سائر الرجال.

يُمكن للمرأة أنْ تستعمل ما تشاء من لباس وتجميل أمام محارمها، وأمام النساء، ـ بالحدود الشرعيّة ـ ولكنّ المؤسف أنّ تقليد الغرب يستهدف هدفاً آخر.

إنّ غريزة التظاهر والتصيّد غريزة لدى المرأة، والويل إذا دعا الرجال لذلك أيضاً وساهم مصمّمو الأزياء في تكميل ما ينقص، وحضَّ المصلحون الاجتماعيّون على ذلك!

إذا ارتدت الفتيات ألبسة اعتياديّة في التجمّعات العامّة، وارتدينَ أحذية عاديّة وسترنَ شعورهن، ثُمّ ذهبنَ إلى المدرسة أو الجامعة، فهل أنّ تحصيلهنّ الدراسيّ أفضل، أم أنّه أفضل في الوضع القائم؟ لو لم تكن هناك متعة جنسيّة منظورة، فلِمَ هذا الإصرار على خروج المرأة بهذا الشكل؟ لِمَ يُصرّون على جعل المدارس الإعدادية مختلطة؟. سمعت أنّ العادة في باكستان - ولا أدري هل هي قائمة الآن أم لا - هي أنْ يُفصل قسم البنين بحاجز وبردة عن قسم البنات، ويبقى الأستاذ وحده مُشرِفاً على القسمين من وراء المنصّة، فأيُّ إشكال في ذلك؟.

الحجاب وهيجان الثورة الجنسيّة
الاعتراض الآخر الذي أوردوه على الحجاب هو: أنّ إيجاد الحاجز بين الرجل والمرأة يؤدّي إلى ارتفاع نسبة الثورة الجنسيّة. وعلى قاعدة "الإنسان حريص على ما مُنع" فإيجاد الحاجز والمانع يزيد في حرص ورغبة الرجل والمرأة بالجنس. مُضافاً إلى أنّ قمع الغرائز يُفضي إلى ألوان من الاضطراب النفسيّ والأمراض النفسيّة.

علماء النفس المحدثون - وخصوصاً المذهب الفرويديّ - يتذرّعون كثيراً بالحرمان والفشل، فيقول فرويد: إنّ الإحباط معلول بالقيود الاجتماعيّة. ويقترح ترك الغريزة حرّة قدر الإمكان، لكي لا يُعاني الفرد من الإحباط وآثاره النفسيّة.

يقول "راسل" في كتابه "العلم الذي أعرفه" في الصفحتين 69 - 70 من ترجمته الفارسيّة:"الأثر الطبيعيّ للحرمان عبارة عن إثارة الإحساس العامّ للبحث. وهذا الأثر سلبيٌّ على الآداب، كما أنّه سلبيٌّ في مجالات أخرى... لنضرب مثالاً على أثر التحريم: كان الفيلسوف اليوناني "أمبيذكلس" يعتبر علس1 أوراق شجرة الغار عملاً مخزياً وقبيحاً جدّاً، وكان يستولي عليه الفزع والجزع باستمرار لأنّه لا بُدَّ أن يبقى في ظلمات الجحيم آلاف السنين بسبب علسه لورقة شجرة الغار. ولم ننهَ نحن على الإطلاق عن علس ورقة شجرة الغار، وحتّى الآن لم أعلس ورقة هذه الشجرة. ولكن لُقِّن "أمبيذكلس" حرمة هذا العمل، وهو قد علس ورقة شجرة الغار".

ثم يطرح "راسل" السؤال التالي: هل تعتقد أنّ نشر المواضيع المنافية للعفّة لا يزيد ارتباط الناس بها؟ فيُجيب:"إنّ علاقة الناس بهذه المواضيع سوف تنقص. افترض أنّ طبع ونشر اللّوحات المنافية للعفّة أصبح مجازاً، ولو حصل ذلك فإنّ هذه اللوحات بعد الترحيب بها سنة أو سنتين من قِبَل الناس، يحصل لديهم إشباع، ومن ثم تُهمل وحتّى لا يُلقي عليها أحد نظرة".

الجواب عن هذا الإشكال هو: صحيح أنّ الإحباط، وخصوصاً الإحباط الجنسيّ، ذو آثار سلبيّة، وسليم أنّ محاربة الغريزة في حدود الحاجة الطبيعيّة أمرٌ خاطىء، لكنّ رفع القيود الاجتماعيّة لا يحلّ المشكلة، بل يزيدها تعقيداً. فرفع القيود أمام الغريزة الجنسيّة وبعض الغرائز الأخرى يُميت العشق بمفهومه الواقعيّ، ويُطلق الطبيعة هائجة، وكلّما ازداد العرض أمامها ازداد هيجانها واحتدّ الميل للتنوّع.


إنّ مقولة (راسل): "إذا سمحنا بانتشار الصور المنافية للعفّة، فسوف يملّها الناس بعد فترة ولا ينظرون إليها" صحيحة بالنسبة إلى صورة خاصّة ونوع خاصّ من اللاعفّة. ولكنّه لا يصدق على مطلق الانحراف والتحلّل، يعني: يملّ الإنسان ممارسة لون من الانحراف، ولكنّه لا يميل الى العفاف بعد الملل، بل ينتقل بحاجته الغريزيّة إلى ممارسة لون آخر من الانحراف. وهذه الحاجة لا تنتهي على الإطلاق. فراسل نفسه يعترف في كتابه "الأخلاق والعلاقة الجنسيّة" بأنّ العطش النفسيّ في مسائل الجنس يختلف عن الحرارة الجسديّة، فما يسكن بالإرضاء هو حرارة الجسم، لا العطش النفسيّ.

يلزم الالتفات إلى مسألة: وهي أنّ الحريّة في المسائل الجنسيّة تؤدّي إلى اضطرام الشهوة بجشع وحرص، نظير جشع وحرص أصحاب الحريم الرومان والفرس والعرب الذين نعرفهم. لكنّ الحجاب والحاجز يُثير ويُرشد الإحساس بالعشق والخيال والغزل على مستوى إنسانيٍّ رفيع، وحينئذٍ فقط يتحوّل ذلك الإحساس إلى مُنطلَق للإبداع والفنّ والفلسفة.

الفارق بين ما يُسمّى العشق، وعلى حدِّ تعبير ابن سينا "العشق العفيف"، وما يظهر على صورة هيجان حريص وجشع - رغم كونهما أمرين روحيّين لا نهائيّين - فارق كبير. فالعشق عميق، يُمركز القوى، وموحّد، أمّا الهيجان فهو سطحيٌّ، مشتّت، وتعدّدي، وطارىء.

الحاجات الطبيعيّة على قسمين: حاجات محدودة وسطحيّة، نظير الأكل والنوم، وبمجرّد إشباع هذه الحاجات، ترتفع رغبة الإنسان فيها، ومن الممكن أنْ تتحوّل إلى انزجار ونفرة، والقسم الآخر حاجات عميقة وغير محدودة، كطلب المال والجاه.

الغريزة الجنسيّة تتمتّع بخصائص كلا القسمين، فجسميّاً هي من القسم الأوّل، لكنّها بوصفها ميلاً نفسيّاً بين الجنسين ليست كذلك، ولأجل إيضاح هذه الفكرة نُقدِّم بين يدي قرّائنا الكرام المقارنة التالية:
كلُّ بلد يحتاج إلى حدٍّ معيّن من الطعام، مثلاً: إذا كان تعداد سكان البلاد عشرين مليوناً فسوف يكون مقدار الطعام الّذي يحتاجونه محدّداً حسب تعدادهم، لا ينقص وإذا زاد فهو زائد عن الحاجة.


فإذا استفهمنا: ما هو مقدار الطعام الذي يحتاجه هذا البلد؟ يأتي الجواب مقداراً محدّداً. ولكنْ إذا استفهمنا عن المقدار الّذي يحتاجه البلد من الثروة بالنظر لطلب أبناء البلد للمال، يعني: ما هو المقدار اللازم من المال لإشباع رغبة وميل أبناء الشعب للمال، بحيث إذا دفعنا لهم مالاً، يقولون: شبعنا، ولا رغبة لنا، لا نستطيع تناوله؟ الجواب هو: إنّ الطلب لا حدّ له.

وحبُّ العلم لدى الأفراد يُشبه حبَّ المال من هذه الناحية. فقد جاء في حديثٍ عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال". وحبُّ الجاه مصداق لهذه الناحية أيضاً، فقابليّة البشر في طلب المقام والجاه لا نهاية لها، فكلّما حصل الإنسان على مقام رفيع فهو يطلب ويرغب في المقام الأعلى والأرقى.

أمّا الغريزة الجنسيّة فلها جانبان: الجانب الجسميّ، والجانب الروحيّ. فمِنَ الناحية الجسميّة هي محدودة، حيث إنّ حاجة الرجل العضويّة يُمكن أنْ تُشبع بامرأة واحدة أو امرأتين. أمّا من حيث طلب التنوّع والشوق النفسيّ، فالمسألة ذات شكل آخر.

الشكل الآخر من العطش الروحيّ، وهو ما يبرز على صورة جشع وحرص، حيث يرتبط بطلب الملكيّة، أو طلب الملكيّة ممزوجاً بالشهوة الجنسيّة. وهذه الحالة هي عين ما يحصل لدى أصحاب الحريم قديماً، وما يوجد لدى الأثرياء وغيرهم حديثاً. وهذا الشكل من العطش يميل إلى التنوّع، فبعد أنْ يشبع صاحبه من واحدة، يلتفت إلى الأخرى، فهو في نفس الوقت الذي يتوفّر فيه على عشرات النساء، تأسره العشرات الأخريات. وهذا اللون من العطش ينمو في ظروف التحلُّل الجنسيّ وحريّة الاختلاط. وقد أطلقنا على هذا اللون من العطش "الهوس". وكما أشرنا: فالعشق عميق، تتمركز فيه القوى، ويُثري قوّة الخيال، ووحدة المحبوب. أمّا الهوس، فهو سطحيٌّ ضائع، مشتِّت للقوى، ويميل إلى التعدُّد.

هذا اللون من العطش الذي أسميناه "الهوس" لا يشبع. فإذا سقط رجل في هذا الطريق، وافترضنا أنّه امتلك من النساء الحسناوات بعدد ما كان في حريم هارون الرشيد وخسرو برويز، بحيث لا يأتي دور بعضهنّ خلال السنة الكاملة، وسمع أنّ حسناء أخرى في أقصى الأرض فسوف يطلبها، ولا يقول: كفى، لقد شبعت. فهو كجهنّم،﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍٍ﴾ .


فالإشباع في مثل هذه الحالات أمرٌ غير ممكن، وإذا أراد شخص أنْ يرد هذا السبيل فهو يُشبه تماماً من يُريد أنْ يُشبع النار بالحطب.
وبشكلٍ عامّ، فالطبيعة الإنسانيّة غير محدودة في مطالبها الروحيّة. فالإنسان، روحاً، طالب لا نهاية لطلبه. وحينما تختلط المطالب الروحيّة بمسير الأمور الماديّة فلا نصل عندئذٍ إلى نهاية، فكلّما بلغنا مرحلةً، يطلب الإنسان الوصول الى مرحلة أخرى.


لقد أخطأ الذين حسبوا أنّ طغيان النفس الأمّارة وهيجان الإحساسات الشهوانيّة معلول فقط للحرمان والعقد الناشئة عنه. فكما أنّ الحرمان سبب لإضرام نار الشهوات، كذلك اتّباعها والتسليم المطلق لها سبب إضرام نار الشهوات. فأمثال "فرويد" قرأوا وجهاً واحداً من العُمْلَة، وأغفلوا الآخر.

يقول البوصيري في قصيدته المشهورة "نهج البردة"
النفس كالطفل إنْ تُهمله شبَّ على حبِّ الرضاع وإنْ تفطمه ينفطمِ

ويقول الآخر
النفس راغبة إذا رغّبتها وإذا تُردّ إلى قليل تقنع

يكمن خطأ "فرويد" وأمثاله في أنّهم حسبوا أنّ سبيل تهدئة الغرائز هو إشباعها بلا حدٍّ ولا قيد. فقد التفت هؤلاء إلى المنع والحرمان وآثاره السلبيّة فقط، فادّعوا أنّ تقييد الغريزة وحجزها يؤدّي إلى العصيان والانحراف والثورة. فقدّموا حلّهم لأجل تهدئة هذه الغريزة، وذلك بالذهاب إلى ضرورة إعطاء هذه الغريزة حريّة مطلقة، دون منع المرأة من أيّة زينة، والرجل من الاختلاط مع أيّة امرأة.

إنّ هؤلاء لم يلتفتوا - بحكم ملاحظتهم المسألة من جانبٍ واحد - إلى أنّه: كما أنّ الحرمان يقمع الغريزة، ويولّد العقد النفسيّة، فإطلاق الغريزة والتسليم لها، وتركها في عالم المثيرات، يُجنّنها ويهيّجها، وحيث تستحيل الاستجابة لكلِّ مطلب من كلِّ فرد، بل تستحيل الاستجابة لكلِّ مطالب الإنسان الواحد - طول حياته - فسوف تُقمع الغريزة حينئذٍ بشكلٍ أسوأ، وتتولّد العقد النفسيّة.


نحن نعتقد أنّ هناك أمرين لازمين لتهدئة الغريزة: أحدهما إرضاء الغريزة في حدود الحاجة الطبيعيّة، والآخر الحيلولة دون تهييجها وإثارتها.
فحاجات الإنسان الطبيعيّة تُشبه بئر النفط، حيث إنّ تراكم الغازات وتجمّعها داخل البئر يؤذن بخطر انفجارها، وحينئذٍ لا بُدّ من تفريغ الغازات وإشعالها، لكن شعلة الغاز لا يُمكن إشباعها بإطعامها الحطب الكثير.

فحينما يُهيّئ المجتمع أسباب إثارة الغريزة السمعيّة والبصريّة واللمسيّة، لا يُمكنه بإرضاء الغريزة أنْ يُسكت ثورة المجنون. إذ يستحيل إيجاد الرضا والسكينة بهذا الأسلوب. بل يزيد في اضطراب وإحباط الغريزة مضافاً إلى زيادة آلاف الآثار النفسيّة السلبيّة الّتي تنشأ عن الإحباط.إنّ إثارة وتهييج الغريزة الجنسيّة بشكله غير المعقول يؤدّي إلى نتائج وخيمة أخرى، نظير البلوغ المبكر، والشيخوخة المبكرة، وانحلال القوى.


أمّا ما يُقال من "أنّ الإنسان حريص على ما مُنع منه" ففكرة سليمة، لكنّها بحاجة إلى إيضاح. إنّ الإنسان يحرص على شيء مُنع منه، وأُثير باتّجاهه أيضاً، فيحصل لديه تمنّي ذلك الشيء ويُمنع منه بعد ذلك. أمّا إذا لم يُثر باتّجاه شيء، فرغبته وحرصه على ذلك الشيء سوف تنقص وتقلّ.

إنّ صاحب النظريّة الجنسيّة "فرويد" نفسه التفت إلى أنّه بالغ في الموضوع. ولذا اقترح تحويل سبيل التنفيس عن هذه الغريزة عن طريق الفنّ والعلم وغيرهما من الفعاليّات، إذ أثبتت التجربة أنّ رفع القيود الاجتماعيّة رفع معه نسبة الأمراض والآثار النفسيّة السلبيّة لغريزة الجنس.ولكنّني لا أدري كيف يُحوّل "فرويد" سبيل ومجرى الغريزة الجنسيّة، فهل هناك طريق غير التحديد؟

كان يشيع بعض الجهلة في الماضي أنّ الانحراف الجنسيّ "اللواط"ينتشر بين الشرقيّين فقط، وعلّة ذلك هو عدم إمكانيّة الحصول على المرأة على أثر القيود الاجتماعيّة والحجاب. ولكنْ لم يطل الزمن حتى اتّضح أنّ انتشار هذه الممارسة المنحطّة بين الأوروبيّين يزيد مئة مرة على انتشاره بين الشرقيّين.

نحن لا نُنكر أنّ عدم الحصول على المرأة يؤدّي إلى الانحراف، ولا بُدَّ من تيسير مستلزمات الزواج الشرعيّ. ولكنْ - وبلا شك - التبرُّج وسفور المرأة وحريّة الاختلاط تؤدّي إلى الانحراف الجنسيّ أكثر ممّا يؤدّي إليه الحرمان بمراتب.

إذا كان الحرمان باعثاً على الانحراف الجنسيّ "اللواط" في الشرق، فإنّ هيجان الشهوة في أوروبا أدّى إلى هذا الانحراف. فقد أضحى "اللواط" عملاً قانونيّاً في بعض الدول - كما قرأنا خبراً عن ذلك في بعض الصحف - وقيل: بُحكم أنّ الشعب الانجليزيّ وافق عمليّاً على هذه الممارسة، تلزم السلطة التشريعيّة الموافقة عليه. أي أنّه حصل استفتاء قهريّ على هذا العمل.


والأنكى من ذلك، قرأت في مجلّة، أنّ البنين يتزوّج بعضهم بعضاً في بعض البلدان الأوروبيّة.
ولم يكن المحرومون في الشرق سبباً لشيوع "اللواط" بمقدار ما أشاعه أصحاب الحريم. فقد انطلق هذا الانحراف من بلاطات الملوك والسلاطين.

* الحجاب, سلسلة تراثيات إسلامية, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- علس: تأتي بمعنى أكلَ.