مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام-2


في الــطّــَوامِيـــرِ خُلِّدُوا أَعْواما
اللهِ إلّاً في آلِهِ وذِماما
وَأَبْــــنــائِــهِمْ إِمـامـاً إِمــاما
لَـــمْ تُغــادِرْ مِـــنْ تــابِعِيـهِمْ هُماما
بِـأَبــِيـهِ تِلْــكَ الــرَّزايــا الـجِساما
والــعُــرْوَةُ الَّـــتي لا انْـــفِصاما
والــسَّمــاواتُ والــوُجُـودُ اسْتَقاما
ودَلَّتْ عَلَى الرَّشادِ الأنَاما
والمُوالِي لَهُ بُكاءَ الأَيامَى
في السَّماواتِ مَأْتَماً قَدْ أقَاما
في حــَشَى الــدِّيـــنِ جُذْوَةً وضِراما
ومِنَ الكاشِحِينَ طَرْفاً أنَاما
يَوْمَ أَبْــكَيْتَ يَثْـــرِباً والمُقاما1


حــَرَّ قــلبــي لِــــســادَةٍ أَزْكِــيـــاءِ
قَـــتَلُوهُــمْ ومـــا رَعـــَوْا لِرَسُـولِ
مــــا كَـــفاهـــا قَتــــْلُ الوَصِي وشِبْلَيْه
والتَّعـــَدِّي عَـــلَـى المـــيَامِــينِ حـــَتَّـــى
وَرَمــَــتْ جـــــَعــْـــفَــراً رَزايــــا أَرَتْــــنــَا
مَصْدَرُ العِلْمِ مُنْتَهَى الحِلْمِ بابُ اللهِ
عِلَّةُ الكَوْنِ مَنْ بِهِ الأَرْضُ قامَتْ
شَمْسُ قُدْسٍ بَدَتْ فَجَلَّتْ دُجَى الكُفْـرِ
بِـــأَبِــي مَـــنْ بَــكَى عَــلَيْهِ المُـــعادِي
بـــِأَبِـــي مَـــنْ عــــَلَيْهِ جِبـــْرِيلُ حـــُزْناً
يـــا حِـــمَى الدِّيـــنِ إِنَّ فَقــْدَكَ أَوْرَى
ومــــِنَ المُؤْمـــِنِــينَ أَسْـــــهَرَ طَــــرْفــاً
لا مـــُقــامٌ لِأَهـــْلِ يــَثـــْرِبَ فـــِيها

شعبي:
حن الكاظم أوصب دمعة العين ونينك صدع اگلوب الخواتين
تحن اتلوج تتغلــب أو تبـكي ترانى الونتك گلبي تفتّت

الإمام الصّادق عليه السلام أدرك نحواً من خمسين عاماً من عهد الأمويّين، كانت مليئة بالأحداث، الّتي تبعث الألم في نفسه، لقد كان يرى المضطهدين من خيار الأمّة وصلحائها، ومن شيعة آبائه وبني عمومته من الطّالبيّين، يساقون إلى السّجون زرافات ووحدانا, ويساقون إلى الموت شهيداً بعد شهيد، لا لشيء إلّا لأنّهم دعاة حقّ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ولا يستطيع أن يدفع عنهم شرّ أولئك الطّغاة، المستهترين بالدّين ومقدّساته، وبالأمّة ومقدّراتها، وبالإنسان وكرامته2.

وأدرك عليه السلام نحواً من خمسة عشر عاماً من عهد العبّاسيّين, وبهذا يكون قد أدرك الدّولة الأمويّة في قوّتها وعنفوانها, ثمّ في انحدارها وانهيارها, كما أدرك من الدّولة العبّاسيّة فجرها الأوّل، وهي تبني أمجادها على أنقاض دولة الأمويّين3.

هذه الفرصة الّتي سنحت للإمام الصّادق عليه السلام، كانت ثمينة جدّاً، حيث لم تسنح لغيره من أئمّة أهل البيت عليهم السلام. فالضّعف الّذي كان يدبّ في جسم الدّولة الأمويّة في نهاية عهدها، وعدم استقرار الدّولة العبّاسيّة في بداية عهدها، فسح المجال أمام الإمام عليه السلام، ليؤسّس مدرسة يدعو النّاس إليها، لاستماع الأحاديث، ونشر العلم بمختلف جوانبه، وبذلك قام بثورة ليست بقوّة السّلاح كغيرها من الثّورات، ولكن بنشر الثّقافة الإسلاميّة في الأقطار الإسلاميّة، فبلغ عدد طلّابه حوالى أربعة آلاف طالب4، فيهم العلماء، وفيهم أئمّة المذاهب الأربعة.

ويروى أنّه قال بعضهم: دخلت يوماً إلى مسجد الكوفة، فرأيت تسعمائة عالم يدرّسون، وكلّ منهم يقول: حدّثني جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام، هذا في الكوفة وحدها. أمّا الطّلاب الباقون، فقد انتشروا في البقاع الإسلاميّة، ليحفظوا الإسلام، وينشروا مذهب آل البيت عليهم السلام، مذهب جعفر الصّادق عليه السلام, لذلك يقال عن الشّيعة: بأنّهم جعفريّة، نسبة إلى جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام الّذي أعاد إحياء هذا المذهب في نفوس الشّيعة.

وكان الإمام عليه السلام يوصي أصحابه أن يكونوا دعاة صامتين, يدعون النّاس إلى الخصال الحميدة بأعمالهم قبل أقوالهم, فكان يقول لهم: "أوصيكم بتقوى الله, وأداء الأمانة لمن ائتمنكم, وحسن الصّحبة لمن صحبتموه, وأن تكونوا لنا دعاة صامتين", فيقولون له: وكيف يا بن رسول الله، ندعو الله، ونحن صامتون؟ فقال عليه السلام: تعملون بما أمرناكم من طاعة الله, وتعاملون النّاس بالصّدق والعدل, وتؤدّون الأمانة, وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر, ولا يطّلع النّاس منكم إلّا على خير, فإذا رأوا ما أنتم عليه، علموا فضل ما عندنا، فسارعوا إلينا5.

هذه الفرصة السّانحة للإمام عليه السلام، لم تدم إلى نهاية حياته الشّريفة, لأنّه عند مجيء المنصور الدّوانيقيّ إلى الحكم، بدأ هذا الأخير يكيد المكائد للإمام الصّادق عليه السلام، إلى أن وصل الأمر إلى جلوس الإمام عليه السلام في بيته وحيداً، لا يدخل عليه أحد، خوفاً من أعين الجواسيس, ولكن هل استراح الإمام من المنصور بجلوسه وحيداً في بيته ؟ كلّا, بل كان المنصور ينتظر الفرصة السّانحة ليقتل الإمام عليه السلام, وحاول عدّة مرّات، ولكنّ الله سبحانه، كان يحفظ الإمام عليه السلام من مكائده.

فقد روي في مهج الدّعوات: عن محمّد بن الرّبيع الحاجب، قال: قعد المنصور في قبّة، كان إذا قعد فيها، يسمّي ذلك اليوم، يوم الذّبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد عليهما السلام من المدينة، فلم يزل فيها نهاره كلّه، حتّى جاء اللّيل، ومضى أكثره, ثمّ دعا الرّبيع، وقال له: سر في هذه السّاعة إلى جعفر بن محمّد بن فاطمة، فأتني به على الحال، الّتي تجده فيها، لا تغيّر شيئاً ممّا هو عليه، فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هذا والله، هو العطب، إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله، وذهبت الآخرة، وإن لم آت به، وأدهنت في أمره، قتلني، وقتل نسلي، وأخذ أموالي، فميّزت بين الدّنيا والآخرة، فمالت نفسي إلى الدّنيا.

قال محمّد بن الرّبيع: فدعاني أبي، وكنت أفظّ ولده، وأغلظهم قلباً، فقال لي: امض إلى جعفر بن محمّد، فتسلّق على حائطه، ولا تستفتح عليه باباً، فتغيّر بعض ما هو عليه، ولكن أنزل عليه نزولاً، فأت به على الحال الّتي هو فيها. قال: فأتيته، وقد ذهب اللّيل إلّا أقلّه، فأمرت بنصب السّلاليم، وتسلّقت عليه الحائط، ونزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلّي، وعليه قميص ومنديل قد ائتزر به، فلمّا سلّم من صلاته، قلت له: أجب أمير المؤمنين، قال: دعني أدعو وألبس ثيابي. فقلت له: ليس إلى تركك وذلك سبيل، قال: فأدخل المغتسل فأتطهّر، قال، قلت: وليس إلى ذلك أيضاً سبيل، فلا تشغل نفسك، فإنّي لا أدعك تغيّر شيئاً. قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله, وكان عليه السلام قد جاوز السّبعين، فلمّا مضى بعض الطّريق، ضعف الشّيخ فرحمته، فقلت له: اركب. فركب بغلاً شاكريّاً كان معنا, ثمّ صرنا إلى الرّبيع، فسمعته- أي المنصور- وهو

يقول له: ويلك يا ربيع, قد أبطأ الرّجل, وجعل يستحثّه استحثاثاً شديداً، فلمّا أن وقعت عين الرّبيع على جعفر بن محمّد عليهما السلام، وهو بتلك الحالة بكى، وكان الرّبيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السلام: يا ربيع، أنا أعلم ميلك إلينا, فدعني أصلّي ركعتين وأدعو. قال: شأنك وما تشاء, فصلّى ركعتين خفّفهما، ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه, إلّا أنّه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الرّبيع, فلمّا فرغ من دعائه على طوله، أخذ الرّبيع بذراعيه، وأدخله على المنصور، فلمّا صار في صحن الإيوان، وقف، ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو, ثمّ أدخلته، فوقف بين يديه. قال: فلمّا نظر إليه، قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وفسادك وبغيك على أهل هذا البيت من بني العبّاس، وما يزيدك الله بذلك إلّا شدّة حسد ونكد، ما تبلغ به ما تقدره؟ فقال عليه السلام له: والله، ما فعلت شيئاً من ذلك، ولقد كنت في ولاية بني أميّة، وأنت تعلم أنّهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنّهم لا حقّ لهم في هذا الأمر، فوالله ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عنّي سوء، مع جفاهم الّذي كان بي، وكيف أصنع الآن هذا، وأنت ابن عمّي، وأمسّ الخلق بي رحماً، وأكثرهم عطاءً وبرّاً، فكيف أفعل هذا؟.

وعن كشف الغمّة، أنّ المنصور أوعده وأغلظ، وقال: اتخذك أهل العراق إماماً، يبعثون إليك زكاة أموالهم، وتلحد في سلطاني، وتبغيه الغوايل، قتلني الله إن لم أقتلك6.

المصيبة:
وهكذا بقي المنصور يرسل خلف الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام، وفي كلّ مرّة يريد قتله, ولكن دون أن يتمكّن من قتله بنفسه, لذا بعث سمّاً قتّالاً إلى والي المدينة محمّد بن سليمان، وأمره أن يعطيه السّمّ, ثمّ جذبه في العنب حتّى صار مسموماً، فقدّمه للإمام، وسمّ عليه السلام بذلك العنب المسموم، ومرض مرضاً شديداً، ووقع في فراشه.

قيل: فدخل عليه أحد أصحابه، فلمّا رأى الإمام مسجّى على فراش الموت، وقد ذبل، فبكى، فقال عليه السلام: لأيّ شيء تبكي؟ فقال: ألا أبكي، وأنا أراك على هذه الحالة؟ فقال: لا تفعل, فإنّ المؤمن يعرض عليه كلّ خير, إن قطعت أعضاؤه كان خيراً له، وإن ملك ما بين المشرق والمغرب كان خيراً له.

وفي جنّات الخلود: سقى السّمّ مراراً عديدة، وفي آخر مرّة سقى السّمّ فمرض مرضاً شديداً، وعارضه وجع شديد في بطنه، وأحشائه، وأمعائه.

قال عمرو بن زيد: دخلت عليه أعوده، فرأيته متّكئاً، وقد دار وجهه إلى الحائط، والباب وراء ظهره, فلمّا دخلت عليه، قال: وجّهني إلى القبلة فوجّهته, ثمّ ما لبث أن عرق جبينه، وسكن أنينه، وقضى نحبه، ولقى ربّه مسموماً شهيداً، صابراً، محتسباً, أي وا إماماه، واسيّداه، واصادقاه.

امصيبة الصّادق اشلون امصيبه الظّالم أبكل وگت ويلي ايجيبه
تـــالـــي المـنصـــور ردّه الدّيــرتــه حتى سمّه أو صارگلبه الهيبه

إمامنا الصّادق عرق جبينه عند الموت، وهذا حال المؤمن، يعرق جبينه إذا نزل به الموت، (فيتصبّب العرق منه)، إلّا مولانا الحسين عليه السلام الّذي تصبّب الدّم من جبينه, لأنّ رأسه كان مرفوعاً على رأس رمح طويل, فجبينه مرّة يضرب بالسّوط، ومرّة يضرب بالحجر، المرّة الأولى، لمّا أدخلوا السّبايا إلى الكوفة، والرّؤوس أمامها, يقول هلال: رأيت رأس الحسين على رأس رمح طويل وهو يتلو قوله تعالى: ﴿أمْ حِسبتَ أنّ أصحابَ الكهفِ والرَّقيمِ كانوا منْ آياتِنا عَجَباً﴾ فقلت: إنّ رأسك أعجب وأعجب يا بن رسول الله، فقال الرّأس لحامله: فرّقت بين رأسي وبدني, فرّق الله بين رأسك وبدنك، وجعلك آية ونكالاً للعالمين. فلمّا سمع اللّعين ذلك، مال عليه يضربه بسوطه، ويضربه ويضربه، حتّى سكت الرّأس عن الكلام.

أّرُوحـــُكَ أَمُ رُوحُ النُّبـــُوَّةِ تَصــْعَــد مِنَ الأَرْضِ لِلْفِرْدَوْسِ والحُورُ سُجَّدُ
ورَأْسُكَ أَمْ رَأْسُ الرَّسُولِ عَلَى القَنَا بِآيَةِ أَهْــلِ الــكَــهْفِ راحَ يــُرَدِّدُ

هذه مرّة ضرب فيها جبين الحسين عليه السلام, والمرّة الثّانية: بالشّام، لمّا أدخلوا بنات الرّسالة، وأمامها الرّؤوس إلى دمشق الشّام.
يقول الرّاوي: رأيت رأساً على رأس رمح طويل، وجهه أشبه النّاس بوجه عليّ بن أبي طالب.
وشَيْبَتُهُ مَخْضُوبَةٌ بِدِمائِهِ يُلاعِبُها غَادِي النَّسِيمِ ورائِحُهْ

وإذا بعجوز أمويّة تناولت حجراً، وصكّت به جبين أبي عبد الله!! يا ساعد الله قلب زينب، لمّا رأت ذلك، صاحت: واأخاه، واحسيناه.

عاشوري:
يحسين يابن أمّي يا مذبوح آه آه عـليـك الحزن والبكا والنّوح
والرّاس فوق السّمهري ايلــوح لــــو تنفده لفديك بالرّوح
يا رَأْسَ مُفْتَرِسِ الضَّياغِمِ بِالوَغَى كَيْفَ انْثَنَيْتَ فَرِيسَةَ الأَوْغادِ؟
لَهْفِي لِرَأْسِكَ وَهْوَ يُرْفَعُ مُشْرِقا كَــالــبَدْرِ فَــوْقَ الـذَّابِلِ المَيَّادِ
يَتْلُو الكِتابَ ومَا سَـمِعْــتُ بِواعـِظ اتَـخَذَ القَنا بَدَلاً عَنِ الأَعْوادِ

*مجالس الأئمة المعصومين(ع)1 , سلسلة مجالس العترة, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- القصيدة للسَّيِّد صالح القزوينيّ.
2- الحسنيّ، هاشم، سيرة الأئمّة الاثني عشر، ج2، ص226 ـ 231.
3- المصدر السابق, ص231.
4- المصدر السابق، ص244.
5- الأمين، محسن، المجالس السّنيّة، ج2، ص356.
6- كشف الغمّة: 2/159.