وصيّته عليه السلام لعبد اللّه بن جندب


عبد اللّه بن جندب البجلي الكوفي صحب الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام، وتوكّل للكاظم والرضا، وكان عابداً رفيع المنزلة عندهما، روى الكشي في رجاله أنه قال لأبي الحسن عليه السلام: ألست عنّي راضياً؟ قال: اي واللّه، ورسول اللّه واللّه راض.

وقد أوصاه الصادق بوصيّة جمعت نفائس من العِظات والنصائح، التقطنا منها الشذرات الآتية، قال عليه السلام:

يا ابن جندب، يهلك المتّكل على عمله، ولا ينجو المجتري على الذنوب برحمة اللّه، قال: فمن ينجو؟ قال: الذين هم بين الخوف والرجاء كأن قلوبهم في مخلب طائر، شوقاً إِلى الثواب وخوفاً من العذاب.

يا ابن جندب، مَن سرَّه أن يزوّجه اللّه من الحور العين ويتوجّه بالنور فليُدخل على أخيه المؤمن السرور.

يا ابن جندب، إِن للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده، قال: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وما هي؟ قال: أمّا مصائده فصّد عن برّ الاخوان، وأمّا شباكه فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها اللّه، أما أنه ما يعبد اللّه بمثل نقل الأقدام الى برّ الاخوان وزيارتهم، ويلٌ للساهين عن الصلاة النائمين في الخلوات المستهزئين باللّه وآياته في القرآن، اولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزّكيهم ولهم عذاب أليم.

يا ابن جندب، الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه يوم بدر واُحد، وما عذّب اللّه اُمّة إِلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.

يا ابن جندب، إِن أحببت أن تجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره، فلتهن عليك الدنيا، واجعل الموت نُصب عينيك، ولا تدّخر لغد، واعلم أنَّ لك ما قدَّمت، وعليك ما أخّرت.

يا ابن جندب، من حرَم نفسه كسبه فإنما يجمع لغيره، ومن أطاع هواه فقد أطاع عدّوه، ومن يتّقِ اللّه يكفِه ما أهمّه من أمر دُنياه وآخرته، ويحفظ له ما غاب عنه، وقد عجز مَن لم يعدّ لكّل بلاءٍ صبراً، ولكلّ نعمةٍ شكراً، ولكلّ عُسرٍيُسرا، اصبر نفسك عند كلّ بليّة، وفي ولد أو مال أو ذريّة، فإنما يقبض عاريته، ويأخذ هبته، ليبلو فيهما شكرك وصبرك، وارج اللّه رجاءً لا يجرّيك على معصيته، وخِفهُ خوفاً لا ييؤسك من رحمته ولا تغترّ بقول الجاهل ولا بمدحة فتكبر وتجبر وتغترّ بعملك، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع، ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك ما خلفته وراء ظهرك، واقنع بما قسمه اللّه لك، ولا تنظر إِلا ما عندك، ولا تتمنّ ما لست تناله، فإن مَن قنع شبع، ومَن لم يقنع لم يشبع، وخُذ حظّك من آخرتك، ولا تكن بطراً في الغنى، ولا جزِعاً في الفقر، ولا تكن فظَّاً غليظاً يكره الناس قُربك، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك، ولا تشارَّ من فوقك، ولا تسخر بمن هو دونك، ولا تنازع الأمر أهله، ولا تطع السفهاء، وقف عند كلّ أمر حتّى تعرف مدخله ومخرجه قبل أن تقع فيه فتندم، واجعل نفسك عدّواً تجاهده، وإِن كانت لك يد عند إِنسان فلا تفسدها بكثرة المنّ والذكر لها، ولكن اتبعها بأفضل منها، فإن ذلك أجمل في أخلاقك وأوجب للثواب في آخرتك، وعليك بالصمت نعدّ حليماً، جاهلاً كنت أو عالماً، فإن الصمت زين عند العلماء وسترة لك عند الجهّال.

ومِن هذه الوصية حكايته لكلام عيسى عليه السلام لأصحابه وهو قوله: وإِيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب وانظروا في عيوبهم كهيئة العبيد، إِنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا اللّه على العافية.

ثمّ قال عليه السلام:

يا ابن جندب، صِل مَن قطعك، واعط مَن حرمَك، وأحسن الى مَن أساء اليك، وسلّم على مَن سبَّك، وانصف من خاصمك، واعف عمَّن ظلمك كما أنك تحبّ أن يعفى عنك، فاعتبر بعفو اللّه عنك، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأن قطره ينزل على الصالحين والخاطئين.

يا ابن جندب، الاسلام عريان فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروّته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكلّ شيء أساس وأساس الاسلام حُبّنا أهل البيت.

أقول: ما أجمع هذه الوصيّة لجلائل الحِكم ونفائس المواعظ، ولا تمرّ عليك وصيّة ولا عِظة إِلا وحسبت عندها منتهى البلاغة وأقصى التذكير والتنبيه، وتقول: هل وراءها من قول، وإِن أمثال هذه الوصايا جديرة بالتعليق والشرح إِلا انّ ذلك أبعد عن الغاية، فنوكل التدبّر بها الى القارئ الكريم .

* كتاب الامام الصادق / الشيخ محمد رضا المظفر.