من أدوار الإمام عليه السلام

يرى الإمام الخامنئيّ قدس سره أنّ حياة الإمام الكاظم عليه السلام كانت مليئة بالأحداث المهمّة والمثيرة، وأنّ الجهاد والمواجهة قد بلغتا أوجهما في عهده عليه السلام، حتّى انتهى الأمر إلى اعتقال الإمام وسجنه..

وأنّ مواجهة الأئمّة عليهم السلام بنحو عامّ كانت مواجهة ذات هدف سياسيّ وهو عبارة عن تشكيل حكومة إسلاميّة، فمنذ وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحتّى زمان الغيبة، كان سعي الأئمّة عليهم السلام هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهيّة في المجتمع، وأنّه لا نستطيع القول: إنّ كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة إلهيّة في زمانه وعصره، ولكن هدف كلّ إمام كان يتضمّن تأسيس حكومة إسلاميّة مستقبليّة، وقد يكون ذلك في المستقبل القريب أو البعيد.

فهدف تأسيس الحكومة كان دائماً نصب أعين الأئمّة عليهم السلام، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها يختلف من إمام لآخر، وكلّ الأعمال التي كان يقوم بها الأئمّة عليهم السلام بغضّ النظر عن الأمور المعنويّة والروحيّة التي تهدف إلى تكامل ورقيّ النفس الإنسانيّة وقربها إلى الله تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلاميّة. فنشاطهم في نشر العلم والمناظرات التي كانوا يقومون بها ضدّ خصومهم في العلم والسياسة، ومواقفهم إلى جانب جماعة ووقوفهم في وجه أخرى، كلّها تصبّ في هذا المجال، ألا وهو تأسيس الحكومة الإسلاميّة1.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نسلّط الضوء على أهمّ الأدوار التي قام بها هذا الإمام العظيم في فترة إمامته:

أوّلاً: الدور العلميّ والفكريّ:
التفّ حول الإمام الكاظم عليه السلام في المدينة المنوّرة جمع غفير من كبار الرواة والعلماء ممّن تتلمذوا في جامعة الإمام الصادق عليه السلام الكبرى، حيث قام الإمام بعد أبيه عليهما السلام بإدارة شؤون تلك المدرسة التي أعزّت العلم ورفعت مناره، فأصبح بعد أبيه عميداً وزعيماً للحركة العلميّة والنهضة الفكريّة في عصره. وكان العلماء والرواة ملازمون لمجلسه عليه السلام ولا يفترقون عنه، حتّى بلغ من احتفائهم به وإقبالهم عليه أنّه إذا نطق بكلمة أو أفتى بفتوى سارعوا إلى تدوين ذلك. روى ابن طاووس: أنّ أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام وخواصّه من شيعته وأهل بيته كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح (من الخشب)، فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة بادروا إلى تسجيل ذلك.

لقد روى العلماء والفقهاء من أحاديثه عليه السلام الكثير ودوّنوها في كتبهم ومسانيدهم، وفي شتّى العلوم التي تلقّوها منه، على اختلاف آرائهم وتباين نزعاتهم، من الحكمة والتفسير والفقه والحديث، حتّى طبقت آراؤه الخافقين، وضربت لأجل ذلك آباط الإبل، للاستماع إلى حديثه والانتهال من علومه2.

وكانت أيّامه أيّام شدّة وضيق وبلاء ولا سيّما في عهد هارون الملقّب بالرشيد فلذلك كانت الرواية عنه أقل من أبيه الصادق ومع ذلك فقد روى عنه الناس فأكثروا وروى عنه من علوم الدين الشيء الكثير وكان أفقه أهل زمانه وأجلّهم وروى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما دوّن وملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلّفات الكثيرة وكان عليه السلام يعرف بين الرواة بـ "العالم".

وقال في المناقب: أخذ عنه العلماء ما لا يحصى كثرة وذكر عنه الخطيب في تاريخ بغداد والسمعانيّ في الرسالة القواميّة وأبو صالح أحمد المؤذّن في الأربعين وأبو عبد الله بن بطّة في الإبانة والثعلبيّ في الكشف والبيان. وكان أحمد بن حنبل إذا روى عنه قال: حدّثني موسى بن جعفر، حدّثني أبي جعفر بن محمّد، حدّثني أبي محمّد بن عليّ، حدّثني أبي عليّ بن الحسين، حدّثني أبي الحسين بن عليّ، حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ قال أحمد: وهذا إسناد لو قرئ على المجنون لأفاق الخ..

وكانت مدرسته في داره بالمدينة وفي المسجد كما كان آباؤه عليه وعليهم السلام وكانت ترد إليه المسائل وهو في السجن ببغداد فيجيب عنها3.
من ذلك جوابه على كتاب لعليّ بن سويد السائيّ- أحد أصحابه- كان سأله فيه عن حاله وعن مسائل، فاحتبس الجواب أشهراً ثمّ أجابه عليه السلام من السجن بكتاب أرسله إليه4.

وقد قام الإمام عليه السلام بتربية نخبة من الأصحاب تميّزوا بتخصّصهم في حقول المعرفة المختلفة، والعلوم الدينيّة المتنوّعة من فقه وكلام وتفسير وغيره، ومن بين هؤلاء مجموعة من تلامذته الفقهاء، قال الشيخ الكشّي في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام: أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستّة نفر... منهم يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بيّاع السابريّ، ومحمّد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب الحسن بن عليّ بن فضّال وفضالة بن أيوب، وقال بعضهم مكان ابن فضّال عثمان بن عيسى، وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى5.

ثانياً: المطالبة بحقّه في الإمامة:
قام الإمام الكاظم عليه السلام وفي العديد من المناسبات بالتأكيد على حقّه وحقّ آل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإمامة، تصريحاً تارة وتلميحاً أخرى، بل كان يواجه بعض حكّام بني العبّاس بهذه الحقيقة، ويصارح بها، أكثر من مرّة، وفي أكثر من مناسبة6، وقد ذكر الرواة مواقف عديدة تؤكّد هذا الأمر وتوضحه:

منها: ما نقله الرواة أنّه لمّا دخل هارون الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن عمّ، مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم أبو الحسن عليه السلام إلى القبر فقال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه"، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه7 ، فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه8.

فقد أراد الرشيد بقوله هذا أن يفهم الناس أنّه من آل محمّد وأنّه ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما ضلّل به بنو العبّاس الناس ورفعوه شعاراً لهم في مواجهة بني أميّة حتّى أزالوا ملكهم، ولكن الإمام لم يترك له هذه الفرصة، فقام بالردّ عليه ليسمع الناس أنّه ابن رسول الله وذرّيته، وعترته أهل بيته، وإذا كان هذا الرجل مفروض الطاعة لقرابته من رسول الله من خلال كونه ابن عمّه، فأنا أولى به وأقرب لكوني ابنه وولده.

والظاهر أنّ بني العبّاس كانوا قد تنبّهوا لهذا الأمر وتداعياته على مستوى الأمّة وعلاقتها بأهل البيت عليهم السلام، فأثاروا قضيّة أبناء البنات، وتسمية أولاد البنت بأولاد الرجل، التي افتعلها أسلافهم الأمويّون محاولة منهم للطعن في أهل البيت الذين هم أولاد رسول الله ودمه ولحمته، كما سمّاهم النبيّ بذلك، فتصرّفوا في فرائض الإرث، وقالوا بعدم توريث البنت، لأنّها ليست بولد في العرف الجاهليّ، قال الشاعر9 :

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا


بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ

حتّى وصل الأمر بهم أن قدّموا العمّ على البنت في العصر العبّاسي، فقال مروان بن أبي حفصة:

أَنَّى يَكُونُ وَلَيْسَ ذَاكَ بِكَائِنٍ


لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأَعْمَام

فأجابه شاعر الشيعة10 :

لِمَ لَا يَكُونُ وَإِنَّ ذَاكَ لَكَائِنٌ
ِلْبِنْتِ نِصْفٌ كَامِلٌ مِنْ إِرْثِهِل


لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأَعْمَامِ
وَالعَمُّ مَتْرُوكٌ بِغَيْرِ سِهَامِ11

وقد سأل الرشيد يوماً الإمام الكاظم عليه السلام:لم جوّزتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون لكم: يا بني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم بنو عليّ؟ وإنّما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنّما هي وعاء والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جدّكم من قبل أمّكم؟ فقال عليه السلام: "يا أمير المؤمنين لو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟"، فقال: سبحان الله ولم لا أجيبه؟ بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك، فقال له: "لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يخطب إليَّ ولا أزوّجه"، فقال: ولم؟ فقال عليه السلام: "لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم ولدني ولم يلدك"، فقال: أحسنت يا موسى، ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذرّية النبيّ والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يعقّب وإنّما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد البنت ولا يكون لها عقب؟! فأجابه الإمام عليه السلام- بعد أن طلب أن يعفيه فلم يعفه- فقال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ﴾ من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟" فقال: ليس لعيسى أب، فقال عليه السلام: "إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك أُلحقنا بذراري النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أمّنا فاطمة عليها السلام. أزيدك يا أمير المؤمنين؟" قال: هات، فقال عليه السلام: "قول الله عزَّ وجلَّ:﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين﴾ ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تحت الكساء عند المباهلة للنصارى إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله تعالى ﴿أَبْنَاءنَا﴾ الحسن والحسين، ﴿وَنِسَاءنَا﴾فاطمة ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ عليّ بن أبي طالب عليهم السلام"12.

ومنها: إنّه لقيه الرشيد عند الكعبة فلم يقم له حتّى وقف الرشيد على رأسه فقال: أنت الذي يبايعك الناس؟ قال : "نعم، أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم"13.

ومنها: ما عن محمّد بن سابق بن طلحة الأنصاريّ قال: كان ممّا قال هارون لأبي الحسن عليه السلام حين أُدخل عليه: ما هذه الدار؟ فقال: "هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ الآية"14. فقال له هارون : فدار من هي؟

قال : "هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة"، قال فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال: "أُخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة"، قال: فأين شيعتك؟ فقرأ أبو الحسن عليه السلام: "﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّى تأتيهم البيّنة﴾15، قال: فقال له فنحن كفّار؟ قال: "لا ولكن كما قال الله: ﴿الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار﴾"، فغضب عند ذلك وغلظ عليه، فقد لقيه أبو الحسن عليه السلام بمثل هذه المقالة وما رهبه، وهذا خلاف قول من زعم أنّه هرب منه من الخوف16.

ومنها: المطالبة بفدك، بما ترمز إليه من حقّ الإمامة، فقد روي أنّ موسى الكاظم عليه السلام ورد على المهديّ محمّد، فرآه يردّ المظالم، فقال: "يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا تردّ"، فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ فذكر له الإمام عليه السلام أمر فدك وحدودها- كما سيأتي- فقال له المهديّ: هذا كثير وأنظر فيه17.

وتكرّر هذا المشهد مرّة أخرى مع الرشيد، فروي أنّه كان يقول لموسى بن جعفر عليهما السلام: خذ فدكاً حتّى أردها إليك، فيأبى حتّى ألحّ عليه فقال عليه السلام: "لا آخذها إلّا بحدودها" قال: وما حدودها؟ قال: "إن حددتها لم تردّها؟" قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت، قال: "أمّا الحدّ الأوّل فعدن"، فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً! قال: "والحدّ الثاني سمرقند"، فاربدّ وجهه. "والحدّ الثالث إفريقية"، فاسودّ وجهه وقال: هيه! قال: "والرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية"، قال الرشيد : فلم يبق لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي، قال موسى: "قد أعلمتك أنّني إن حددتها لم تردّها"، فعند ذلك عزم على قتله.

وفي رواية ابن أسباط أنّه قال: "أمّا الحدّ الأوّل فعريش مصر، والثاني دومة الجندل، والثالث أحد، والرابع سيف البحر". فقال: هذا كلّه؟ هذه الدنيا! فقال: "هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة فأفاءه الله على رسوله بلا خيل ولا ركاب فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة عليها السلام"18.

ويرى الإمام الخامنائيّ قدس سره أنّ هذا الطرح من الإمام الكاظم عليه السلام كان يدلّ على استراتيجيّة الإمامة، وأنّ هارون كان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز "فدك" الذي كان أهل البيت عليهم السلام يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميّتهم التاريخيّة، فبإرجاعه لفدك يسحب هذا السلاح من أيديهم، والإمام عليه السلام وبعد إصرار هارون على بيان هذا الأمر أظهر هذا الأمر الأهمّ الذي يرسم استراتيجيّة الإمامة، والذي كان كافياً حتّى يقرّر هارون الرشيد قتله19.

ثالثاً: تحريم التعامل مع السلطة:
فقد حرَّم الإمام عليه السلام التعاون مع حكومة هارون في جميع المجالات، ويظهر ذلك جليّاً في حديثه مع صفوان بن مهران الجمّال قال: دخلت على أبي الحسن الأوّل عليه السلام فقال لي: "يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً"، قلت: جعلت فداك أيّ شيء؟ قال: "إكراؤك جمالك من هذا الرجل- يعني هارون-" قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق- يعني طريق مكّة-، ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: "يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟" قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: "أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟" قلت: نعم، قال: "من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النّار". قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولم؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال؟ فقال: هيهات هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك20.

ومن هذه الرواية وأمثالها يظهر جليّاً كيف أنّ الرشيد كان يعلم بموقف الإمام عليه السلام من السلطة ومواجهتها بمثل هذه الأساليب.

وفي رواية أخرى عن زياد بن سلمة قال: دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام فقال لي: "يا زياد إنّك لتعمل عمل السلطان؟" قال: قلت: أجل، قال لي: "ولم؟" قلت: أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء، فقال لي: "يا زيداً لئن أسقط من حالق21 فأتقطَّع قطعةً قطعة أحبّ إليَّ من أن أتولّى لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم، إلّا لماذا؟" قلت: لا أدري، قال: "إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره أو قضاء دينه، يا زياد إنّ أهون ما يصنع الله عزَّ وجلَّ بمن تولّى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله عزَّ وجلَّ من حساب الخلائق، يا زياد فإنّ وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك، يا زياد أيُّما رجلٍ منكم تولّى لأحد منهم عملاً ثمّ ساوى بينكم وبينهم فقولوا له: أنت منتحل كذّاب، يا زياد إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً ونفاد ما أتيت إليهم عنهم وبقاء ما أبقيت إليهم عليك"22.

رابعاً: اختراق السلطة الحاكمة:
فقد تصدّر العديد من أصحاب الإمام عليه السلام مواقع هامّة في الحكومة العبّاسيّة، وذلك بإذن خاصٍ غير علنيّ من الإمام عليه السلام، ومن بين هؤلاء عليّ بن يقطين الذي كان وزيراً لهارون وكان على اتصالٍ سرّي ودائم مع الإمام عليه السلام23.

وكان الهدف من ذلك تحقيق عدّة أمور:
الأوّل: الإحاطة بالوضع السياسيّ، فإنّ الاقتراب من أعلى موقع سياسيّ من شأنه أن يزوّد الإمام عليه السلام وأصحابه بالمجريات السياسيّة التي تحصل في بلاط الحاكم، ليعمل على اتّخاذ التدابير المختلفة بشأنه، خصوصاً تلك التي تعرّض الوجود الشيعيّ للخطر.

الثاني: قضاء حوائج المؤمنين، ودفع الأذى عنهم، من خلال تمرير أمورهم داخل السلطة، ونقل الصورة المناسبة عنهم، وإحباط مؤامرة المغرضين والمعادين للأئمّة وشيعتهم.

الثالث: التأثير في السياسة العامّة، من خلال المشورة مع الحاكم مثل، أو إنجاز بعض الأعمال التي تتعلّق بالصالح العامّ للأمّة24.

والروايات التي تتحدّث عن علاقة الإمام الكاظم عليه السلام بعليّ بن يقطين تؤكّد بعض هذه الأهداف، فعن إبراهيم بن أبي محمود، عن عليّ بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال: "إن كنت لا بدّ فاعلاً فاتق أموال الشيعة"، قال: فأخبرني عليّ أنّه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردّها عليهم في السرّ.

ويروى أنّه استأذن عليّ بن يقطين الإمام الكاظم عليه السلام في ترك عمل السلطان فلم يأذن له وقال: "لا تفعل فإنّ لنا بك أنساً، ولإخوانك بك عزّاً، وعسى أن يجبر الله بك كسراً، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه، يا عليّ كفّارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم، اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثاً، اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلّا قضيت حاجته وأكرمته، وأضمن لك أن لا يظلّك سقف سجن أبداً ولا ينالك حدّ سيف أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً، يا عليّ من سرَّ مؤمناً فبالله بدأ وبالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثنّى وبنا ثلّث"25.

وعن عليّ بن يقطين أنّه كتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام: إنّ قلبي يضيق ممّا أنا عليه من عمل السلطان- وكان وزيراً لهارون- فإن أذنت لي جعلني الله فداك هربت منه؟ فرجع الجواب: "لا آذن لك بالخروج من عملهم واتق الله"- أو كما قال-26.

وتشير بعض الروايات إلى أنّ عليّ بن يقطين كان يزوّد الإمام عليه السلام بالمعلومات السريّة والخاصّة، ويحرص على إيصالها إلى الإمام عليه السلام سرّاً من خلال توصيته لرسولين بعثهما إليه بتجنّب الطريق وأن لا يعلم بهما أحد، وكذلك من ناحية الإمام عليه السلام فقد التقى بهما في مكان خارج المدينة، ولم يأذن لهما بدخوله، وأمرهما بالانصراف والرجوع...27

خامساً: نصب الوكلاء:
أقام الإمام عليه السلام جماعة من أصحابه وتلامذته فجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الإسلاميّة، وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الدينيّة منهم، كما وكّلهم في قبض الحقوق الشرعيّة، لصرفها على الفقراء والمساكين من الشيعة وإنفاقها في مواردها المختلفة. فقد نصّب المفضّل بن عمر وكيلاً له في قبض الحقوق وأذن له في صرفها على مستحقّيه، كما أقام له كلّاً من حيّان السرّاج وزياد بن مروان القنديّ وعليّ بن أبي حمزة البطائنيّ وغيرهم، وقد وصلت إليهم أموال ضخمة من الشيعة، إلّا أنّهم خانوا الله ورسوله فاشتروا بها الضياع والقصور وذهبوا إلى القول بالوقف على الإمام الكاظم عليه السلام، وأنكروا إمامة الإمام الرضا عليه السلام28.

هذه إطلالة مختصرة على أدوار الإمام عليه السلام وهناك الكثير من الأمور في حياته عليه السلام التي تستحقّ الوقوف عندها والتدبّر فيه، نحيل القارئ الكريم فيها إلى دراسات أوسع.

*كاظم الغيظ، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- أنظر: الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام للإمام الخامنئيّ، فصل عنصر الجهاد في حياة الأئمّة عليهم السلام ص 63، بتصرّف وتلخيص.
2- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 229- 230.
3- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 1 ص 100- 101.
4- الكلينيّ: الكافي ج 8 ص 124.
5- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 830، الرقم 1050.
6- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323.
7- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 234.
8- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323.
9- وهو مروان بن أبي حفصة.
10- وهو جعفر بن عفّان الطائي.
11- مجلة تراثنا ص 90- 91، ج 55، العدد الثالث السنة الرابعة عشرة رجب 1419 هـ.
12- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 80- 81.
13- القاضي التستريّ: شرح إحقاق الحقّ، ج 19 ص 543. وانظر: مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323، وفيه: أنت الذي تبايعك الناس سرّاً.
14- سورة الأعراف 146.
15- سورة البيّنة الآية1.
16- المفيد: الاختصاص ص 262.
17- القاضي التستريّ: شرح إحقاق الحقّ ج 12 ص 340.
18- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 320- 321.
19- أنظر: الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام للإمام الخامنئيّ، فصل عنصر الجهاد في حياة الأئمّة عليهم السلام ص 96- 97، بتصرّف وتلخيص.
20- الحرّ العامليّ: وسائل الشيعة ج 17 ص 182- 183.
21- وهو الجبل المرتفع.
22- الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 333، ولاحظ: القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 72- 74.
23- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ج 9 ص 144- 145، وقد عدَّد ستّة من أصحاب الإمام ممّن تولّوا مراكز مهمّة في السلطة.
24- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام ج 9 ص105- 107.
25- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 136، عن كتاب حقوق المؤمنين لأبي عليّ بن طاهر.
26- المصدر السابق ص 158، عن قرب الإسناد للحميريّ.
27- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي، ج 2 ص 735.
28- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 493.