سيرة حياة بطلة كربلاء السيدة زينب الكبرى (عليها السلام ) ج 1

تاريخ ميلاد السيدة زينب
في غضون السنة السادسة من الهجرة استقبل البيت العلوي الفاطمي الطاهر ـ بكل فرح وسرور ، وغبطة وحبور ـ الطفل الثالث من أطفالهم ، وهي البنت الأولى للإمام أمير المؤمنين والسيدة فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ).


ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى ولدت السيدة زينب ، (1) وفتحت عينها في وجه الحياة ، في دار يشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلق الله تعالى : محمد رسول الله ، وعلي أمير المؤمنين ، وفاطمة سيدة نساء العالمين ، صلى الله عليهم أجمعين.
هذا هو القول المشهور بين الشيعة ـ حالياً ـ وهناك أقوال
قصيدة من ديوان النفحات الولائية في العقيلة الهاشمية للدكتور عصام عباس

تاريخة أخرى في تحديد يوم وعام ميلادها المبارك. (2)
ويجدر ـ هنا ـ أن نشير إلى جريمة تاريخية ارتكبها عملاء الأمويين وأعجب بها المنحرفون الذين وجدوا هذه الجريمة ـ أو الأكذوبة التاريخية ـ تلائم شذوذهم الفكري ، وانحرافهم العقائدي.
فقد ذكرت الكاتبة بنت الشاطئ في كتابها « بطلة كربلاء » ما نصه :
« إنها الزهراء بنت النبي ، توشك أن تضع في بيت النبوة مولوداً جديداً ، بعد أن أقرت عيني الرسول بسبطيه الحبيبين : الحسن والحسين ، وثالث لم يقدر الله له أن يعيش ، هو المحسن بن علي ... » (3).
من الثابت أن المحسن بن الإمام علي هو الطفل الخامس لا الثالث ، وهو الذي قتل وهو جنين في بطن أمه بعد أن عصروا السيدة فاطمة الزهراء بين حائط بيتها والباب ، وبسبب الضرب المبرح الذي أصاب جسمها وكان السبب في سقوط الجنبن.
ولكن هذه الكاتبة المصرية تستعمل المغالطة والتزوير ، وتحاول إحقاق الباطل وإبطال الحق وتقول : إن السيدة زينب
ولدت بعد المحسن بن علي الذي لم يقدر له أن يعيش !
فانظر كيف تحاول بنت الشاطئ تغطية الجنايات التي قام بها بعض الناس بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واقتحامهم بيت السيد فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) لإخراج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ليبايع خليفتهم ، ودفاع السيدة فاطمة عن زوجها ، وعدم سماح لهم باقتحام دارها ، وماجرى عليها من الضرب والركل والضغط ، فكانت النتيجة سقوط جنينها الذي سماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ في حياته ـ محسناً ، وهو ـ يومذاك ـ جنين في بطن أمه !!
وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بتلك المأساة في كتابنا : ( فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ).

[ولادة السيدة زينب] ولادة السيدة زينب
ولما ولدت السيدة زينب ( عليها السلام ) أخبر النبي الكريم بذلك ، فأتى منزل إبنته فاطمة ، وقال : يا بنية إيتيني ببنتك المولودة.
فلما أحضرتها أخذها النبي وضمها إلى صدره الشريف ، ووضع خده على خدها فبكى بكاءً شديداً عالياً ، وسالت دموعه على خديه.
فقالت فاطمة : مم بكاؤك ، لا أبكى الله عينك يا أبتاه ؟
فقال : يا بنتاه يا فاطمة ، إن هذه البنت ستبلى ببلايا وترد عليها مصائب شتى ، ورزايا أدهى.
يا بضعتي وقرة عيني ، إن من بكى عليها ، وعلى مصائبها يكون ثوابه كثواب من بكى على أخويها.
ثم سماها زينب. (4)

زينب عليها السّلام.. شهيدة الاحزان
غريبة تلك المرأة ( زينب بنت عليّ، بنت فاطمة )، في جميع حالاتها وأدوارها التي انشطرت إلى مرحلتين:
الأُولى: منذ ولادتها عليها السّلام إلى أواخر عام 60 من الهجرة النبوية، عاشت فيها في محضر االنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي حِجر فاطمة البتول عليها السّلام وفي كَنف أمير المؤمنين عليه السّلام. ودرجت في بيت الوحي والرسالة مع أخوَيها الحسن والحسين عليهما السّلام.. فارتشفت من المعارف الإلهية ما حُرمت منه النساء جميعاً إلاّ أمَّها الزهراء عليها السّلام.
وقد عايشت أهلَ بيت المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم في محنهم ومهمّاتهم، وودّعت جدها وأمها وأباها وأخاها الحسن، شهداء، الواحد بعد الآخر، حتّى بقي لها قرةُ العين، أخوها أبو عبدالله الحسين، يملأ قلبها ونفسها، ويطيّب حياتها المفجوعة بأخلاقه الشريفة، كما بقي لها إخوتها من أمّ البنين: العباس وإخوته رضي الله عنهم، هي لهم أخت وعقيلة فاضلة ترعاهم ويُجلّونها.
وفي هذه المرحلة صدر عنها من العلوم القرآنية والأخبار والروايات ما ثبّتت به حقائق كثيرة في حياة الرسالة وضمائر المسلمين، فهي التي روت لنا خطبة أمها الصديقة فاطمة عليها السّلام والتي احتجّت بها على مَن غصب فدكاً، روتها بحذافيرها وطولها ولم تكن تبلغ السابعة من عمرها الشريف حين سمعت الخطبة تلك. كما روت قصة ولادة الإمام الحسين، نقلتها عن أمها، وعن العقيلة زينب رواها ابن أخيها عليّ بن الحسين عليه السّلام. ولا بأس للاطلاع الوافي على جملة من روايات السيدة زينب عليها السّلام أن تُراجَع المصادر التالية:
بلاغات النساء، لابي الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور الخصائص الزينبية، للسيّد نور الدين الجزائري زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، للشيخ جعفر النقدي.
السيدة زينب الكبرى عليها السّلام من المهد إلى اللحد، للسيّد محمد كاظم القزويني ـ الفصل الثامن: مسانيدها 109 ـ 120، نقل لنا سبع روايات مهمة ومطولة.
الثانية: فبدأت من يوم رحيلها إلى أرض كربلاء برفقة أخيها سيّد الشهداء الحسين عليه السّلام تؤازره وتنصره، وتقدّم أولادها بين يديه ضحايا فداء لإمامته، فقطعت ذلك الطريق الصعب من المدينة المنورة إلى طفّ الغاضرية حيث مصارع الأحبة الكرام، إخوتِها وبني عمومتها وولْدها وأصحاب أهل بيتها، وبني إخوتها وآل أبي طالب وبني هاشم.
فكانت نعمت الأخت المواسية لأخيها، ونعمت الموالية المضحية للإمامة. أقدمت على يقين وبصيرة وإيمان، واصطحبت ركب الإمام الحسين وعقائل الوحي، وكان عليها أن ترى الفجائع بأمّ عينيها، وكُتِب عليها أن تجلس عند الضحايا، أشلاء مُجزّرين على صعيد المنايا، وتشاهد مصارع الشهداء، وبينهم سيدهم ريحانة المصطفى.
وقدمت القرابين شاكرة لله: إلهي تقبّلْ منا هذا القربان. وأيّ قربان كان! سيّد شباب أهل الجنة. وهانت عليها المصائب والرزايا رغم عِظَمها، لأنها في عين الله، ولأنها خالصة لوجه الله.
ثمّ كان السبي، وما أدرانا ما السبي! ثمّ كان عليها أن تخطب في الكوفة والشام، وأن تواجه الطغاة، وأن تحفظ وديعة الله وإمام عصرها السجاد عليّ بن الحسين عليه السّلام، وأن ترعى العيال وهم جمع من الأرامل واليتامى يتصارخون مما لاقوا.
ثمّ كان عليها عليها السّلام أن تصدع بقصة الطف الرهيبة، تطبّق بها الآفاق. فتبعث الرسائل الحسينية إلى حيث استطاعت، فتنزل بذلك على الحكم الأُموي دمغات ولعنات، وهي ما تزال اللَّبوة الحيدرية، مع جراحاتها البالغة وقد جاوزت الرابعة والخمسين من عمرها، فترى تلك النوازل. ومنها أن يُشهَر أمامها راس أخيها الحسين عليه السّلام، فضربت جبينها بمَقْدم المحمل حتّى سال الدم من تحت قناعها، ثمّ أومات إليه بحرقة:
يا هلالاً لمّا استتمّ كمـالا ما توهّمتُ يا شقيقَ فؤادي غالَه خسفُه فأبدى غروبـا كان هذا مقـدَّراً مكتوبـا
ولم تمض سنة ونصف السنة على واقعة كربلاء وفاجعتها حتّى ضاق البلاط الأُموي بالعقيلة زينب عليها السّلام؛ فهي سفيرة الحسين وراوية قصته قصة الشهادة العظمى بلسانها ونحيبها وجميع حالاتها، فأُبعدت عن موطن جدها، إلى أين ؟ إلى الشام من جديد، حيث ذكريات السبي والدخول وسط الشامتين والمجابهة في قصر الطاغية يزيد، وحيث هناك عُلِّق رأس الشهيد على شجرة أيّاماً مُرّة، فأجهشت، ثمّ شهقت، ثم غصّت غصة الحزن العميق كانت فيها نفسُها الطاهرة الزكية.
فكانت شهيدةَ بيت الوحي أيضاً، لا بسيف ولا برمح ولا سُمّ، ولكن بمصائب عجيبة، فقضت حزناً على حبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم وحباً له وشوقاً إليه. ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو القائل ( من مات على حُبّ آل محمّد مات شهيدا ).
سليلة أحمد.. تلك
بنفسي مَن حَوَت أسمى المزايا ومَن يسمـو الثناءُ بها ويحـلو فإن كثـُرتْ مدائحُها وفاضت هيَ الحوراء زينبُ عن عُلاها ومَن للمَكرُمـات غَدَت خليـلهْ وأجدرُ بالنعـوتِ المستطيـله تُعَدّ بشـأنها السـامي قليـله لَتَقـْصر كلُّ ذاتِ يدٍ طويـله
* * *
سليـلةُ أحمدٍ مَولى المـوالي فمهمـا تبلغ الألبـابُ عِـلماً وكم قد جـاء برهــانٌ جليٌّ وكم قال ابنُ عباسٍ فخـوراً: ألا نِعمتْ لأحمدَ مِـن سليـله فلن تُحصي مواهبَها الجليـله بعصـمتِها وعفّتـها النبيـله عقيلتـُنا.. ويا نِـعمَ العقيـله!
* * *
فكانت في البرايا كنزَ طُهرٍ إليها قد تنـاهى كلُّ فَخْـرٍ ولا عجَبٌ إذا الباري حَباها بها مِن أُمِّها الزهـرا سجايا ومصدرَ كلِّ منقبةٍ جزيـله وفضـلٍ بعد فاطمةَ البتوله صفاتٍ في العقائل مستحيله وشيمةُ حيدرٍ رمزِ البـطوله
* * *
إذا ربُّ الفصـاحةِ قد نمـاهـا كفـاها مفخـراً مُذْ يومَ ألـقَتْ كـأنّ لسـانَـها إذْ ذاك نَصْـلٌ به قد أخرسَتْ نُطْقَ الأعـادي لـقد أدلَـتْ بخُطبتـها معـانٍ فأضحى الجمعُ مندهشاً مَرُوعاً ومَن نشـأت بعِـزٍّ.. مستحيلٌ فقـد وَرِثَتْ فصـاحتَه وقِيـلَه على كوفـانَ خُطبتَها المَهـوله شَباه يفضحُ البـيضَ الصقيـله وردّت منـه أعـينـَهم كليـله بهـا قـد مَثّلت عِـزَّ القبيـله ولاقى كـلُّ ذي لُبّـاً ذُهـولَه أمـامَ الجمـع وقفتـُها ذليـله
* * *
بربِّك مَن كزينبَ فـي البـرايا فيـاللهِ مــا لاقــت وقـاست أتُحمَل فوق ظَهْر العُجْفِ قَسْـراً فأبدتْ بعد يـوم الـطفّ حزمـاً وحِلْماً لا يُقاس بثقْلِ " رضوى " لـوقع النائبـاتِ غَدَت حَمـوله من الأشـرار أربابِ الـرذيـله وفتيتها على الرمضـا جديــله ومـا مـِن حـُرّةٍ أبـدَتْ مثيـلَه مَحـالٌ أن يـَرى رضوى عديلَه
* * *
لقـد وَثِقَ الحسينُ بها لكَـيْمـا وقـد بانت كفـاءتُها لـديــهِ فنـاداها: أزينـبُ أنتِ بعـدي فَجـُلُّ الفادحـات وإن تنـاهت صـلاةُ الله تتـرى كـلَّ حيـنٍ تقـومَ بحمل أعبــاءٍ ثقيــله وأعلن عن بني الـدنيا رحيـله لِحفظِ عـوائلي كـوني كفيـله غَدَتْ في حزمها السامي ضئيله عليها.. ما تلا الشـادي هديـلَه

[في أنها عليها السلام عالمة غير معلّمة] في أنها عليها السلام عالمة غير معلّمة
العلم من أفضل السجايا الإنسانية، وأشرف الصفات البشرية، به أكمل الله أنبياءه المرسلين، ورفع درجات عباده المخلصين، قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(5).
وإنما صار العلم بهذه المثابة لأنه يوصل صاحبه إلى معرفة الحقائق، ويكون سببا لتوفيقه في نيل رضاء الخالق، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) يحثون الأمة على طلب العلم، وكانوا يغذّون أطفالهم العلم كما يغذّونهم اللبن.
أما زينب (عليها السلام) المتربية في مدينة العلم النبوي، المعتكفة بعده ببابها العلوي، المتغذية باللبان الفاطمي من أمها الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها)، وقد طوت عمراً من الدهر مع الإمامين السبطين يزّقانها العلم زّقاً، فهي من عياب علم آل محمد (عليهم السلام) وعلى فضائلهم التي اعترف بها عدوهم الألد يزيد الطاغية بقوله في الإمام السجاد (عليه السلام): (إنه من أهل بيت زقوا العلم زقاً)(6).
وقد نص لها بهذه الكلمة ابن أخيها علي بن الحسين (عليهما السلام): (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة)(7).
وهذا اللقب منحها الإمام زين العابدين (عليه السلام) ووصفها به، وذلك حينما أراد تسليتها وتعزيتها وتكريمها وتزكيتها (عليها السلام) على مرأى من الناس ومسمع، ليعلمهم:
أولا: بالمقام الرفيع الذي وهبه الله تعالى لها (سلام الله عليها)، وليهون من وقع المصائب العظيمة عليها.
ثانياً: فإن الإمام زين العابدين(عليه السلام) لما رأى عمته زينب (عليها السلام) وهي في أسرها تخطب على الجماهير المتجمعة من أهل الكوفة، الذين قد خرجوا للتفرج عليهم، والتفت إلى أنها (عليها السلام) قد استعادت في ذاكرتها كل المصائب العظيمة التي جرت عليها واستعرضت كل انتهاكات القوم أمام مخيلتها، خاف عليها أن تموت حسرة وغصة، فخاطبها قائلا: (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة…)(Cool.
ثم إنه يمكن أن يستفاد من كلام الإمام السجاد(عليه السلام) المزبور في حق عمته زينب (عليها السلام) أموراً:
1: أن السيدة زينب (عليها السلام) كانت قد بلغت هذه المرتبة العظيمة والمقام الرفيع عند الله تعالى وأن مادة علمها من سنخ ما منح به رجالات بيتها الرفيع أفيض عليها إلهاما، لا بتخرج على أستاذ وأخذ عن مشيخة، وإن كان الحصول على تلك القوة الربانية بسبب قابليتها وتهذيبات جدها وأبيها وأمها وأخويها، ولانتمائها إليهم واتحادها معهم في الطينة، فأزيحت عنها بذلك الموانع المادية، وبقي مقتضى اللطف الفياض الإلهي وحده وإذ كان لا يتطرقه البخل بتمام معانيه عادت العلة لإفاضة العلم كله عليها بقدر استعدادها تامة، فأفيض عليها بأجمعه، سوى ما اختص به أئمة الذين (عليهم السلام) من العلم المخصوص بمقامهم الأسمى.
ولولا ذلك لما نعتها ابن أخيها الإمام السجاد (عليه السلام) وهو معصوم بهذا النعت، ولما وصفها بهذه الصفة.
2: إن الإمام (عليه السلام) أراد بكلامه المذكور في حق عمته زينب (عليها السلام) بيان شأنها وإظهار عظمتها.
3: إن الإمام (عليه السلام) أراد أن يشكر عمته زينب (عليها السلام) بكلامه هذا، على ما أسدته (عليها السلام) إليه في كربلاء من خدمة كبرى حيث رأته يجود بنفسه من عظم المصاب فعزته بمصابه وصبرته عليه، فقام(عليه السلام) في الكوفة بعمل مماثل لما قامت به (عليها السلام) تجاهه، إضافة أن من أهم الكمالات النفسية، والمقامات الإنسانية، هو مقام العلم، فإن العلم هو قمة كل شرف، وأفضل كل الملكات، وغذاء الروح، وبه استمرار الحياة المعنوية، وشرفه ذاتي، وهذا ما لا يستطيع أحد إنكاره، إذ علو مقام العلم لا يخفى على أحد.
واعلم إن العلم على قسمين: اكتسابي وموهوبي، وبعبارة أخرى: تحصيلي ولدنّي.
أما الإكتسابي والتحصيلي: فهو أن يسعى الإنسان في طلب العلم ويجّد في تحصيله، وبقدر سعيه وجدّه يستطيع الإنسان أن ينال من درجات العلم وينتفع من بركاته.
وأما الموهوبي واللدنّي: فهو العلم الذي يمنحه الله تعالى خالق الإنسان بعض عباده ممن له أهلية ذلك، ويقذفه في قلب من هو كفو لها، وذلك من غير تجشم عناء التعليم، ولا تحمل أتعاب التحصيل، فبعض يلهمه الله تعالى العلم إلهاماً غيبياً ومن دون واسطة، وبعض يلهمه بواسطة الملائكة ويريه الملائكة أيضاً ويسمى بالوحي، وبعض لا يريه الملائكة ويسمى هذا الذي يوحى إليه بواسطة الملائكة ولا يرى الملائكة بالمحدّث، ولكل مقام خاص ودرجة خاصة تتفاوت رفعة وعلواً.
والحصول على هذه المقامات الرفيعة من العلم اللدني صعب جدا، ولا يتسنى لأحد من الناس الوصول إليها إلا للأنبياء و الرسل، والأوصياء والأولياء.
ثم إن الأنبياء و الرسل و الأوصياء و الأولياء الذين هم وحدهم المختصون بالعلم اللدني يكونون بالنسبة إلى هذا العلم على درجات، فمنهم من قد حاز على درجة منه، و منهم على درجتين، ومنهم على ثلاث درجات، والذي قد حاز على كامل الدرجات وأعلى المراتب، هو أكمل المخلوقات، وأشرف الكائنات، سيد الأنبياء وأشرف المرسلين، حبيب إله العالمين، محمد وأهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).
والسيدة زينب (عليها السلام) هي من هذا البيت الرفيع: بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي، فلا عجب أن تكون قد نالت درجة الإلهام فهي إذن ملهمة بصريح كلام ابن أخيها الإمام السجاد (عليه السلام) حين قال لها: (يا عمة … أنت بحمد الله عالمة غير معلمة) إذ لا يكون العلم بلا تعلّم إلا عن طريق الإلهام.
وقد ظهر من السيدة زينب (عليها السلام) ما يدل على علمها وفهمها وذلك في مواقع و مواقف:
ما كان منها (عليها السلام) حينما كانت حاضرة عند أبيها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وقد أجلس العباس (عليه السلام) وهو صبي في حجره وقال له: قل واحد.
فقال: واحد.
فقال له: قل اثنين، فامتنع وقال: إني استحيي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحدا،
وهنا التفتت زينب (عليها السلام) إلى أبيها وكانت هي أيضا صغيرة وقالت: أتحبنا يا أبه؟.
فأجابها أمير المؤمنين (عليه السلام) برأفة: بلى يا بنية.
فقالت: لا يجتمع حبان في قلب مؤمن حب الله وحب الأولاد، وإن كان ولابد فالحب لله تعالى والشفقة للأولاد، فأعجبه (عليه السلام) كلامها وزاد في حبه وعطفه عليها).
وإذا تأمّل هذا الكلام المتأمل رأى فيه علماً جماً، فإذا عرف صدوره من طفلة كزينب (عليها السلام) يوم ذاك، بانت له منزلتها في العلم والمعرفة.
وما كان منها: في زمن أبيها أمير المؤمنين(عليه السلام) من مجلس درسها في الكوفة، فقد جاء في بعض المصادر أنها (عليها السلام) كانت تدير في بيتها أيام خلافة أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) الظاهرية في الكوفة مجلساً نسائياً يحضره نساء أهل الكوفة تفسّر لهن فيه القرآن، وقد كان درسها في أحد الأيام تفسير قوله تعالى (كهيعص)(9) وفي الأثناء دخل عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) واطلع على موضوع تفسيرها، فقال لها بعد ذلك: نور عيني زينب سمعتك تفسّرين قوله تعالى: (كهيعص)(10) للنساء، فقالت: نعم يا أبه فدتك ابنتك.
فقال لها: يا نور عيني إن هذه الآية الكريمة ترمز الى المصائب التي سوف ترد عليكم أهل البيت، ثم ذكر لها بعض ما سيجري عليهم من المصائب والرزايا فضجت السيدة زينب (عليها السلام) بالصراخ والعويل وأجهشت بالبكاء والنحيب، وهذا منها (عليها السلام) مع أنه كان فقط تذكاراً لعلمها بما سيجري عليهم، يدل على عظم المصاب وشدة وقعه، فكيف بها (عليها السلام) وهي تواجه كل تلك المصائب العظيمة والرزايا الجليلة وجها بوجه.
وما كان منها: في نيابتها الخاصة عن الحسين (عليه السلام) حيث كان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (عليه السلام) من مرضه. كما رواه الصدوق محمد بن بابويه.
وما كان منها (عليها السلام): عند ما مروا بالأسرى على قتلاهن، فإنها (عليها السلام) صاحت من بين كل السبايا قائلة: (يا محمداه ! هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتّلة) فأبكت كل عدو و صديق حتى جرت دموع الخيل على حوافرها، ثم بسطت يديها تحت بدنه المقدس ورفعته نحو السماء وقالت: (إلهي تقبل منا هذا القربان)(11).
وهذا ما لا يستطيع قوله إلا مثل زينب (عليها السلام) العالمة غير المعلمة، والتي كانت قد تعهدت لله تبارك وتعالى أن تشارك نهضة أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) وتكون معه جنبا إلى جنب:
وتشاطرت هي والحسين بدعوة حتـم القضاء عليهما ان يندبا
هذا بمشتبك النصول وهـذه في حيث معترك المكاره في السبا
وما كان منها (عليها السلام): عند ما رأت ابن أخيها الإمام السجاد(عليه السلام) ـ وهو إمام الصبر ومعلمه ـ يجود بنفسه لما نظر إلى أهله كالأضاحي مجزرين وبينهم ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحالة تنفطر لها السماوات، وتنشق الأرض، وتخر منه الجبال هدّاً، فقالت له تسلّيه وتصّبره قائلة: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي و أخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدّك و أبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة، والجسوم المضرّجة، فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس اثره، ولا يمحى رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر، وأشياع الضلال في محوه و تطميسه، فلا يزداد إلا علواً)(12).
وقد تحقق كل ما قالته (عليها السلام) مع أنها أمور غيبية لا يطلع عليها أحد إلا من كان ملهماً من الله تعالى.
وما كان منها: ما أشار إليه الفاضل الدربندي وغيره: أنها عليها السلام كانت تعلم علم المنايا والبلايا، بل جزم في (أسراره) أنها (صلوات الله عليها) أفضل من مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وغيرهما من فضليات النساء، ومن نظر في (أسرار الشهادة) رأى فيه من الاستنباطات والتحقيقات في حق زينب (صلوات الله عليها) ما هو أكثر بكثير.