سيرة حياة بطلة كربلاء السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) ج 2


في أنها (ع) العابدة والمنقطعة إلى الله تعالى
العبادة: من العبودية وهي غاية الخضوع والتذلل، وإن من أسرار تشريع العبادة وعللها: الشكر لله تعالى على نعمه الكثيرة التي لا تحصى، ومواهبه العظيمة التي لا تعدّ ولا تدرك عظمتها.
فإنه تعالى هو المنعم المطلق الذي خلق الإنسان بقدرته، ومنحه نعمة الوجود بعد أن لم يكن شيئا مذكوراً، ورزقه من النعم ما لا يعد ولا يحصى، فهو تعالى أهل لأن يعبد، وإنما يعبده الأحرار لأنه أهل للعبادة كما قال الإما م أمير المؤمنين(عليه السلام): (الهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)(13) وتلك هي عبادة الأحرار.
نعم، بالعبودية لله تعالى يتحرر الإنسان من عبودية ما سوى الله، كما أن بالعبودية لله تعالى ينال الإنسان المقامات الرفيعة والجاه العظيم عند الله سبحانه، وأن مقام كل مقرب عند الله يكون بقدر عبوديته وعبادته لله تعالى.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي الليل كله، ولقد قام (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه و اصفر وحهه، فأنزل الله عليه: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(14).
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أو لا أكون عبدا شكورا)(15).
وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، ولم يترك النافلة حتى في الحروب، كما روي عنه في صلواته ليلة الهرير بصفين.
وكذلك كانت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) تصلي عامة الليل، فإذا اتضح عمود الصبح أخذت تدعو للمؤمنين والمؤمنات.
وكان الأئمة من ولدها (صلوات الله عليها) يضرب بهم المثل في العبادة.
أما زينب (صلوات الله عليها) فلقد كانت في عبادتها ثانية أمها الزهراء (عليها السلام)، وكانت تقضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن.
وإنها (صلوات الله عليها) ما تركت تهجدها لله تعالى طول دهرها، حتى ليلة الحادي عشر من المحرم.
فقد روي عن زين العابدين(عليه السلام) أنه قال: (رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس).
وعنه (عليه السلام) أنه قال: (إن عمتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا الى الشام ما تركت نوافلها الليلية).
وفي مثير الأحزان: قالت فاطمة بنت الحسين(عليه السلام): (وأما عمتي زينب فانها لم تزل قائمة في تلك الليلة ـ أي: العاشرة من المحرم ـ في محرابها تستغيث الى ربها، فما هدأت لنا عين، ولا سكنت لنا رنة).
وروى بعض عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنه قال: (إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة الى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع و الضعف منذ ثلاث ليال، لانها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لان القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفا واحدا من الخبز في اليوم و الليلة).
فاذا تأمل المتأمل إلى ما كانت عليه هذه الطاهرة من العبادة لله تعالى والانقطاع إليه لم يشك في عصمتها (صلوات الله عليها).
فاعلم: ان العصمة وسام عظيم، ودرجة راقية، ومقام شامخ، اختص به خواص عباد الله من الأنبياء والاوصياء، علما بأن العصمة لغة: الحفظ والوقاية، والمنع والإباء، واصطلاحا: قوة معنوية، وملكة ربانية يهبها الله من يشاء من عباده يحفظه بها من الخطأ و الزلل، والسهو و النسيان، وذلك على وجه لا يسلب منه الاختيار الذي هو من لوازم التكليف.
وحكمة منح العصمة ـ هذه الموهبة الإلهية ـ للأنبياء و أوصياء الانبياء، ان الله تعالى لما خول أنبيائه و أوصيائهم حقه، وفوض إليهم ولايته، وجعلهم بالمؤمنين أولى من أنفسهم، وامر الناس باطاعتهم والانقياد لهم، كان من اللازم تزويدهم بالعصمة، وحفظهم بها من الخطأ و الزلل، والسهو و النسيان، فاذا لم يكن النبي أو الإمام حائزا على العصمة، لاحتمل الاشتباه والنسيان، والزيادة والنقصان فيما يبلغه النبي عن الله تعالى، والإمام عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذلك تنعدم الثقة والاطمئنان، وتبطل الشرائع والأديان، وحاش لله تعالى ان يُخلّ بدينه و يُبطل آياته و حججه.
واعلم: ان العصمة على مراتب ودرجات، وقد جعل الله تبارك وتعالى اعلى درجات العصمة واسمى مراتبها خاصا برسوله الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطيبين الطاهرين(عليهم السلام) حيث قال تعالى:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا)(16).
ولما كانت السيدة زينب (عليها السلام) عقيلة خدر الرسالة من سلالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته، وقد هذّبت نفسها وروضتها على العبادة والتقوى، والخير والإحسان، تأهلت لان تنال حظاً من العصمة المعبر عنه بـ: العصمة الصغرى، وقد أشار الى ذلك الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض كلامه لها، كما وأشارت هي (عليها السلام) الى ذلك في بعض خطبها.

مواقف كمواقف أمها الزهراء (عليهما السلام)
لقد أشبهت زينب (عليها السلام) في احتجاجها على يزيد وابن زياد احتجاج أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في قصة فدك، وقضية خلافة بعلها أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث بذلك بان كبير فضلها، وغزارة علمها، ووفور عقلها، وكثرة فهمها، وحسن معرفتها بالأحكام والقرآن، مما لم يتسنى لأحد الا لمن هو ملهم من عند الله تعالى.
ونابت (عليها السلام) أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مهمة الإبقاء، وقامت مقامها ـ وبأحسن وجه ـ لأداء دور المشاركة في هذه المهمة، ويشهد لذلك مواقفها البطولية المشرفة من بدء قيام أخيها الإمام الحسين(عليه السلام) باعباء الإمامة حتى شهادته (عليه السلام) وخاصة من بدء نهضته (عليه السلام) حتى انتهاء قضايا السبي والأسر، والرجوع ببقايا حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى المدينة، ومنها حتى ارتحالها من هذه الدنيا الى الدار الآخرة.
ففي كل هذه المدة الطويلة والفترة العصيبة قامت السيدة زينب (عليها السلام) مقام امها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في دور المشاركة ونابت عنها في مهمة الإبقاء وقدمت في سبيل ذلك كل ما قدمته، حتى لقبت بكونها: نائبة الزهراء (عليها السلام ).
فكما ان الام شاركت زوجها و إمامها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في مهمة الإبقاء، وقدمت نفسها ضحية، ودمها وقاءا، ومحسنها قربانا، ليبقى الإسلام على نزاهته و قدسيته، وطهارته وبرائته مما ارتكبه المتقمصون للخلافة ومما فعله الغاصبون لفدك باسم الإسلام.
فكذلك البنت شاركت أخاها وإمامها الإمام الحسين (عليه السلام) في مهمة الإبقاء، وقدمت ما قدمت لتصون نزاهة الإسلام، وتحفظ قدسيته وطهارته مما ارتكبه الطلقاء وأبناء الطلقاء من تشويه وتمويه، وجرائم وجنايات ضد الإسلام، باسم الإسلام.
ولكن هذه المرة كان القربان هو الإمام الحسين (عليه السلام) وزينب (عليها السلام) شاطرته بتقديم نفسها اسيرة، ودم ولديها وقاءا، وراحت في موكب السبي من كربلاء الى الكوفة ومنها الى الشام لتبلّغ دم الشهيد حتى في قصور الظالمين، وتوصل اهداف الشهادة الى العالم اجمع، والى كل الأجيال على مدى التاريخ ومر العصور والزمان.
ولولا مشاطرتها وتحملها في سبيل الله ما تحملته من البلايا والرزايا، والمصائب والمحن لأبطل بنو امية دم الإمام الحسين(عليه السلام) ومحوا أثره، ولاستطاعوا بعد ذلك من اجتثاث جذور الإسلام والقضاء عليه بالمرة، اذ ورثة المتقمصين للخلافة الطلقاء، وابناء الطلقاء كانوا قد عرّفوا أنفسهم ـ كذبا وزورا ـ بأنهم أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، وصوروا بان جرائمهم وجناياتهم هو انعكاس عن الإسلام الصحيح، وكان بيدهم السيف والسوط، والدعاية والتبليغ وقد سخروها جميعا لتثبيت سلطانهم، فكانوا بسوطهم وسيفهم يقمعون الأحرار، وبدعاياتهم وإعلامهم يضللون الجماهير، فلم يكن احد من الناس يجرأ على مناجزتهم ومجابهتهم، وكشف زيفهم وزيغهم، وبيان كذبهم وغدرهم، والتنديد باستبدادهم ودكتاتوريتهم، وفضح تآمرهم على الله ورسوله، وعدائهم للإسلام والمسلمين، سوى الإمام الحسين(عليه السلام)، وذلك بأغلى ثمن وحتى بمثل سبي حرم رسول الله وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ووطنت السيدة زينب (عليها السلام) نفسها على كل ذلك وتلقته بصدر رحب وبوجه منبسط، وشاطرت أخاها الإمام الحسين(عليه السلام) في البقاء على الإسلام وطهارته ونزاهته، وأبلغت صوته (عليه السلام) الى مسامع التاريخ وفي أذان الأجيال حيث قال الشاعر عن لسان الإمام (عليه السلام):
ان كان دين محمد لم يستقم الا بقتلي يا سيـــوف خذيني
ثم ان السيدة زينب (عليها السلام) مع علمها بما يجري عليها وعلى موكب كربلاء من بلايا ورزايا في هذه الرحلة، شاركت أخاها الإمام الحسين(عليه السلام) في سفره هذا مشاطرة له همومه، وهي مسرورة على انها في خدمة أخيها وإمامها، ومبتهجة بذلك، وكانت للسيدة زينب (عليها السلام) في المنازل التي مروا بها في الطريق وكذلك في كربلاء مواقف أخوية صادقة، وقضايا شجاعة وهامة، ومصائب عظيمة و مؤلمة منها:
انها (عليها السلام) قدّمت ولديها: محمدا وعونا وألبستهما لباس الحرب، وأمرتهما بنصرة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ومجاهدة أعدائه وتفدية أنفسهما من اجله، فتقدم بين يدي الإمام الحسين(عليه السلام) اولاً محمد بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب (عليه السلام) وأخذ يقاتل وهو يترجز ويقول:
نشكو الى الله من العدوان قتال قوم في الورى عميان
قد تركوا معالــم القــــرآن ومحـــكم التنزيل و التبيـان
وأظهروا الكفر مع الطغيان
فقاتل بين يدي إمامه قتال الأبطال حتى قتل عشرة من الأعداء، قتله بعدها عامر بن نهشل التميمي.
ثم برز بعده أخوه عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)وهو يرتجز ويقول:
ان تنكروني فانا بن جـــعفر شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجناح أخــــضــر كفى بهذا شرفا في المحشـر
ثم كرّ على الأعداء، وجدل الصناديد والأبطال وقاتل قتالا شديداً حتى قتل جمعاً من الفرسان ومن الرجالة، فشد عليه حينئذ عبد الله بن بطة الطائي فقتله، وقيل: قتله عبد الله بن قبطنة التيهاني.
نعم، قدمت السيدة زينب (عليها السلام) بين يدي أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ولديها وفلذتي كبدها عونا ومحمدا بكل إخلاص، واحتسبتهما لله، ولم تذكرهما في شيء من مراثيها، ولم تنوّه باسمهما، ولم تتطرق الى شيء يخصهما أو يذكّر بشهادتهما، ولم تخرج حتى عند شهادتهما حين سقطا على الأرض، كل ذلك تجلدا منها وصبراً، وتفانياً منها ومواساة، كي لا تمن على أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) بهما، ولا يمس اخاها الضرّ من اجلهما، ولا ترى آثار العسر و الحرج في وجه أخيها بسبب شهادتها.
فانها من شدة معرفتها بامامها كانت ترى كل شيء ـ حتى شهادة فلذتي كبدها ـ في قبال الإمام الحسين (عليه السلام) صفرا، وتجاهه صغيرا ضئيلا، كما انها كانت ترى أسرها وسبها كذلك، مع أنه كان من الصعب عليها جداً أن ترى نفسها في البلد الذي كان يتسابق من أجل الوصول الى خدمتها نساء الأعيان والأشراف، ان تكون الآن فيه اسيرة بيد الأعداء يسوقونها مسبّية الى ابن زياد.

[المرأة الثانية من الأولين والآخرين]

المرأة الثانية من الأولين والآخرين
ان الذي يستفاد من الأخبار و الروايات هو: ان لمحبة الإمام الحسين(عليه السلام) ومودته ـ رغم وجوبها على كل مسلم ـ امتيازات خاصة تميّزه عن محبة غيره، ففي الحديث الشريف: (ان للحسين (عليه السلام) في قلوب المؤمنين محبة مكنونة). وفي حديث آخر: ( احب الله من أحبّ حسينا)(17) وغير ذلك مما يشير الى ان محبة الإمام الحسين (عليه السلام) هي في مقدمة الطاعات والعبادات، بل فوق كثير منها، ولها أجر خاص ليس لغير محبته (عليه السلام) من العبادات والطاعات مثل اجرها.
كيف لا يكون كذلك وقد قدّم الإمام الحسين (عليه السلام) في محبة الله كل شيء حتى نفسه الزكية، وضحّى من أجل محبة الله كل ما عنده حتى طفله الرضيع؟.
وبتضحياته العظيمة، استطاع (عليه السلام) تثبيت محبة الله في قلوب المؤمنين جيلا بعد جيل، حتى صار حبه طريقا الى محبة الله تبارك وتعالى؟.
ولذلك نرى ان جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبه، وأباه أمير المؤمنين (عليه السلام) يحبه، وأمه الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحبه، وكل المعصومين (عليهم السلام) يحبّونه، ويبالغون جميعهم في حبّه مما يتجاوز حبهم له عن حب الأبوة والبنّوة وحب القرابة والأخوة، فان كل ذلك الحب انما هو لان حبه (عليه السلام) فوق كل الطاعات والعبادات.
ثم ان محبة السيدة زينب (عليها السلام) ومودتها، كمحبة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ومودته، من أعظم الطاعات والعبادات، ومن افضل القربات الى الله تعالى، كيف لا، وقد بلغت في محبة الله وكذلك في محبة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) مقاما رفيعا لا يمكن لأحد تصوره.
فان فاطمة الزهراء (عليها السلام) ورّثت ابنتها الوفية: السيدة زينب ابنة علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، كل خصالها الخيرة، وجميع صفاتها الحميدة، والتي على رأسها الحفاظ على حدود الله تعالى وحرماته، وصون كرامة رسول الله المصطفى وأهل بيته.
وعلمتها كيف تقف امام المعتدين وتندد بهم، وتشجب أعمالهم، وتحاججهم بكتاب الله، وتخاصمهم بالعقل والمنطق السليم.
وأوصتها بأن تجود بالبذل والعطاء فيما لو استدعى وقوفها بوجه المعتدين الى الفداء والتضحية، حتى ولو كان بالنفس، بل واصعب منه وهو السبي والأسر، لأن السبي والأسر أمرّ من الموت والقتل على الإنسان الغيور.
وكذلك فعلت السيدة زينب (عليها السلام) فقد عملت بوصية امها كاملة، وطبقتها حرفيا، وأقرت عين أمها بمواقفها الشجاعة، وحافظت بقيمة أسرها وسبيها على حدود الله وحرماته، وصانت قدسية جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكرامة أهل بيته (عليهم السلام) من اكاذيب وتهم بني أمية و افتراءاتهم.
وهذا الذي فعلته السيدة زينب (عليها السلام) لم يفعله غيرها وغير أمها (عليها السلام) من النساء العظيمات، ولم تقدم واحدة منهن للدين مثل ما قدمته فاطمة الزهراء (عليها السلام) وابنتها زينب (عليها السلام). كما لم تؤثر واحدة منهن في بقاء الدين وأهله، نزيهاً ومباركاً بقدر التأثير العظيم الذي أثرته فاطمة الزهراء (عليها السلام) وابنتها زينب (عليها السلام)، مما يكشف عن أن السيدة زينب (عليها السلام) هي المرأة الثانية في العالم من الأولين والآخرين بعد امها.
ثم هي، ثم بقية النساء العظيمات كخديجة الكبرى، ومريم العذراء، وذلك لان فاطمة الزهراء (عليها السلام) اضافة الى تفوقها في حفظها حدود الله وحرماته قد جمعت في نفسها كل خصال الخير، وجميع صفات الكمال التي تحلت بها النساء العظيمات قبلها، ثم ورثتها ابنتها الوفية السيدة زينب (عليها السلام)، فصارت السيدة زينب (عليها السلام) الوارثة لكل الكمالات لمن كان قبلها، مزدانة بعلو نسبها، وشرف فرعها واصلها: شجرة خاتم الأنبياء ودوحة سيد الأوصياء، وثمار أهل البيت (عليهم السلام).

ولادتها ونشأتها
ازدهرت حياة الاُسرة النبوية بالسبطين الكريمين الإمامين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم، الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه، وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً، فكان يرعاهما برعايته، ويغدق عليهما بإحسانه ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود.
لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه، فكان يقول: (هما ريحانتي من الدنيا)(18).
وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران فنزل عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه وقال: (صَدَقَ الله إذ يقول: (واعلموا أما أموالكم وأولادكم فتنة)(19) لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)(20).
وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام): (ادعى ابني فيشمّهما، ويضمّهما إليه)(21).
وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبوية وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، أمّا ذلك الحمل فهو:
الوليدة المباركة
ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين على وليدته المراسيم الشرعية، فإذّن في أُذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.
لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو: (الله أكبر، لا إله إلاّ الله) وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان.
وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوماً من مقوماتها.

وجوم النبي وبكاؤه
وحينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس، فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: (ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عيناً). فأجابها بصوت حزين النبرات: (يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا)(22).
لقد استشف النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، وسوف تمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء. ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبوية يهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة فألفاه حزيناً واجماً، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(23)، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم.
تسميتها وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له:
(سمّ هذه المولودة).
فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضعٍ: (ما كنت لأسبق رسول الله).
وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال: (ما كنت لأسبق ربّي).
وهبط رسول السماء على النبي، فقال له: سمّ هذه المولودة (زينب)، فقد اختار الله لها هذا الاسم.
وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(24).

كنيتها

وكنيت الصدّيقة الطاهرة زينب بـ(اُمّ كلثوم)، وقيل: إنها تكنى بـ(اُمّ الحسن)(25).