الدعوة العلنيـّة ومواجهة قريش 
((الغزوات والحروب))
بداية الدعوة العلنيّة
بعد مدّة من بدء الرسول صلى الله عليه واله وسلم للدعوة السرِّيَّة إلى الإسلام، وبعد بناء القاعدة الصلبة للدعوة المتمثِّلة بأولئك الروّاد الأوائل من المسلمين الذين انتموا للإسلام في أيّام غُرْبَته، تلقّى النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم أمراً من الله تعالى بالمجاهرة بالدعوة وعدم الخوف من المشركين: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾1.

فأظهر أمره وقال: "إنّي رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ، ولا تخلق ولا ترزق ولا تُحيي ولا تُميت"2.
ومنذ ذلك الوقت دخلت دعوة الرسول صلى الله عليه واله وسلم مرحلة جديدة؛ إذ أخذ يدعو إلى التوحيد في التجمُّعات وفي موسم الحجّ في منى وبين القبائل المجاورة لمكّة.

محاولات قريش
كان ردّ فعل قريش أمام جهره صلى الله عليه واله وسلم بالدعوة، أن أدبروا عنه وتنكّروا لدعوته خصوصاً بعدما ذكر آلهتهم وعابها. وبما أنّ النظام القبليّ الذي كان سائداً في مكّة، كان يعني أنّهم لو تعرّضوا لمحمّد صلى الله عليه واله وسلم لواجهوا خطر الانتقام من بني هاشم، لهذا لجأوا إلى المحاولات التالية، وذلك بأسلوب مُتدرِّج:

1 ـ استغلال نفوذ: عمّه أبي طالب وما يكنّه النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم من احترام له لمنعه صلى الله عليه واله وسلم من مواصلة دعوته، والطلب إليه بالتوقُّف عن سبّ آلهتهم وتقبيح ديانتهم.
2 ـ الترغيب والترهيب: التعامل مع أبي طالب بالتهديد تارةً، وبعرض المال والثروة والرئاسة تارةً أخرى. وبعدما يئسوا من الحصول على النتيجة المطلوبة، عرضوا على أبي طالب أن يعطوه عمارة بن الوليد ـ وكان أجمل وأقوى وأشعر فتى في قريش ـ وأن يُسلِّمهم في مقابل ذلك محمّداً صلى الله عليه واله وسلم ليقتلوه، فرفض أبو طالب ووبّخهم بقوله: "لبئس ما تسومونني عليه، أتُعطوني ابنكم أغذوه لكم وأُعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً". وجاؤوه مرّة وهدّدوه بالقتل هو وابن أخيه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلّا أن قال: "والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتّى يُظهِرَه الله أو أهلك فيه، ما تَركتُه"3 .

3 ـ مفاوضة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم ومساومته مباشرة: عن طريق إغرائه بالمال والجاه، ولكن النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم رفض عرضهم؛ لأنّه لا طمع له بالمال والسلطان.
4 ـ نهي الناس عن الالتقاء بالنبيّ صلى الله عليه واله وسلم: والاستماع إلى ما يتلوه من قرآن. وقد تحدّث القرآن عن ذلك: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾4.

5 ـ التعرُّض لشخص النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بالإيذاء المباشر: فرجموا بيته بالحجارة، وألقوا التراب على رأسه، ووضعوا الأشواك في طريقه وأمام داره. حتّى قال صلى الله عليه واله وسلم: "ما أُوذي نبيّ مثل ما أُوذيت" 5.
6 ـ اتّباع سياسة الإرهاب والتعذيب: والتنكيل بالصفوة المؤمنة.

7 ـ مواجهة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم: بالتكذيب، والسخرية، والاستخفاف والاستهزاء، ورميه بأنواع التهم من قبيل ساحر ومجنون، وأنّه يُفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجه، وعشيرته. ﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾6. واتّهموه بأنّه يتعلّم عند رجل نصرانيّ اسمه جبر.

وقد ردّ عليهم القرآن بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾7.

ولادة السيّدة الزهراء عليها السلام
وُلدت السيّدة فاطمة عليها السلام على أَشْهَر الأقوال في السنة الخامسة للبعثة في مكّة، وكانت أصغر أولاد الرسول صلى الله عليه واله وسلم من زوجته خديجة، وبعد الهجرة تزوّجت من الإمام عليّ عليه السلام في المدينة. وكانت قد شهدت منذ صغر سنّها جهاد أبيها المشركين وصراعه معهم.

الحصار في شعب أبي طالب
بعد مواقف الصمود تجاه قريش من قبل النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم ومن معه، قرّرت قريش مقاطعة بني هاشم، وفرض حصار اجتماعيّ واقتصاديّ عليهم، وهو ما عُرِف بحصار الشعب، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة وكتبوا وثيقة اتفقوا فيها على البنود التالية:

1 ـ أن لا يُزوِّجوا أحداً من نسائهم لبني هاشم، وأن لا يتزوّجوا منهم.
2 ـ أن لا يبتاعوا منهم شيئاً، ولا يبيعوهم شيئاً مهما كان نوعه.
3 ـ أن لا يجتمعوا معهم على أمرٍ من الأمور.
4 ـ أن يكونوا يداً واحدة على محمّد وأتباعه 8.

قدّرت قريش أنّ هذا الحصار سيؤدّي إلى أحد ثلاثة أمور:
إمّا قيام بني هاشم بتسليمهم النبيّّ ليقتلوه، وإمّا أن يتراجع النبيّّ عن الدعوة، وإما القضاء عليه وعلى جميع من معه جوعاً وعطشاً تحت وطأة الحصار.
استمرّ الحصار ثلاث سنوات، من السنة السادسة حتّى التاسعة للبعثة، وكان المسلمون خلاله يُنفقون من أموال خديجة وأبي طالب، حتّى نفدت واضطروا إلى أن يقتاتوا بورق الشجر، ولم يكونوا يجسرون على الخروج من شعب أبي طالب إلّا في موسم العمرة في رجب، وموسم الحجّ في ذي الحجّة، فكانوا يشترون حينئذٍ ويبيعون ضمن ظروفٍ صعبة جدّاً9.

وكان الإمام عليّ عليه السلام أثناء هذه المحنة يأتيهم بالطعام سرّاً من مكّة من حيث يُمكِن.
وكان أبو طالب يحرس النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بنفسه؛ خوفاً من أن يتسلّل أحد من المشركين إليه ويغتاله على حين غفلة، بل كان إذا حلّ الظلام ينقل النبيّّ من المكان الذي عَرف أهل الشعب أنّه بات فيه، إلى مكانٍ آخر، ويجعل ابنه عليّاً عليه السلام في مكان النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم حتّى إذا حصل أمرٌ أُصيب ولده دونه.

وانتهى الحصار بعدما أكلت الأرضة ما في صحيفة المشركين التي تعاقدوا فيها على الحصار، وقيام جماعة منهم ممّن تربطهم ببني هاشم علاقات نسبيّة


بنقض الصحيفة وإلغاء مفاعيلها، ومنهم من كان من الموقِّعين على الصحيفة، وبذلك عاد بنو هاشم إلى مساكنهم10. وكان النبيّ صلى الله عليه واله وسلم قد أخبر بأمر الصحيفة بواسطة أبي طالب، وهي من كراماته صلى الله عليه واله وسلم حيث نزل عليه جبرئيل بأمرٍ من الله تعالى يُخبره بما جرى على الصحيفة.


عام الحزن
في السنة العاشرة للبعثة، وبعد خروج بني هاشم من الشعب بمدّة قصيرة، تُوفّيت خديجة، وبعدها بمدّة قصيرة تُوفّي أبو طالب11. فعَظُم ذلك على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم واشتدّ حزنه، وبوفاة هذين الشخصين اللّذين كانا عضداً وحرزاً وناصراً تتابعت عليه المصائب.


فخديجة بالنسبة للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم كانت ضمن نطاق البيت والأسرة الزوجةَ الوحيدةَ الحنون والمضحّية والحريصة، وكانت وزيرة صدق على الإسلام، وكان يسكن إليها. وبقي صلى الله عليه واله وسلم إلى آخر عمره يُكرم مثواها، ولا ينسى سبقها في الإسلام وما تحمّلته من مشقّة ومكابدة في سبيل الدين، حتّى قال فيها: "ما أبدلني الله خيراً من خديجة؛ لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذبني الناس، وواستني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً"12 .

أمّا أبو طالب فهو الذي رعى النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم وتولّاه في طفولته وصباه، وكان الذّابّ والمدافع عنه في عهد رسالته، فكان يقف كالسدّ العظيم أمام أحقاد المشركين وعدوانهم، ولمّا تُوفّي نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، واجترؤوا عليه حتّى قال صلى الله عليه واله وسلم: "ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتّى مات أبو طالب" 13.

ولا شكّ بأنّ أبا طالب مات مُسْلِماً، وإن كان قد أخفى إسلامه كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ مثل أبي طالب كمثل أصحاب الكهف؛ أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرّتين" 14.
ولم تكن المساعي المحمومة التي بذلها بعض الناس من أجل إثبات كفر أبي طالب إلّا بسبب دوافع سياسيّة، وللانتقاص من مكانة الإمام عليّ عليه السلام، وإثبات ولادته من أبٍ كان يعبد الأصنام، حتّى وإن كان هو أوّل الناس إسلاماً. فلا جريرة لأبي طالب سوى أنّه والد عليّ عليه السلام.

الإسراء والمعراج
اختلف المؤرّخون في تأريخهما ما بين السنة الثانية من البعثة حتّى السنة العاشرة، ولكن الذي نقطع به أنّه حصل قبل وفاة أبي طالب والسيّدة خديجة.

وبحسب النصوص فقد أُسري بالرسول صلى الله عليه واله وسلم من مكّة إلى بيت المقدس، بمعجزةٍ خارقة للعادة، ثمّ عُرج به من هناك إلى السماوات بقدرة الله تعالى. وكان الهدف من هذين السفرين مشاهدة علائم وآيات عظمة الله في الكواكب والسماوات، ولقاء الملائكة وأرواح الأنبياء، ورؤية مشاهد الجنّة والنار، ودرجات أهل الجنّة والنار وما شابه ذلك.

وقد وصف الله تعالى الإسراء بقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾15.


قال تعالى في المعراج بعد بيان المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه واله وسلم: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾16.
ويرى علماء الإماميّة أنّ معراج النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم حصل بالروح والجسد معاً، وليس بالروح فقط. ودليلهم هو تصريح الآيات بلفظ العبد ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾17، والعبد يُطلق على الروح والجسد، وقوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾18 فالرؤية البصريّة تُطلق على رؤية الجسد دون رؤية الروح فقط، فضلاً عن أنّه لو كان بالروح فقط لما خرج أبو طالب والهاشميّون في طلبه صلى الله عليه واله وسلم19.

الإســــراء
من المسجد الحرام (مكّة)
إلى المسجد الأقصى (القدس)

الخلاصة
عندما بدأت الدعوة العامّة والعلنيّة لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم أخذ الملأ من قريش يُخطِّطون لتحجيم الرسول صلى الله عليه واله وسلم وحركة الرسالة، وانتقلت المواجهة من الحرب الباردة إلى حربٍ ساخنة تمثّلت بالاضطهاد، حتّى القتل والتهجير والحصار الشامل من أجل الإبادة التامّة.

فَشِل مخطّط الحصار للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، ومن معه في شعب أبي طالب، وانتهى الأمر بانتصار النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وخروجه مع أصحابه من الحصار بعد سنوات مريرة.

انتهى الحصار وانتهت بذلك أيّام حياة سنَدَين عظيمين للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في دعوته وهما: زوجته الوفيّة خديجة، وعمّه أبو طالب، وسمّى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذلك العام بعام الحزن.
في مكّة المكرّمة، كرّم الله تعالى نبيّه بمعجزةٍ لم تكن لأحد من الأنبياء، وهي معجزة الإسراء والمعراج، وكان ذلك بروح النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم وجسده معاً.

*دروس من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- الحجرات: 94 ـ 95.
2- الطبرسي، إعلام الورى، دار الكتب الإسلاميّّة، طهران، ط3, ص39.
3- المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص185.
4- فصّلت، الآية:62.
5- المجلسي، بحار الأنوار، ج39، ص55.
6- سورة ص: الآية:103
7- النحل: 103.
8- ابن هشام، السيرة النبويّة، ج1، ص375.
9-ابن الاثير، الكامل في التاريخ،ج 2، ص87.
10- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص31 ـ 32.
11-ابن الاثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص90.
12- ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 4، ص287 (في حاشية الإصابة).
13- ابن شهر أشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 1، ص167.
14- الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص448.
15- الإسراء: 1.
16- النجم: 18.
17- النجم: 10.
18- النجم: 17.
19- المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص290.