البراءة من المشركين ومواجهة المنافقين‏ 
((الغزوات والحروب))
عام الوفود وتصفية الوثنيّين
كان سقوط مكّة بأيدي المسلمين ثمّ هزيمة التحالف الوثنيّ في حُنَيْن، آخِر ضربتين حاسمتين للوجود الوثنيّ في الجزيرة، انهار بعدها جدار الكفر وانطلقت حركة الإسلام بسرعة إلى كلّ مكان. وأدركت القبائل العربيّّة أن لا مناص لها من تحديد موقفها من الإسلام ودولته، فراحت تتسابق في إرسال وفودها إلى قاعدة الإسلام - مدينة الرسول صلى الله عليه واله وسلم - لمبايعته على الإسلام ومصالحته.

ولكثرة هذه الوفود في العام التالي لفتح مكّة ومطلع الذي يليه، سمّاه المؤرّخون (عام الوفود). وكان في طليعة هذه الوفود وفد ثقيف الذي قَدِم المدينة في أعقاب عودة الرسول صلى الله عليه واله وسلم من غزوة تبوك. وفي غمرة أفراح النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بنجاح الإسلام وانتشاره، مرض ولده إبراهيم وتوفّي في نفس العام.

البراءة من المشركين‏
لم يبقَ في الجزيرة العربيّّة قوّة تتمسّك بالشرك والوثنيّة، إلّا أفراد لا يُعتدّ بهم. وانتشرت العقيدة الإسلاميّّة السمحاء، وكان لا بدّ من إعلان صريح حازم، يُلغي كلّ مظاهر الشرك والوثنيّة، في مناسك أكبر تجمُّع عباديّ سياسيّ، وحان الوقت المناسب لتُعلِن الدولة الإسلاميّّة شعاراتها في كلّ مكان، وتُنهي مرحلة المداراة وتأليف القلوب التي تطلّبتها المرحلة السابقة.

واختار النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم "يوم النحر في منى" مكاناً للإعلان، وعيَّن أبا بكر ليقرأ مطلع سورة التوبة 1، التي تتضمّن إعلان البراءة بصراحة، وفي هذه الآيات النقاط التالية:
1 - لا يدخل الجنّة كافر.
2 - لا يطوف في البيت الحرام عُريان (إذ كانت تقاليد الجاهليّّة تسمح بذلك)، ولا يحجّ بعد هذا العام مُشرِك.
3 - من كان بينه وبين النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم عهد فأجلُه إلى مُدّته، ومن لم يكن له عهد ومُدّة من المشركين فإلى أربعة أشهر، وبعد ذلك سوف يُقتل من وُجِدَ مُشرِكاً.

ونزل الوحي الإلهيّّ على النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم قائلاً: "إنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت، أو رجل منك".
فاستدعى النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم الإمام عليّاً عليه السلام وأمره أن يركب ناقته العضباء ويلحق بأبي بكر، ويأخذ منه البلاغ ويؤدّيه للناس2.
ووقف الإمام عليّ عليه السلام بين جموع الحجيج في العاشر من ذي الحجّة، وهو يتلو البيان الإلهيّّ بقوّة وجرأة تتناسق مع حزم القرار ووضوحه، والناس ينصتون إليه بحذر ودقّة.. وكان أثر الإعلان على المشركين أن قَدِمُوا مسلمين على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

مباهلة نصارى نجران‏
في سياق ما كتبه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى قادة ورؤساء وملوك بلدان العالم، بعث كتاباً إلى أسقف نجران، يدعوه فيه مع المسيحيّين إلى عبادة الله تعالى، فاجتمع زعماء نصارى نجران لبحث الموضوع، وقرّروا أن يبعثوا وفداً إلى المدينة، وعلى رأسه الأُسقف نفسه ليأتوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ويسألوه عن دلائل نبوّته.

استقبل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الوفد، وأبدى احترامه لهم وفسح لهم المجال ليُمارسُوا طقوسهم، ثمّ عرض عليهم الإسلام فامتنعوا، وطال النقاش حول كون عيسى عليه السلام من البشر، فخلصوا إلى أن يباهلهم النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بأمر من الله عزّ وجلّ3 واتفقوا على اليوم اللّاحق موعداً.

وهنا وقف أسقفهم وقال لقومه: انظروا إن جاء محمّد غداً بولده وأهل بيته  فاحذروا مباهلته، وإن جاء بأصحابه وأتباعه فباهلوه.
وفي اليوم التالي خرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى المباهلة ومعه الإمام عليّ، والسيّدة فاطمة، وسبطاه الحسن والحسين .
فقال عندها أسقف نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله... فلا تُباهِلُوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ4 .

فامتنعوا عن المباهلة، وصالحهم النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم على دفع الجزية ضمن معاهدة وردت تفاصيلها في كتب التفاسير والتاريخ5.

حركة النفاق في المدينة
وجد المنافقون أنفسهم بعد الانتصارات الكبرى للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بين خيارين، إمّا أن يبقوا على كفرهم فيُعرِّضوا أنفسهم للعقاب، وإمّا أن ينتموا للدين الجديد. ورأى زعيم المنافقين عبد الله بن أبُي بن سلول، أنّ خير وسيلة للخروج من هذا المأزق، هو الإعلان عن إسلامهم ظاهراً، والبقاء على اعتقاداتهم باطناً، وبهذا ينجون من العقاب، ويحتفظون بمعطياتهم الجاهليّّة. وهذا ما سمح لهم بالقيام بعمليّة تخريب من داخل المجتمع الإسلاميّّ ما أوجد قوّة جديدة في مواجهة الإسلام.

أساليب المنافقين العدائيّة
اتخّذت أساليب المنافقين ومظاهر عدائهم أشكالاً شتّى نذكر منها:

1 - مدُّ يد العون لليهود، ومساندتهم فيما كانوا يُحوكونه من مؤامرات على الإسلام، مثل وقوفهم مع بني قينقاع عندما نقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه واله وسلم، ومعاونتهم لبني النضير عند حصار المسلمين لهم، عندما تآمروا على حياة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم.
2 - ارتكاب الخيانة بالانسحاب من ميادين الجهاد في اللحظات الحرجة، كما حصل في انسحاب ابن أُبي بثُلث المقاتلين من منتصف الطريق إلى معركة أُحد، وكذلك في غزوة تبوك، وإثارتهم للشائعات التي تُثير الخوف والهزيمة في معركة الخندق حيث أحاطت الأحزاب بالمدينة.
3 - التخريب الداخليّ وإثارة الفتنة بين فئات المسلمين، ونشر الشائعات الهدّامة، ففي غزوة بني المصطلق حاولوا إثارة الحسّ القبليّ بين المهاجرين والأنصار، وكادت أن تقع فتنة بين الطرفين لا يعلم إلا الله مداها لولا حكمة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم.
4 - قيامهم بأعمال يُراد منها الإضرار بالمسلمين وتفريق صفوفهم ووحدتهم وتماسكهم، وذلك كبنائهم "مسجد ضرار" الذي تحدّث عنه القرآن الكريم وأطلق عليه هذه التسمية، فَكَشَف بذلك نيّاتهم وفَضَح خطّتهم 6.

موقف النبيّ صلى الله عليه واله وسلم من حركة النفاق‏
لم يدخل النبيّ صلى الله عليه واله وسلم في صراع مُسلَّح ضدّ المنافقين، كما فعل مع القوى الوثنيّة، واليهوديّة، والنصرانيّة، بالرغم من كلّ ممارساتهم التخريبيّة، وخطرهم الذي لا يقلّ عن خطر غيرهم. والأسباب التي أدّت إلى هذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم تتلخّص بما يلي:
1 - إنّ المنافقين يمتلكون القدرة على الاندساس في صفوف المسلمين والاستخفاء بينهم، وهذا ما يمنحهم القدرة على إنكار جرائمهم ومكائدهم والتفلُّت ممّا يُدينهم، وبالتالي لا يُمكن للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم معاقبتهم أو حتّى عزلهم.
2 - إنّهم كانوا يتظاهرون بالإسلام، ويُخفون الكفر، وإنّما يُحاسَب الناس بحسب أعمالهم الظاهرة، فكيف يُمكن معاقبتهم والحال هذه، والمعروف عنه صلى الله عليه واله وسلم أنّه كان لا يتعرّض لمن يُظهِر الإسلام بسوء؟
3 - إنّ ممارسة القتل الجماعيّ أو الفرديّ تجاه أشخاص من أتباع النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في الظاهر، محسوبين على مُعسكره، سوف يُعطي لأعدائه في الخارج سلاحاً دِعائياً لمهاجمة الإسلام، وذريعةً لتخويف الناس من الدخول فيه، وهذا ما عبّر عنه النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم لعمر بن الخطّاب عندما ألحّ عليه بممارسة هذا الأسلوب تجاه المنافقين بقوله صلى الله عليه واله وسلم: "أتريد أن يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه" 7.
4 - إنّ النفاق لا يتّخذ صفة العنف، ويظهر المنافق أمام الناس بأنّه لا يكيد للإسلام. وهنا تبرز الحاجة إلى إعطاء المنافقين الفرصة للتعرُّف أكثر فأكثر إلى تعاليم الإسلام وأهدافه.
5 - إنّ سكوته صلى الله عليه واله وسلم عن المنافقين، وقَبُولهم كأعضاء في المجتمع الإسلاميّ، إنّما يُريد به المحافظة على من أسلم من أبنائهم، وإخوانهم، وآبائهم، وأقاربهم، حتّى لا تنشأ المشاكل العائليّة الحادّة فيما بينهم.
6 - إنّ اتخاذ أيِّ إجراء ضدّ المنافقين معناه فتح جبهة جديدة، كان بالإمكان تجنّبها.
والخلاصة: إنّ مواجهة المنافقين بالعنف والقتل والصراع المُسلَّح لم تكن في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولذلك لم يلجأ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم إلى هذا الأسلوب وكان بديل هذا الأسلوب شيئاً نادراً في تاريخ الدعوات، فقد تتبّع

النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم خطط المنافقين وتخريبهم بيقظة كاملة، ولم يُحدِّد أسلوباً ثابتاً في مجابهة مواقفهم المتلوِّنة، وإنّما راح يضع لكلّ حالة إجراءاً أو خطّة تتناسب تماماً وحجم المحاولة التخريبيّة، فنجده صلى الله عليه واله وسلم - مثلاً - أثناء التجهّز لتبوك عندما علم باجتماع المنافقين في بيت أحد اليهود ليُثبِّطوا الناس عن الخروج، يتّخذ إجراءاً فوريّاً بحقّهم فيأمر بحرق الدار عليهم.

وفي أعقاب تبوك في حادثة (مسجد ضرار) نجده صلى الله عليه واله وسلم أيضاً يتّخذ إجراءاً عمليّاً ضدّ المنافقين، فيأمر بهدم مسجد ضرار وإحراقه.
وفي موقفٍ آخر نجده صلى الله عليه واله وسلم يفضحهم ويكشف عن حقيقتهم، وينبّه الصحابة إلى خُططهم ومؤامراتهم، ويُحذِّر الناس منهم.
وكان هذا بطبيعته يُمثِّل حصانة ومناعة للمسلمين ضدّ النفاق والمنافقين ومكائدهم، وإفشالاً لكلّ مُخطَّطاتهم ومؤامراتهم.
ومن وراء الرسول صلى الله عليه واله وسلم كانت آيات القرآن الكريم تتنزّل من الله تعالى، الذي لا يخفى عليه شي‏ء في الأرض ولا في السماء، وهي تفضح خططهم ومكائدهم الخبيثة قبل أن تقع، مُندِّدة بأساليبهم، مُظهرة أفعالهم، مُبيِّنة أوصافهم بدقّة.
وكلُّ ذلك لم يمنع من قوّة الإسلام ومنعته وانتشاره، وانهيال القبائل العربيّّة على المدينة مُعلنين إسلامهم أمام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

عام الوفود
سنة تسع للهجرة

الخلاصة
كان العام التاسع الهجريّ عام الوفود، وعام تصفية الوجود الوثنيّ داخل الجزيرة العربيّّة، من خلال الإعلان الرسميّ بالبراءة من المشركين، الأمر الذي أدّى بالمسلمين إلى أن يخرجوا من حدود الجزيرة العربيّّة للدعوة إلى الإسلام.
كانت دعوة القبائل النصرانيّة إلى حظيرة الإسلام، ثمّ دعوتها إلى المباهلة وتراجعها أمام دعوة المباهلة، دليلاً كافياً على عظمة الإسلام، وموجباً لرضوخها للقيادة الإسلاميّّة.

أمام الانتصارات الباهرة للمسلمين وجد المنافقون في المدينة أنفسهم أمام خيارين: إمّا البقاء على الكفر، وإمّا الانتماء إلى الدين الجديد، فاختاروا الثاني من أجل القيام بعمليّة تخريب من داخل المجتمع الإسلاميّّ، ولجأوا إلى أساليب مُتعدِّدة في محاولةٍ منهم للقضاء على الإسلام.
وقف النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم تجاه حركة النفاق موقفاً حكيماً، فلم يُقاتلهم، ولم يُشهِر السيف في مواجهتهم، بل عمد إلى فضح مكائدهم، والتشهير بهم أحياناً، فضلاً عن الأسلوب القرآنيّ في تنبيه المسلمين من المنافقين.

*دروس من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1-وهي الآيات الأولى منها: (بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم... فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ...)الآيات: 1 - 5.
2-ذكر هذه الواقعة: الكامل في التاريخ: ج2/ص291، تفسير مجمع البيان:ج 5/ص13.
3-وذلك في قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ... فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ...) سورة آل عمران، الآية: 61.
4-بحار الأنوار. ج21، ص337، إعلام الورى، الطبرسي، ص 129.
5-راجع: تاريخ اليعقوبي: ج2، ص72، الميزان في تفسير القرآن:ج3، ص232.
6-ذكر القرآن الكريم هذه الحادثة في قوله تعالى: (والذين إتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً...) سورة التوبة: 107 ـ 108.