جوانب من أدوار الإمام عليه السلام وعصره 1


تُعدّ فترة إمامة الإمام التاسع محمّد الجواد عليه السلام، من أكثر الفترات حساسيّة وأهميّة في حياة الأئمّة عليهم السلام، فقد كانت فاتحة عهد جديد من عهود الإمامة وهي الإمامة المبكّرة التي تقدّم الحديث عنه، التي استطاعت أن تمهّد الطريق لإمامة الحجّة الغائب المنتظَر عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

ولا شكّ أنّ الإمام عليه السلام عمل كآبائه وأجداده عليهم السلام خلال فترة إمامته، على مختلف الصعد التي وفّرتها له الظروف التي عايشها وعاصره، وما أتيح له من العمل في سبيل هداية الناس، وسوقهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. وسوف نسلّط الضوء على بعض هذه الجوانب المشرقة من حياته صلوات الله عليه وعلى أهل بيته.

الإمام الجواد عليه السلام، وخوارق العادات:
ظهرت على يدي هذا الإمام الكثير من المعجزات والكرامات وخوارق العادات، وذلك لتعزيز الدلالة على ما يمثّله هذا الإمام من حجّة لله تعالى في أرضه. خصوصاً أنَّ الرَّيب في هذا الأمر الذي تسبّب فيه صغر السنّ كان يحتاج إلى ما يدفعه أو يرفعه عن قلوب العديد من الضعفاء، وتقوية إيمانهم واعتقادهم من خلال أمرٍ لا يمكن ليد البشر أن تتناوله عادة. وقد نقلت الروايات الكثير من هذه الأمور:

منها: ما عن المطرِّفيّ قال: مضى أبو الحسن الرضا عليه السلام، ولي عليه أربعة آلاف درهم، فقلت في نفسي: ذهب مالي، فأرسل إليَّ أبو جعفر عليه السلام "إذا كان غداً فأتني وليكن معك ميزان وأوزان"، فدخلت على أبي جعفر عليه السلام فقال لي: "مضى أبو الحسن ولك عليه أربعة آلاف درهم؟" فقلت: نعم، فرفع المصلّى الذي كان تحته فإذا تحته دنانير فدفعها إليّ1.

ومنها: إخراجه لأبي الصلت الهرويّ من سجن المأمون العبّاسيّ، حيث عمد المأمون إلى سجنه بعد شهادة الإمام الرضا عليه السلام، يقول أبو الصلت- فيما روي عنه-: فحبست سنة فضاق عليّ الحبس، وسهرت الليلة ودعوت الله تبارك وتعالى بدعاء ذكرت فيه محمّداً وآل محمّد صلوات الله عليهم، وسألت الله بحقّهم أن يفرّج عنّي، فما استتمّ دعائي حتّى دخل عليّ أبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام، فقال لي: "يا أبا الصلت ضاق صدرك؟" فقلت: إي والله، قال: "قم"، فأخرَجني، ثمّ ضرب يده إلى القيود التي كانت عليّ ففكّها وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحرسة والغلمان يرونني فلم يستطيعوا أن يكلّموني وخرجت من باب الدار، ثمّ قال لي: "امضِ في ودائع الله فإنّك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبداً"، فقال أبو الصلت: فلم ألتقِ المأمون إلى هذا الوقت2.

ومنها: ما عن عليّ بن خالد قال: كنت بالعسكر3فبلغني أنّ هناك رجلاً محبوساً أُتي به من ناحية الشام مكبولاً، وقالوا: إنّه تنبَّأ. قال: فأتيت الباب وداريت البوابين حتّى وصلت إليه، فإذا رجل له فهم وعقل، فقلت له: يا هذا ما قصّتك؟ فقال: إنّي كنت رجلاً بالشام أعبد الله في الموضع الذي يقال: إنّه نصب فيه رأس الحسين عليه السلام، فبينا أنا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب أذكر الله تعالى، إذ رأيت شخصاً بين يديّ، فنظرت إليه فقال لي: "قم"، فقمت معه فمشى بي قليلاً فإذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: "أتعرف هذا المسجد؟" فقلت: نعم، هذا مسجد الكوفة، قال: فصلّى فصلّيت معه، ثمّ انصرف وانصرفت معه، فمشى قليلاً فإذا نحن بمسجد الرسول عليه السلام فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصلّى وصلّيت معه، ثمّ خرج وخرجت فمشى قليلاً فإذا أنا بمكّة، فطاف بالبيت وطفت معه، ثمّ خرج فمشى قليلاً فإذا أنا بموضعي الذي كنت أعبد الله تعالى فيه بالشام، وغاب الشخص عن عيني، فبقيت متعجّباً حولاً ممّا رأيت. فلمّا كان في العام المقبل رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به، ودعاني فأجبته، ففعل كما فعل في العام الماضي، فلمّا أراد مفارقتي بالشام قلت له: سألتك بحقّ الذي أقدرك على ما رأيت منك إلّا أخبرتني من أنت؟ فقال: "أنا محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر". فحدّثت من كان يصير إليّ بخبره، فرقي ذلك إلى محمّد بن عبد الملك الزيّات، فبعث إليّ فأخذني وكبّلني في الحديد وحملني إلى العراق وحبست كما ترى، وادعى عليّ المحال. فقلت له: فأرفع عنك قصّة إلى محمّد بن عبد الملك الزيّات؟ فقال: افعل. فكتبت عنه قصّة شرحت أمره فيها ورفعتها إلى محمّد بن عبد الملك الزيّات، فوقّع في ظهرها: قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة ومن الكوفة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكّة وردّك من مكّة إلى الشام، أن يخرجك من حبسك هذا. قال عليّ بن خالد: فغمّني ذلك من أمره ورققت له وانصرفت محزوناً عليه. فلمّا كان من الغد باكرت الحبس لأعلمه بالحال وآمره بالصبر والعزاء، فوجدت الجند وأصحاب الحرس وأصحاب السجن وخلقاً عظيماً من الناس يهرعون، فسألت عن حالهم فقيل لي: المحمول من الشام المتنبئ افتُقد البارحة من الحبس، فلا يُدرَى أخسفت به الأرض أو اختطفته الطير! وكان هذا الرجل- أعني عليّ بن خالد- زيديّاً، فقال بالإمامة لمّا رأى ذلك وحسن اعتقاده4.

ومنها: ما عن داود بن القاسم الجعفريّ قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت عليّ فاغتممت، فتناول إحداهما وقال: "هذه رقعة زياد بن شبيب"، ثمّ تناول الثانية، فقال: "هذه رقعة فلان"، فُبهتُّ أنا فنظر إليَّ فتبسّم، قال: وأعطاني ثلاثمائة دينار وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمّه وقال: "أما إنّه سيقول لك: دلّني على حَريف5يشتري لي بها متاعاً، فدلّه عليه"، قال: فأتيته بالدنانير فقال لي: يا أبا هاشم دلّني على حَريف يشتري لي بها متاعاً، فقلت: نعم.

قال: وكلّمني جمّال أن أكلّمه له يدخله في بعض أموره، فدخلت عليه لأكلّمه له فوجدته يأكل ومعه جماعة ولم يمكنّي كلامه، فقال عليه السلام: "يا أبا هاشم كل" ووضع بين يديّ ثمّ قال- ابتداءً منه من غير مسألة-: "يا غلام انظر إلى الجمّال الذي أتانا به أبو هاشم فضمّه إليك"، قال: ودخلت معه ذات يوم بستاناً فقلت له: جُعلت فداك إنّي لمولع بأكل الطين، فادع الله لي، فسكت ثمّ قال (لي) بعد (ثلاثة) أيّام- ابتداءً منه-: "يا أبا هاشم قد أذهب الله عنك أكل الطين"، قال أبو هاشم: فما شيء أبغض إليّ منه اليوم6.

ومنها: ما عن أبي هشام الجعفريّ قال: صلّيت مع أبي جعفر عليه السلام، في مسجد المسيّب وصلّى بنا في موضع القبلة سواء7وذكر أنّ السِّدرة التي في المسجد كانت يابسة ليس عليها ورق، فدعا بماء وتهيّأ تحت السِّدرة فعاشت السِّدرة وأورقت وحملت من عامها8.

الإمام عليه السلام، والجانب العلميّ:
كانت سنّ أبي جعفر عليه السلام عند مضيّ الإمام الرضا عليه السلام، صغيرةً- كما تقدّم- لا تتعدّى العشر السنوات، ما أوقع بعض الشيعة في حيرة بادئ الأمر، كونه أمراً غريباً لم يألفوه فيما عايشوه من أمر الإمامة، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً وخرجوا قريب الحجّ إلى المدينة، وأتوا دار عبد الله بن موسى بن جعفر عليه السلام، ليتعرّفوا عن كثب على حقيقة الأمر9.

وتظهر الروايات أنّ هؤلاء الشيعة كانوا يتعرّفون على هذا الأمر على أساس المعايير التي عرفوها عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، فعندما خرج إليهم عبد الله بن موسى وهو شيخ وقال الناس: هذا صاحبن، قال الفقهاء من الشيعة: قد روينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام أنّه "لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين"، وليس هذا صاحبنا10.

ثمّ تتحدّث الروايات بعد ذلك أنّ هؤلاء الشيعة أخذوا يسألون عن معضلات المسائل ويمتحنون عبد الله في علمه كون هذا الأمر من الشرائط الأساسيّة التي لا بدّ أن تكون في الإمام المنصوب والحجّة من الله تعالى على خلقه، وكان عبد الله يخطأ في الجواب إلى الدرجة التي حيّرت الحاضرين من جرأته على الخطأ11، وورد على الشيعة ما زاد في غمّهم وحزنهم..حتّى إنّهم ضجّوا بالبكاء، إلى أن انتهى الأمر بخروج الإمام الجواد عليه السلام، على الناس وهو صغير السنّ، وأجاب القوم عن مسائلهم قائلاً لعمّه: "يا عمّ، اتّقِ الله، ولا تُفْتِ وفي الأُمّة مَن هو أعلم منك"..ما أدخل السرور على قلب القوم الذين فرحوا بأجوبته وظهور أمره على أمر عبد الله12.

وفي الاختصاص عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: حدّثني أبي قال: لمّا مات أبو الحسن الرضا عليه السلام حججنا فدخلنا على أبي جعفر عليه السلام وقد حضر خلق من الشيعة من كلّ بلد لينظروا إلى أبي جعفر عليه السلام، فدخل عمُّه عبد الله بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجّادة فجلس، وخرج أبو جعفر عليه السلام من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعل جَدَد13بيضاء، فقام عبد الله فاستقبله وقبّل بين عينيه، وقام الشيعة وقعد أبو جعفر عليه السلام على كرسيّ ونظر الناس بعضهم إلى بعض وقد تحيّروا لصغر سنه، فابتدر رجل من القوم فقال لعمّه: أصلحك الله ما تقول في رجل أتى بهيمة؟ فقال: تُقطع يمينه ويُضرب الحدّ، فغضب أبو جعفر عليه السلام ثمّ نظر إليه فقال: "يا عمّ اتق الله! اتق الله! إنّه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجلّ فيقول لك: لِمَ أفتيت الناس بما لا تعلم؟" فقال له عمّه: أستغفر الله يا سيّدي، أليس قال هذا أبوك صلوات الله عليه؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: "إنّما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: تقطع يمينه للنبش ويضرب حدّ الزن، فإنّ حرمة الميِّتة كحرمة الحيَّة"، فقال: صدقت يا سيّدي وأنا أستغفر الله، فتعجّب الناس وقالوا: يا سيّدنا أتأذن لنا أن نسألك؟ قال: "نعم"، فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين14. وقد أورد في الكافي ذيل هذه الرواية عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، وفيها أنّه قال: أستأذن على أبي جعفر عليه السلام قوم من أهل النواحي من الشيعة، فأذن لهم فدخلوا فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عليه السلام، وله عشر سنين15.

ولعلّ العدد الوارد في هذه الرواية فيه شيء من المبالغة، إلّا أنّ الظاهر كون المراد منه كثرة الأسئلة، ومن الواضح أنّها لم تقع في زمان ويوم واحد، بل المراد وحدة المجلس من حيث المكان16ومن الطبيعيّ أنّه طال أيّام، ليستوعب هذا الحجم من المسائل، وأنّه تناول جميع المجالات العلميّة والمعرفيّة، ما يشير إلى الحجم الكبير من الأسئلة الذي أورده هؤلاء، وهم خلق من الشيعة من كلّ بلد، كما في رواية الاختصاص، أو من نواحٍ مختلفة كما في رواية الكافي، وأنّهم كانوا يحتاجون إلى إبراز هذا الجانب الأساسيّ في الإمام عليه السلام، وهو ما لفت نظر المأمون بعد ذلك الذي شغف بأبي جعفر عليه السلام لما رأى من فضله وعلمه على صغر سنه كما سيأتي.

ولعلَّ الوضع الخاصّ جدّاً الذي تميّز به الإمام الجواد عليه السلام، أي تولّيه الإمامة في سنٍّ مبكّرة، هو الذي جعل الناس يهتمّون بطرح الأسئلة الكثيرة عليه17، ممّا يدلّل على أنّ ذهنيّة الشيعة في التعريف بالإمام كانت- مضافاً إلى النصّ- هي أن يكون لديه من العلم ما ليس عند غيره من سائر الناس، فيجيب عن أسئلة الناس واستفساراتهم مهما كانت صعبة وعويصة.

ويظهر من الروايات أنّ الإمام الجواد عليه السلام - سواء كان في بغداد أم في المدينة- قد استغلّ فترة حياته التي عاشها خلال حكم المأمون- وهي تشكّل الفترة الأكبر من حياته عليه السلام - في أداء رسالته، واجتمع فيها الشيعة على إمامته وروى عنه الرواة عشرات الأحاديث في مختلف المواضيع18.

وقد بلغ عدد الرواة عن الإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام - على ما أحصاه بعضهم- مائة وواحداً وعشرين رجلاً حدّثوا عنه في مختلف العلوم والمعارف الدينيّة19.

ويجد المتتبّع في مصادر الفقه الشيعيّ هنا وهناك ما يوحي بأنّ بعض الرواة كان يتصل به مباشرة فيقول: سألت أبا جعفر الثاني، وبعضهم كان يكتب إليه فيقول: كتبت إليه أسأله عن كذ، وأحياناً يقول الراوي: سألت أبا جعفر عليه السلام..20.

مع أصحابه وشيعته:
تابع الإمام عليه السلام مسيرة آبائه وأجداده في تربية النخبة والجماعة الصالحة، وكان له من أصحابه وأصحاب آبائه عليهم السلام عدّة من هؤلاء الأشخاص الذين تميّزوا بالعلم والعمل، وعرفوا بمحبّتهم وولائهم لهم عليهم السلام. ونشير ها هنا إلى بعض النماذج من هؤلاء الأصحاب العظام:

1- عليّ بن جعفر: أخو الإمام موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب عليهم السلام، كان جليل القدر ثقة21.

يقول الشيخ المفيد عنه: وكان عليّ بن جعفر رضي الله عنه راويةً للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير الفضل، ولزم أخاه موسى عليه السلام وروى عنه شيئاً كثيراً22، وفي موضع آخر وصفه بأنّه من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان23. وعن محمّد بن الحسن بن عمّار قال: كنت عند عليّ بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه- يعني أبا الحسن عليه السلام - إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام المسجد- مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر عليه السلام: "يا عمّ، اجلس رحمك الله"، فقال: يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم؟ فلمّا رجع عليّ بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون: أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا إذا كان الله عزّ وجلّ- وقبض على لحيته- لم يؤهّل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟! نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا له عبد24.

وروى الكشيّ عن أبي عبد الله الحسن بن موسى بن جعفر، قال: كنت عند أبي عليه السلام، بالمدينة وعنده عليّ بن جعفر وأعرابيّ من أهل المدينة جالس، فقال لي الأعرابي: من هذا الفتى؟ وأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام. قلت: هذا وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا سبحان الله! رسول الله قد مات منذ مائتي سنة وكذا وكذا سنة، وهذا حدث كيف يكون هذا؟ قلت: هذا وصيّ عليّ بن موسي، وعليّ وصيّ موسى بن جعفر، وموسى وصيّ جعفر بن محمّد، وجعفر وصيّ محمّد بن عليّ، ومحمّد وصيّ عليّ بن الحسين، وعليّ وصيّ الحسين، والحسين وصيّ الحسن، والحسن وصيّ عليّ بن أبي طالب، وعليّ وصيّ رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.

قال: ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام عليّ بن جعفر، فقال: يا سيّدي يبدأني ليكون حدّة الحديد بي قبلك، قال: قلت: يهنئك، هذا عمّ أبيه، قال: فقطع له العرق، ثمّ أراد أبو جعفر عليه السلام النهوض فقام عليّ بن جعفر فسوّى له نعليه حتّى لبسهما25.

2- صفوان بن يحيى: أبو محمّد البجليّ بيّاع السابريّ، الكوفيّ، الثقة. كان قد روى عن الرضا عليه السلام، وكانت له عنده منزلة شريفة. وقد توكّل للرضا وأبي جعفر عليه السلام، وسلم مذهبه من الوقف، وكانت له منزلة من الزهد والعبادة، وكان جماعة الواقفة بذلوا له مالاً كثيراً، وكان شريكاً لعبد الله بن جندب وعليّ بن النعمان. ورُوي أنّهم تعاقدوا في بيت الله الحرام أنّه من مات منهم صلّى من بقي صلاته وصام عنه صيامه وزكّى عنه زكاته. فماتا وبقي صفوان، فكان يصلّي في كلّ يوم مائة وخمسين ركعة، ويصوم في السنة ثلاثة أشهر ويزكّي زكاته ثلاث دفعات، وكلّ ما يتبرّع به عن نفسه ممّا عدا ما ذكرناه يتبرّع عنهما مثله. وحكى أصحابنا أنّ إنساناً كلّفه حمل دينارين إلى أهله إلى الكوفة فقال: إنّ جمالي مكريّة وأنا أستأذن الأجراء. وكان من الورع والعبادة على ما لم يكن عليه أحد من طبقته رحمه الله. وصنّف ثلاثين كتاباً26. وكان الإمام الجواد عليه السلام يترحّم عليه ويترضّى عنه، ولَمّا مات في سنة عشر ومائتين بالمدينة بعث إليه أبو جعفر عليه السلام بحنوطه وكفنه، وأمر إسماعيل بن موسى بالصلاة عليه27.

3- عليّ بن مهزيارالأهوازيّ: أبو الحسن. كان أبوه نصرانيّاً فأسلم. وقد قيل: إنّ عليّاً أيضاً أسلم وهو صغير، ومنَّ الله عليه بمعرفة هذا الأمر، وتفقّه، وروى عن الرضا وأبي جعفر عليه السلام، واختصّ بأبي جعفر الثاني عليه السلام وتوكّل له وعظّم محلّه منه، وكذلك أبو الحسن الثالث عليه السلام وتوكّل لهم في بعض النواحي، وخرجت إلى الشيعة فيه توقيعات بكلّ خير، وكان ثقة في روايته لا يطعن عليه، صحيحاً اعتقاده28. وكان من أهل "هندكان" قرية من قرى فارس، ثمّ سكن الأهواز فأقام بها، وكان إذا طلعت الشمس سجد، وكان لا يرفع رأسه حتّى يدعو لألفٍ من إخوانه بمثل ما دعا لنفسه، وكان على جبهته سجّادة مثل ركبة البعير. وله مصنّفات كثيرة زيادة على ثلاثين كتاباً29. جرى بينه وبين أبي الحسن المقرئ عليّ بن أسباط بن سالم- بيّاع الزطّي30الذي كان فطحيّاً- رسائل في ذلك، رجعوا فيها إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام، فرجع عليّ بن أسباط عن ذلك القول وتركه31. وفي كتاب لأبي جعفر عليه السلام إليه ببغداد: "قد وصل إليّ كتابك، وقد فهمت ما ذكرت فيه، وملأتني سروراً، فسرّك الله، وأنا أرجو من الكافي الدافع أن يكفي كيد كلّ كائدٍ إن شاء الله تعالى". وفي كتابٍ آخر: "وقد فهمت ما ذكرت من أمر القمّيّين، خلّصهم الله وفرّج عنهم، وسررتني بما ذكرت من ذلك، ولم تزل تفعل، سرّك الله بالجنّة ورضي عنك برضائي عنك، وأنا أرجو من الله حسن العون والرأفة، وأقول: حسبنا الله ونعم الوكيل". وفي كتاب آخر بالمدينة: "فاشخص إلى منزلك، صيّرك الله إلى خير منزل في دنياك وآخرتك". وفي كتابٍ آخر: "وأسأل الله أن يحفظك من بين يديك ومن خلفك وفي كلّ حالاتك، فأبشر فإنّي أرجو أن يدفع الله عنك، وأسأل الله أن يجعل لك الخيرة فيما عزم لك به عليه من الشخوص في يوم الأحد، فأخّر ذلك إلى يوم الاثنين إن شاء الله، صحبك الله في سفرك وخلفك في أهلك وأدّى غيبتك وسلمت بقدرته". (وعن عليّ بن مهزيار أنّه قال): وكتبت إليه أسأله التوسع عليّ والتحليل لما في يديّ؟ فكتب: "وسّع الله عليك، ولمن سألت به التوسعة في أهلك، ولأهل بيتك ولك يا عليّ عندي من أكبر التوسعة، وأنا أسأل الله أن يصحبك بالعافية ويقدمك على العافية ويسترك بالعافية إنّه سميع الدعاء". وسألتُه الدعاء، فكتب إليّ: "وأمّا ما سألت من الدعاء فإنّك بعدُ لست تدري كيف جعلك الله عندي، وربّما سمّيتك باسمك ونسبك، مع كثرة عنايتي بك ومحبّتي لك ومعرفتي بما أنت إليه، فأدام الله لك أفضل ما رزقك من ذلك، ورضي عنك برضائي، وبلّغك أفضل نيّتك، وأنزلك الفردوس الأعلى برحمته، إنّه سميع الدعاء حفظك الله وتولّاك ودفع الشرّ عنك برحمته، وكتبت بخطّي"32.

التمهيد للإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف:
يعدّ وجود هذا الإمام العظيم نفسه وتولّيه الإمامة في سنٍّ مبكّرة، تمهيداً عمليّاً للإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف، الذي تولّى الإمامة في سنٍّ مبكّرة أيض، ويضاف إلى هذا الأمر ما حدّث به الإمام الجواد عليه السلام، عن ولده الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف، فقد روي عنه في هذا المجال روايات عديدة:

منها: ما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن عبد العظيم بن عبد الله بن عليّ بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام (الحسني) قال: دخلت على سيّدي محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، وأنا أريد أن أسأله عن القائم أهو المهديّ أو غيره؟ فابتدأني فقال لي: "يا أبا القاسم، إنّ القائم منّا هو المهديّ الذي يجب أن يُنتظر في غيبته، ويُطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوّة وخصّنا بالإمامة إنّه لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وإنّ الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى عليه السلام إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسول نبيّ"، ثمّ قال عليه السلام: "أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج"33.

ومنها: ما رواه أيضاً بسنده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنيّ قال: قلت لمحمّد ابن عليّ بن موسى عليهم السلام: إنّي لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمّد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فقال عليه السلام: "يا أبا القاسم: ما منّا إلّا وهو قائم بأمر الله عزّ وجلّ، وهادٍ إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهِّر الله عزّ وجلّ به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأها عدلاً وقسطاً هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سميُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيّه، وهو الذي تُطوى له الأرض، ويذلّ له كلّ صعب (و) يجتمع إليه من أصحابه عدّة أهل بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أقاصي الأرض، وذلك قول الله عزّ وجلّ: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره.."34. الحديث.

ومنها: عن الصقر ابن أبي دلف قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام يقول: "إنّ الإمام بعدي ابني عليّ، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه"، ثمّ سكت. فقلت له: يا بن رسول الله، فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى عليه السلام بكاءً شديداً، ثمّ قال: "إنّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحقّ المنتظر". فقلت له: يا بن رسول الله، لِمَ سُمِّيَ القائم؟ قال: "لأنّه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته". فقلت له: ولِمَ سُمِّيَ المنتظر؟ قال: "لأنّ له غيبة يكثر أيّامها ويطول أمده، فينتظر خروجه المخلصون، وينكره المرتابون، ويستهزئ بذكره الجاحدون، ويكذب فيها الوقّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلِّمون"35.