جوانب من أدوار الإمام عليه السلام وعصره 2


مع خلفاء عصره:
عاصر الإمام الجواد عليه السلام، اثنين من خلفاء بني العبّاس هما: المأمون والمعتصم.

مع المأمون:
هو عبد الله بن هارون الرشيد، سابع خلفاء بني العبّاس، أُمُّه جارية خراسانيّة، اسمها: "مراجل". وقد ماتت بعد ولادتها إيّاه، وهي ما تزال نفساء. فنشأ يتيم الأمّ. وقد كانت أمّه- كما يقول المؤرّخون- أشوه وأقذر جارية في مطبخ الرشيد36. دفعه أبوه إلى جعفر بن يحيى البرمكيّ، فنشأ في حجره. وُلد في سنة 170 ه‍. وتوفّى سنة 218ه‍.

كان قد برع في العلوم والفنون، حتّى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العبّاس، وقالوا فيه: إنّه كان أفضل رجال بني العبّاس: حزماً، وعزماً، وحلماً، وعلماً، ورأياً، ودهاءً، وهيبةً، وشجاعةً، وسؤدداً، وسماحةً.. وغير ذلك37.

وقد عاصر الإمام الجواد المأمون العبّاسيّ فترة طويلة حوالي أربعَ عشرةَ سنة، وهي أطول فترات حياته الشريفة.
ولم يكن المأمون يجهل ذلك الشأن من الإمام الجواد عليه السلام، ولا رأي الشيعة فيه، لكنّ سياسته اقتضت أن يرفع مكانة أبي جعفر عليه السلام، ويعظّم شأنه، كما تظاهر قبل هذا مع أبيه أبي الحسن عليه السلام، فاستدعاه من المدينة مكرّماً إلى بغداد وأظهر له من العناية ما استفزّ بني العبّاس حتّى خافوا أن يعهد إليه كما عهد إلى أبيه من قبل. ولكنّهم جهلوا ما يقصده وراء ذلك الإكرام، وجهلوا أنّ السياسة ألوان وأنّ لكلِّ عهد عملاً ولون، فاستمرُّوا في ملامته واستمرّ في كيده حتّى زوّجه بابنته أمّ الفضل وهي التي قتلته بالسمّ بإشارة من المعتصم، فكأنّه ادّخرها للجواد لمثل هذا اليوم38.

يقول الشيخ المفيد أعلى الله مقامه: كان المأمون قد شغف بأبي جعفر عليه السلام لما رأى من فضله مع صغر سنّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته أُمَّ الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره.

الزواج من ابنة المأمون:
روى الحسن بن محمّد بن سليمان، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الريّان بن شبيب قال: لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته أُمَّ الفضل أبا جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام، بلغ ذلك العبّاسيّين فغلظ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا عليه السلام، فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه فقالوا له: ننشدك الله- يا أمير المؤمنين- (أن تقيم) على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخاف أن يخرج به عنّا أمر قد ملّكناه الله، ويُنزع منّا عزٌّ قد ألبسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت، حتّى كفانا الله المهمّ من ذلك، فالله الله أن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله من كان قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرحم، أعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه عن نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً!! وأمّا أبو جعفر محمّد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: إنّ هذا الصبيّ وإن راقك منه هديه، فإنّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدّب ويتفقّه في الدّين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك.
فقال لهم: ويحكم! إنّني أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ هذا من أهل بيت علمهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدّين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن به ما وصفت من حاله.

قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصّة والعامّة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه.

فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم.

مع قاضي القضاة ابن أكثم:
فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم- وهو يومئذٍ قاضي القضاة- على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك. واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يُفرش لأبي جعفر عليه السلام، دست39، وتجعل له فيه مِسْوَرَتانِ40، ففُعل ذلك، وخرج أبو جعفر عليه السلام وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه السلام.

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي- جعلت فداك- في مسألة؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: "سل إن شئت" قال يحيى: ما تقول- جُعلت فداك- في مُحرِمٍ قتل صيداً؟ فقال له أبو جعفر: "قتله في حِلٍّ أو حَرَم؟ عالماً كان المُحرِمُ أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حُرّاً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم كبارها؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟"، فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي. ثمّ نظر إلى أهل بيته وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثمّ أقبل على أبي جعفر عليه السلام فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: اخطب، جعلت فداك لنفسك، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوِّجك أمّ الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك.

خطبة الزواج:
فقال أبو جعفر عليه السلام: "الحمد لله إقراراً بنعمته، ولا إله إلّا الله إخلاصاً لوحدانيّته، وصلّى الله على محمّد سيّد بريّته والأصفياء من عترته. أمّا بعد: فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ثمّ إنّ محمّد بن عليّ بن موسى يخطب أمّ الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد عليه السلام وهو خمسمائة درهم جياداً، فهل زوّجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟". قال المأمون: نعم، قد زوّجتك أبا جعفر أمّ الفضل ابنتي على هذا الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح؟ قال أبو جعفر عليه السلام: "قد قبلت ذلك ورضيت به". فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصّة والعامّة. قال الريّان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملّاحين في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضّة مشدودة بالحبال من الإبريسم41على عجل مملوءة من الغالية42، فأمر المأمون أن تخضّب لحى الخاصّة من تلك الغالية، ثمّ مُدّت إلى دار العامّة فطُيِّبوا منها، ووُضعت الموائد فأكل الناس، وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم.

تفصيل الإمام عليه السلام، لسؤال ابن أكثم:
فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصّة من بقي، قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت- جُعلت فداك- أن تذكر الفقه فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيدَ لنعلمه ونستفيده. فقال أبو جعفر عليه السلام: "نعم، إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحِلِّ وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحِلِّ فعليه حَمَلٌ قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحَمَل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحجّ نحره بمنى، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكّة. وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة". فقال له المأمون: أحسنت- أبا جعفر- أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك. فقال أبو جعفر ليحيى: "أسألك؟". قال: ذلك إليك- جُعلت فداك- فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلّا استفدته منك. فقال له أبو جعفر عليه السلام: "خبِّرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار حلّت له، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا غربت الشمس حرمت عليه، فلمّا دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان انتصاف الليل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحَرُمَتْ عليه؟". فقال له يحيى بن أكثم: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه، فقال له أبو جعفر عليه السلام: "هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبيّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحَرُمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحَرُمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له".

قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدّم من السؤال؟! قالوا: لا والله، إنّ أمير المؤمنين أعلم وما رأى. فقال لهم: ويحكم، إنّ أهل هذا البيت خُصُّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحداً في سنّه غيره. وبايع الحسن والحسين عليه السلام وهما ابنان دون الستّ سنين ولم يبايع صبيّاً غيرهما، أفلا تعلمون الآن ما اختصّ الله به هؤلاء القوم، وأنهّم ذريّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم؟! قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين، ثمّ نهض القوم.

فلمّا كان من الغد أحضر الناس، وحضر أبو جعفر عليه السلام، وصار القوّاد والحجّاب والخاصّة والعمّال لتهنئة المأمون وأبي جعفر عليه السلام، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضّة فيها بنادق مسك وزعفران معجون، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنيّة وإقطاعات، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصّته، فكان كلّ من وقع في يده بندقة، أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له. ووُضعت البِدَرُ43، فنُثر ما فيها على القوّاد وغيرهم، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا. وتقدّم المأمون بالصدقة على كافّة المساكين. ولم يزل مكرماً لأبي جعفر عليه السلام، معظّماً لقدره مدّة حياته، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته44.

من حيل المأمون:
وعن محمّد بن الريّان قال: احتال المأمون على أبي جعفر عليه السلام بكلّ حيلة، فلم يمكنه فيه شيء، فلمّا اعتلّ وأراد أن يبني عليه ابنته دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون، إلى كلّ واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر عليه السلام إذا قعد في موضع الأخيار. فلم يلتفت إليهنّ وكان رجل يُقال له: "مخارق" صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللحية، فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفر عليه السلام، فشهق "مخارق" شهقة اجتمع عليه أهل الدار وجعل يضرب بعوده ويغنّي فلمّا فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع إليه رأسه وقال: "اتقِ الله يا ذا العُثنون45!" قال: فسقط المضراب من يده والعود فلم ينتفع بيديه إلى أن مات قال: فسأله المأمون عن حاله قال: لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً46.

وعن محمّد بن عليّ الهاشميّ قال: دخلت على أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام، صبيحة عرسه ببنت المأمون، وكنت تناولت من الليل دواءً فأوّل من دخل عليه في صبيحته أن، وقد أصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء، فنظر أبو جعفر عليه السلام، في وجهي وقال: "أراك عطشان؟!"، قلت: أجل، قال: "يا غلام اسقنا ماءً"، فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء مسموم47، واغتممت لذلك فأقبل الغلام ومعه الماء، فتبسَّم في وجهي ثمّ قال: "يا غلام، ناولني الماء"، فتناول، فشرب، ثمّ ناولني وتبسَّم فشربت، وأطلت عنده فعطشت، فدعا بالماء ففعل كما فعل في المرّة الأولى، وشرب، ثمّ ناولني وتبسَّم، قال محمّد بن حمزة: فقال لي محمّد بن عليّ الهاشميّ: والله إنّي لأظنّ أنّ أبا جعفر يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة!!48.

شوقه لمدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم:
ومكث الإمام ببغداد مدّة من الزمان كان ينتظر فيها اليوم الذي يعود فيه إلى حرم جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن الحسين المكاريّ قال: دخلت على أبي جعفر ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلت في نفسي: هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً، وأنا أعرف مطعمه، قال: فأطرق رأسه ثمّ رفعه وقد اصفرّ لونه فقال: "يا حسين، خبز شعير، وملح جريش في حرم جدّي رسول الله أحبُّ إليّ ممّا تراني فيه"49.

العودة إلى المدينة:
ولمّا ضاق صدره استأذن المأمون في الذهاب إلى الحجّ، فأذن له. يُروى أنّه لمّا توجّه عليه السلام من بغداد منصرفاً من عند المأمون ومعه (زوجته) أمُّ الفضل (بنت المأمون) قاصداً بها المدينة، صار إلى شارع باب الكوفة ومعه الناس يشيّعونه، فانتهى إلى دار المسيّب، عند مغيب الشمس، نزل ودخل المسجد، وكان في صحنه نَبِقَة لم تحمل بعد، فدعا بكوز فيه ماء فتوضّأ في أصل النبقة فصلّى بالناس صلاة المغرب، فقرأ في الأولى منها الحمد وإذا جاء نصر الله، وقرأ في الثانية الحمد وقل هو الله أحد، وقنت قبل ركوعه فيها، وصلّى الثالثة وتشهّد وسلّم، ثمّ جلس هنيهة يذكر الله تعالى، وقام من غير تعقيب فصلّى النوافل أربع ركعات، وعقّب بعدها وسجد سجدتي الشكر، ثمّ خرج. فلمّا انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً حسناً فتعجّبوا من ذلك وأكلوا منها فوجدوه نبقاً حلواً لا عُجم له50. وقد حُكي عن الشيخ المفيد قوله: ولقد أكلت من ثمرها وكان لا عجم له51، (أي لا نواة له).

وتوجّه إلى حجّ بيت الله الحرام، ومن هناك عاد إلى مدينة جدّه وبقي هناك إلى أن مات المأمون، وتولّى الخلافة من بعده أخوه المعتصم وكان ذلك في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 218 للهجرة.

مع المعتصم:
هو محمّد بن هارون الرشيد أبو إسحاق، الملقّب بالمعتصم بالله، ثامن الخلفاء العبّاسيّين، أُمّه أُمُّ ولد، من مولّدات الكوفة اسمها "ماردة"، وكانت أحظى الناس عند الرشيد. قيل فيه: إنّه كان ذا شجاعة وقوّة وهمّة، وكان عَرِيّاً من العلم، وإذا غضب لا يبالي مَن قتل. قال ابن أبي دؤاد: كان المعتصم يُخرج ساعده إليَّ ويقول: يا أبا عبد الله عَضَّ ساعدي بأكثر قوَّتك، فأمتنع، فيقول: إنّه لا يضرّني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنّة فضلاً عن الأسنان. وقال نفطويه: كان من أشدّ الناس بطش، وزَعَم أنّه كان يجعل زَنْدَ الرجل بين إصبعيه فيكسره. وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان. وكان يتشبّه بملوك الأعاجم، ويمشي مشيهم52.

ولمّا استوى المعتصم على الملك وسمع فضائل ومناقب الإمام الجواد عليه السلام وبلغه غزارة علمه اضطرمت نار الحسد في قلبه وصمّم على القضاء على الإمام، فاستدعاه إلى بغداد، فلمّا توجّه الإمام إلى بغداد جعل وصيّه وخليفته ابنه عليّ النقيّ عليه السلام ونصّ على إمامته عند كبار الشيعة وثقات الأصحاب وسلّم إليه كتب العلوم الإلهيّة والأسلحة التي كانت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام.

ثمّ ودّع الإمام أهله وولده وترك حرم جدّه صلى الله عليه وآله وسلم وذهب إلى بغداد بقلب حزين ودخلها يوم الثامن والعشرين من شهر محرّم سنة 220 للهجرة.. 53.

ويظهر من بعض الروايات أنّ المعتصم كان قد أشخصه إلى بغداد غير مرّة، حتّى كانت المرة الثانية في أوّل سنة عشرين ومائتين وهي السنة التي توفّي فيها54.

فعن إسماعيل بن مهران قال: لمّا خرج أبو جعفر عليه السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جُعلت فداك، إنّي أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى مَن الأمر بعدك؟ فكرّ بوجهه إليّ ضاحكاً وقال: "ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة"، فلمّا أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جُعلت فداك، أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتّى اخضلّت لحيته، ثمّ التفت إليّ فقال: "عند هذه يُخاف علَيَّ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ"55.

ولمّا خرج من المدينة في المرّة الأخيرة قال: "ما أطيبك يا طيبة، فلست بعائد إليك"56.

ولمّا جيء به إلى بغداد، جعل المعتصم يدسّ الدسائس إليه ويزوّر الحقائق عليه بغية إيجاد ما يسوِّغ تصفيته أو التضييق عليه، ولكنّ محاولاته كانت تبوء بالفشل أمام مواجهة الإمام عليه السلام لها بأسلوبه الخاصّ، والإعجازيّ أحياناً.
فقد رُوي عن ابن أرومة أنّه قال: إنّ المعتصم دعا بجماعة من وزرائه، فقال: اشهدوا لي على محمّد بن عليّ بن موسى عليهم السلام زوراً، واكتبوا أنّه أراد أن يخرج. ثمّ دعاه، فقال: إنّك أردت أن تخرج عليّ؟ فقال: "والله ما فعلت شيئاً من ذلك". قال: إنّ فلاناً وفلاناً وفلاناً شهدوا عليك. وأُحضروا، فقالوا: نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك. قال: وكان جالساً في بهوٍ57فرفع أبو جعفر عليه السلام يده فقال: "اللَّهمَّ إن كانوا كذبوا عليّ فخذهم". قال: فنظرنا إلى ذلك البهو كيف يزحف ويذهب ويجيء، وكلّما قام واحد وقع. فقال المعتصم: يا بن رسول الله إنّي تائب ممّا فعلت فادع ربّك أن يسكِّنه، فقال: "اللَّهمَّ سكّنه، وإنّك تعلم أنّهم أعداؤك وأعدائي". فسكن58.

وعن زرقان صاحب ابن أبي دؤاد وصديقه بشدّة قال: رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ، فقلت له في ذلك، فقال: وددت اليوم أنّي قد متُّ منذ عشرين سنة، قال: قلت له: ولم ذاك؟ قال: لِما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين المعتصم، قال: قلت له: وكيف كان ذلك؟ قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أُحضر محمّد بن عليّ عليه السلام، فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يُقطع؟ قال: فقلت: من الكُرْسُوع59، قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: قلت: لأنّ اليد هي الأصابع والكَفّ إلى الكُرْسُوع، لقول الله في التيمّم: ﴿فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم﴾ واتفق معي على ذلك قوم.

وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأنّ الله لمّا قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ في الغسل دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق، قال: فالتفت إلى محمّد بن عليّ عليه السلام فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: "قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين"، قال: دعني ممّا تكلّموا به، أيّ شيء عندك؟ قال: "اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين"، قال: أقسمت عليك بالله لمّا أخبرت بما عندك فيه، فقال: "أمّا إذا أقسمت عليّ بالله إنّي أقول: إنّهم أخطأوا فيه السُّنَّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ"، قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: "قول رسول الله عليه وآله السلام: "السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين"، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ وما كان لله لم يُقطع".

قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.
قال ابن أبي دؤاد: قامت قيامتي وتمنّيت أنّي لم أك حيّاً.

قال زرقان: إنّ ابن أبي دؤاد قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة، فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النّار، قال: وما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين من مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدّين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر المجلس أهل بيته وقوَّاده ووزراؤه وكتاَّبه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الأُمّة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ قال: فتغيّر لونه وانتبه لما نبّهته له وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً.

*جواد الأئمة، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 497.
2 - الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 274.
3 - أي مدينة سامراء.
4 - المفيد الإرشاد ج 2 ص 289- 291. الأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 151- 152.
5 - أي معامل.
6 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 495.
7 - في هامش الكافي: أي من غير انحراف عن الجدار.
8 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 497.
9 - الطبريّ: دلائل الإمامة ص 388- 389.
10 - ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 382- 383.
11 - المصدر السابق، ص 383.
12 - الطبريّ: دلائل الإمامة ص 389- 390، المسعوديّ: إثبات الوصيّة ص 220- 221.
13 - أي مستوية أو صلبة.
14 - المفيد: الاختصاص ص 102.
15 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 496.
16 - هذا الاحتمال وغيره ممّا أورده المجلسيّ رحمه الله في بحار الأنوار ج 50 ص 93.
17 - مرتضى العامليّ جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الجواد عليه السلام ص 30.
18 - أنظر: الحسنيّ هاشم معروف: سيرة الأئمّة الإثني عشر ج 2 ص 437.
19 - أنظر: العطارديّ الشيخ عزيز الله: مسند الإمام الجواد عليه السلام ص 249.
20 - أنظر: الحسنيّ هاشم معروف: سيرة الأئمّة الإثني عشر ج 2 ص 437.
21 - الطوسيّ: الفهرست ص 151، الرقم 377.
22 - المفيد: الإرشاد ج 2 ص 214.
23 - المصدر السابق، ص 216.
24 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 322.
25 - الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي، ج 2 ص 729، الرقم 804.
26 - النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 197، وانظر: الطوسيّ: الفهرست ص 145، الرقم 356.
27 - الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 792.
28 - النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 253 الرقم 664.
29 - الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 825 الرقم 1038.
30 - نوع من الثياب.
31 - النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 252 الرقم 663.
32 - الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 826- 827 الرقم 1040.
33 - الصدوق: كمال الدّين وتمام النعمة ص 377.
34 - المصدر السابق، ص 377- 378.
35 - الصدوق: كمال الدّين وتمام النعمة ص 378.
36 - وذلك هو الذي يجعلنا نصدّق القصّة التي تقال عن السبب في حملها به وخلاصتها أنّ زبيدة لاعبت الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبته، فحكمت عليه أن يطأ أقبح وأقذر وأشوه جارية في المطبخ، فبذل لها خراج مصر والعراق لتعفيه من ذلك، فلم تقبل، ولم تجد جارية تجمع الصفات المذكورة غير "مراجل"، فطلبت إليه أن يطأها، فجاء المأمون.
37 - مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 148- 151.
38 - المظفّر الشيخ محمّد حسين: تاريخ الشيعة ص 63- 64.
39 - الدست: مكان في صدر البيت أو المجلس.
40 - المسورة: متكأ من أدم أي جلد.
41 - أي الحرير ويصنع منه الديباج والخزّ ونحوهما من الثياب.
42 - الغالية: نوع من الطيب مركّب من مسك وعنبر وعود ودهن.
43 - البدر: جمع بدرة، والبدرة: كيس فيه مقدار من المال يتعامل به ويقدّم في العطايا، ويختلف باختلاف العهود، والغالب أنّه عشرة آلاف درهم.
44 - المفيد: الإرشاد ج 2 ص 281- 288.
45 - أي اللحية الطويلة.
46 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 494.
47 - وهذا يدلّ على أنّ حياة الإمام عليه السلام كانت في خطر وأنّ قضيّة اغتياله كانت واردة ومتوقّعة، بل في بعض الروايات أنّه كان قد تعرّض للاغتيال فعلاً عبر دسّ السمّ له ولكن الله تعالى أنجاه، فقد روى ابن حمزة الطوسيّ عن محمّد بن القاسم، عن أبيه، وعن غير واحد من أصحابن، أنّه قد سمع عمر بن الفرج أنّه قال: سمعت من أبي جعفر عليه السلام شيئاً لو رآه محمّد أخي لكفر. فقلت: وما هو أصلحك الله؟ قال: إنّي كنت معه يوماً بالمدينة إذ قرب الطعام فقال: "أمسكوا" فقلت: فداك أبي، قد جاءكم الغيب فقال: "عليَّ بالخبّاز" فجيء به، فعاتبه وقال: "مَن أمرك أن تسمّني في هذا الطعام؟" فقال له: جعلت فداك فلان، ثمّ أمر بالطعام فرفع وأتي بغيره. (الطوسيّ ابن حمزة: الثاقب في المناقب ص 517).
48 - الأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 153.
49 - القطب الراونديّ: الخرائجوالجرائح ج 1 ص 383.
50 - المفيد: الإرشاد ج 2 ص 288- 289.
51 - ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 390.
52 - أنظر: السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 333- 335.
53 - القمّي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 563، وانظر: المفيد: الإرشاد ج 2 ص 295.
54 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 429.
55 - الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 323.
56 - الطوسيّ ابن حمزة: الثاقب في المناقب ص 516.
57 -البهو: البيت الذي كانوا يقيمونه أمام البيوت أو الخيام منزلاً للغرباء والضيوف.
58 - القطب الراونديّ: الخرائجوالجرائح ج 2 ص 670- 671.
59 - الكرسوع: طرف الزند الذي يلي الخنصر الناتئ عند الرسغ.