المواجهات العسكريـّة للنبي صلى الله عليه واله وسلم(1)
((الغزوات والحروب))
غزوة بدر الكبرى (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ (الصف:4)
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (آل عمران: 123)
التحرّكات العسكريّة الأولى
انحصر دور النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في مكّة كقائدٍ إلهيّ بالدعوة والهداية وإرشاد الناس. وبعد استقراره في المدينة تولّى الزعامة السياسيّّة للمسلمين أيضاً، واتّجه لإقامة مجتمع جديد مبنيّ على أساس تعاليم الإسلام، لذلك قام بعدّة خطوات في هذا الاتجاه، كما مرّ سابقاً.
وكانت تنزل على النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم آيات القرآن في المدينة تتضمّن أحكاماً وتعاليم سياسيّة واجتماعيّة. ولمّا صدر من الله تعالى الإذن بالجهاد والدفاع 1، عزم على تشكيل قوّة دفاعيّة لتعزيز الإجراءات الاحترازيّة، ولحماية المسلمين من أيّ هجوم عسكريّ، وبادر إلى وضع النواة الأوّليّة للجيش الإسلاميّّ، وقاد مجموعة من المعارك والغزوات والمناورات العسكريّّة في السنة الثانية للهجرة.
وللمؤرّخين اصطلاحان في المعارك التي خاضها المسلمون في حياة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم هما:
الغزوة: ويقصدون بها المعركة التي يحضرها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم نفسه، ويتولّى هو قيادتها.
السِّريَّة: وهي المجموعة الجهاديّة التي لا يكون فيها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم ويتولّى أحد أصحابه قيادتها.
وأحصى المؤرّخون عدد الغزوات والسرايا في حياة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، فبلغت أكثر من ثمانين غزوة وسَرِيَّة، وكلّها كانت في فترة ما بعد الهجرة.
فقد قام صلى الله عليه واله وسلم بالعديد من التحرُّكات العسكريّّة 2، مثل سَرِيَّة حمزة بن عبد المطّلب التي تألّفت من ثلاثين مقاتلاً، والتي لاحقت قافلة لقريش أثناء عودتها إلى مكّة، لكن مجدي بن عمرو الجهنيّ الذي كان موادعاً للطرفين، حال بينهما، فانصرفا من غير قتال، ثمّ سَرِيَّة عبيدة بن الحارث التي تألّفت من ستين مُقاتِلاً حيث تبعت جماعة أبي سفيان، وسَرِيَّة سعد بن أبي وقاص التي تألّفت من
عشرين مقاتلاً، لاحقت قافلة لقريش، وكذلك تتبّع الرسول صلى الله عليه واله وسلم برفقة جماعة من المسلمين قافلة لقريش حتّى بلغ أرض الأبواء، ولكن لم يقع اشتباك بين الطرفين. وعقد النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في سفره هذا معاهدة مع قبيلة بني ضمرة بأنْ تقف على الحياد. وخرج أيضاً صلى الله عليه واله وسلم على رأس مائة وخمسين من أصحابه لاعتراض قافلة تجاريّة لقريش يقودها أبو سفيان مُتوجِّهاً من مكّة إلى الشام (غزوة ذات العشيرة) ولكنّه لم يلحق بالقافلة، وأبرم أثناء ذلك معاهدة مع قبيلة بني مدلج 3.
معركة بدر
كانت "معركة بدر" أوّل معركة مُسلَّحة كبرى خاضها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم والمسلمون في مواجهة المشركين من قريش، وذلك يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة، قُرْبَ بدر على بُعد حوالي مائة وستين كيلو متراً من المدينة فيما بينها وبين مكّة المكرّمة.
خرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه مستهدفين السيطرة على القافلة التجاريّة التي كان يقودها أبو سفيان، المُتوجِّهة من الشام إلى مكّة، لا طمعاً في المال والغنيمة وإنّما بُغية التعويض على المسلمين ممّا أخذه منهم المشركون، وفرض حصار اقتصاديّ على قريش، علَّ ذلك يدفعها إلى الامتناع عن محاربة الدعوة، والتآمر على الإسلام والمسلمين.
لقد كان قرار التصدّي للقافلة ينطوي على احتمال تطوُّر الموقف، وحصول مواجهة عسكريّة، ونشوب معركة حاسمة ومصيريّة، وهو ما حصل فعلاً.
فقد علم أبو سفيان بتحرُّك النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم فغيّر طريقه، وأرسل إلى مكّة يطلب النجدة من قريش، فأقبلت قريش بأحقادها وكبريائها بألف مقاتل لحماية القافلة، وحين علمت قريش بنجاة القافلة حاول بعض قادتها أن يكتفي بذلك ويدعو إلى الانسحاب والعودة إلى مكّة، إلّا أنّ أبا جهل وغيره أصرَّوا على العدوان، فقرّروا الهجوم على المسلمين، والتقى الجمعان في بدر، وبدأت المعركة بالمبارزة ثمّ التحم الجيشان وهما غير مُتكافئين لا من حيث العدد ولا من حيث العتاد، ولكنّ الله أنزل الكثير من ألطافه ورحمته، فتدخّلت يد الغيب، وجاء الإمداد الملائكيّ للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، فحقّق الله سبحانه النصر للإسلام والمسلمين، واندحرت قوّة قريش، وتشتّت جيشها بين قتيل وجريح وأسير؛ حيث أسفرت المعركة عن قتل سبعين من المشركين وأسر سبعين، ولم يسقط من المسلمين سوى تسعة شهداء وقيل: أحد عشر، وقيل: أربعة عشر شهيداً، ولم يُؤسر منهم أحد.
وقد برز للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في هذه المعركة دور كبير، وظهرت شجاعته المُتميِّزة بين صفوف المسلمين، حيث رُوي أنّه قُتل بيده ثُلث قتلى المشركين، وقيل: قتل نصفهم بيده وشارك الآخرين في قتل النصف الآخر.
لقد حقّق المسلمون في بدر مكاسب ماديّة وأمنيّة وعقيديّة وإعلاميّة، ساهمت في خدمة الدعوة وتثبيت أركانها، وتحقيق نقلة نوعيّة في مجمل الأحداث في الجزيرة العربيّّة.
ولعلّ أبرز نتائج هذه المعركة أنّها
أوّلاً: عزّزت ثقة المسلمين بأنفسهم، وثبّتت إيمان بعض المتردِّدين في إسلامهم.
ثانياً: جعلت من المسلمين قوّة مرهوبة الجانب عند القبائل المشركة واليهود في المنطقة.
ثالثاً: شجّعت الكثيرين على الدخول في الإسلام بعد أن كانت قريش تُشكِّل الحاجز النفسيّ والماديّ لهم.
رابعاً: أضعفت هيبة قريش ونفوذها ومكانتها بين العرب.
خامساً: فتحت الأبواب أمام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للانطلاق بحريّة أكبر في نشر الدعوة.
سادساً: زادت من قوّة التضامن والتماسك بين المهاجرين والأنصار، وعزّزت وحدة الفريقين في مواجهة التحدّي.
وأثبتت تجربة بدر
أوّلاً: أنّ القِلّة المؤمنة المجاهدة الصابرة التي تملك إرادة قويّة وعزيمة راسخة، وإخلاصاً، ووعياً، وتخطيطاً، تستطيع أن تُحقّق الانتصارات والإنجازات الكبرى بإذن الله حتّى ولو كان العدوّ يملك الكثرة والقوّة الماديّة الكبيرة.
يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ 4.
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ*الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾5.
وثانياً: إنّ النصر بحاجة إلى عنصر روحيّ معنويّ هو الإيمان بالله، والإخلاص له، والاعتماد عليه، والثقة به، وغير ذلك ممّا يُوفِّر للإنسان قوّة روحيّة ومعنويّة، تُبعده عن الشعور بالقلق والخوف والضياع أمام مواقف التحدّي.
وقد كان هذا العنصر حاضراً بقوّة في بدر ومجاهديها، وقد ساهم بصورة أساس في تحقيق الانتصار في هذه المعركة، وفي كلّ المعارك التي خاضها المسلمون في مواجهة أعدائهم.
عوامل انتصار المسلمين
كانت هزيمة قريش وانتصار المسلمين في بدر مفاجأة غير مُتوقَّعة، وصلت أصداؤها إلى الحبشة. ويُمكن تلخيص أسباب وعوامل هذا الانتصار الباهر للمسلمين بما يلي:
1 ـ القيادة الصالحة للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم وشجاعته وإقدامه، وفي ذلك يقول الإمام عليّ عليه السلام: "كُنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه واله وسلم؛ فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه" 6.
2 ـ شجاعة عليّ عليه السلام وتضحيته الفذّة، فهو وحده قتل نصف عدد من قُتلوا من المشركين 7.
3 ـ العقيدة الراسخة والمعنويّات العالية، حيث كان المسلمون على درجة عالية من الإيمان وقوّة الروح المعنويّة، وقاتلوا بكلّ بسالة وأظهروا من الشجاعة ما أثار دهشة المشركين.
4 ـ الإمداد الغيبيّ، الذي حصل على عدّة وجوه، مثل نزول الملائكة على المسلمين بالنصر وحضورهم في ساحة المعركة، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين 8.
غزوة أُحُد
15 شوال 3هـ
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾.
معركة أُحد
استمرّت أحداث بدر ومعركتها التاريخيّة تتفاعل حقداً وكيداً في نفوس المشركين في مكّة. ولم يكن لدى أبي سفيان، قائد الشرك والعدوان آنذاك، غير التفكير بالحرب ومعاودة الهجوم على المسلمين بدافع الثأر، وتحقيق نصر عسكريّ يُغيِّر الآثار النفسيّة والإعلاميّة التي أنتجتها معركة بدر.
فدقّ المشركون طبول الحرب، وخطّطوا للعدوان والهجوم على المدينة، واتفقوا على أن تُرصد أرباح القافلة التجاريّة التي أفلتت من قبضة المسلمين وقادت إلى معركة بدر، لإسناد هذه الحملة العسكريّّة الآثمة.
زحف المشركون باتجاه المدينة، وكان عددهم ثلاثة آلاف مقاتل معهم العتاد والسلاح الكثير، وأخرجوا النساء معهم ليُشجعنّ الجنود على القتال، فعرف النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بمسيرهم من خلال عيونه في مكّة.
ويُقال: إنّ العبّاس بن عبد المطّلب أرسل إليه من مكّة بذلك، فأعلن النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم التعبئة العامّة في صفوف المسلمين استعداداًَ للدفاع، وبثّ العيون ورجال الاستطلاع في المنطقة لجمع المعلومات. وبعد أن استشار أصحابه في سُبُل التصدّي، قرّر مواجهة العدوّ خارج المدينة، فخرج صلى الله عليه واله وسلم في حوالي ألف مقاتل، غير أنّ المنافقين بقيادة عبد الله بن أُبيّ بن سلول، انسحبوا قبل الوصول إلى ساحة المعركة، وكانوا ثلاثمائة، بحجّة أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم خالف رأيهم الداعي إلى قتال المشركين من داخل المدينة، فواصل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مسيرة الجهاد بسبعمائة مقاتل، والتقى الفريقان عند جبل أُحد على بُعد بضعة كيلومترات من المدينة، في شهر شوّال من السنة الثالثة من الهجرة.
رسم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خارطة المعركة، وحدّد مواقع جيشه، فوضع الرماة عند تلّة مشرفة في الجبل، وكان عددهم خمسين رجلاً، ليسُدَّ بهم ثغرة يُمكن للعدوّ أن يتسلّل منها، وليُوفّر حماية خلفيّة للجيش الإسلاميّ، وأمرهم بعدم ترك مواقعهم مهما حدث، فقال لهم فيما يُروى عنه صلى الله عليه واله وسلم: "احموا ظهورنا فإن قبر حمزة سيد الشهداء ويظهر جبل أحد خلفه رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تُشركونا" 9.
وبدأت المعركة، وكان النصر حليف المسلمين في الجولة الأولى، فاستولت قوّاتهم على ساحة المعركة، وانهزم العدوّ، وبدؤوا بجمع الغنائم، فاستهوت الغنائم نفوس بعض الرماة، فتركوا مواقعهم، واندفعوا نحو الغنائم، مخالفين بذلك أوامر قائدهم الذي رفض مع قلّةٍ منهم أن يترك موقعه امتثالاً لتكليف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ممّا أحدث ثغرة في صفوف المجاهدين، فاستغلّها خالد بن الوليد أحد قادة المشركين آنذاك, فهاجم المجاهدين من خلفهم، فتسبّب هذا الهجوم ببعثرة الجيش الإسلاميّّ وانهزامه أمام المشركين الذين استعادوا أنفاسهم بعدما تمكّن خالد بن الوليد من قتل القلّة التي بقيت على الجبل والالتفاف على المسلمين المُنشغلين بجمع الغنائم، وصرخ صارخ أنّ محمّداً قد قُتل فَتَشَتَّت المسلمون تحت وقع المُباغتة، وتفرّقوا عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولم يثبُت معه غير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الذي راح يُقاتل إلى جانب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قتالاً شديداً ويصدّ كتائب المشركين ويُفرّقهم ويقتل فيهم، عندها نادى جبرائيل عليه السلام من السماء: "لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ" 10.
ولمّا رأى المسلمون الفارُّون صبرَ وثباتَ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والإمام عليّ عليه السلام وقوّة جهادهما في سبيل الله وعرفوا أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم لم يَمُت، وهو يدعوهم إليه، بدؤوا يعودون تدريجيّاً إلى ميدان المعركة حتّى اجتمعوا حوله صلى الله عليه واله وسلم، فطلب منهم أن يرجعوا إلى مراكزهم الأولى في القتال، تماماً كما هي الخطّة الأولى، فقاتلوا من جديد قتالاً شديداً، وتمكّنوا من صدّ هجمات المشركين المتواصلة، وأدرك المشركون استحالة إبادة المسلمين وتفتيتهم وتحقيق انتصار عليهم، وكانوا قد أصابهم التعب والجراح، فآثروا الانسحاب عائدين إلى مكّة دون تحقيق أهدافهم.
آثار المعركة
ومع ذلك فإنّ ما أصاب المسلمين في هذه المعركة كان خسارة فادحة، فقد سقط فيها حوالي سبعين شهيداً وفي مقدّمهم حمزة بن عبد المطّلب ومصعب بن عمير (رضوان الله عليهما)، وعدد كبير من الجرحى حتّى أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم أُصيب ببعض الجراح في وجهه، حسب رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، وبلغت جراحات الإمام عليّ عليه السلام نيّفاً وستّين جراحة، وقيل أكثر من ذلك، بين طعنة، ورمية، وضربة؛ أثناء دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وصدّه كتائب الأعداء.
لقد أُصيب المسلمون بفعل النكسة في "أُحد" بصدمة عنيفة وحزن عميق، وشعروا بالضعف والاحباط حتّى كاد اليأس يتسرّب إلى بعضٍ منهم، والشكّ إلى بعضٍ آخر.
أسباب الهزيمة ودروسها
إنّ الأسباب التي أدّت إلى فشل المسلمين في أحد فصول معركة "أُحد" وما يُمكن أن نستفيده من هذه التجربة كثيرة، منها:
1 ـ أهميّة الانضباط والتقيُّد بأوامر القائد وتوجيهاته مهما كانت الظروف.
2 ـ أنّ النصر لا يرتبط بكثرة العدد، ولذلك لا ينبغي الاغترار بالكثرة، بل يجب الاعتماد على النفس والتوكّل على الله والطاعة للقيادة وتحمُّل المسؤوليّة والقيام بالتكاليف.
3 ـ إنّ عناية الله بالمؤمنين وتسديده لهم لا يعني إلغاء جميع الأسباب الطبيعيّة كليّةً، وهذه العناية والإمداد الإلهيّّ مشروطان بالسعي نحو الهدف الأسمى.
4 ـ إنّ الارتباط بالله تعالى والإعراض عن الدنيا ومتاعها عاملان أساسان في تأييد الله تعالى للمسلمين.
وأدّت نتائج معركة أُحد إلى شماتة اليهود وكشف أحقادهم، ومحاولة إثارة الفتن من المنافقين، وإلى زعزعة الثقة بالقدرة العسكريّّة للمسلمين، وشجّعت أعداء الإسلام في أطراف المدينة على الوقوف ضدّ المسلمين والتآمر عليهم.
بدر الكبرى
(17 رمضان 2هـ)
وغزوات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْر...﴾ سورة آل عمران: 123)
الخلاصة
تختلف المرحلة المكّية من حياة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم عن المرحلة المدنيّة، حيث اتجه في المدينة إلى تعزيز القدرات الدفاعيّة للدولة الإسلاميّّة، ووضع النواة الأولى للجيش الإسلاميّّ، وقاد مجموعة من المعارك وأرسل العديد من السرايا العسكريّّة.
كانت أهم سرايا وغزوات النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بدر الكبرى لأنّها حطّمت معنويّات قريش ورفعت من معنويّات المسلمين، ورسّخت عقائدهم، وأدخلت الرعب في نفوس المشركين، وفتحت الأبواب أمام النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في الانطلاق بحريّة أكبر في نشر الدعوة.
في معركة أُحد كان النصر حليف المسلمين في الجولة الأولى، ولكنّهم نتيجة لعدم التزامهم بأوامر النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم وتوجيهاته خسروا المعركة، وكانت هزيمة أُحد درساً قاسياً وصعباً للمسلمين.
*دروس من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1-قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ...﴾ (سورة الحج: 39 ـ 40).
2-هذه التحرّكات لا تُعتبر حرباً كاملة، ولم يحصل في أيٍّ منها معركة أو اشتباك بين الطرفين.
3- الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص259 ـ 161.
4- آل عمران: 123.
5- الأنفال: 65 ـ 66.
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص279.
7-م.ن، المقدّمة ص24.
8- راجع: سورة الأنفال، الآيتان: 9 و17.
9- ابن كثير، السيرة النبويّة، ج3، ص47.
10-الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص110.
((الغزوات والحروب))
غزوة بدر الكبرى (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ (الصف:4)
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (آل عمران: 123)
التحرّكات العسكريّة الأولى
انحصر دور النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في مكّة كقائدٍ إلهيّ بالدعوة والهداية وإرشاد الناس. وبعد استقراره في المدينة تولّى الزعامة السياسيّّة للمسلمين أيضاً، واتّجه لإقامة مجتمع جديد مبنيّ على أساس تعاليم الإسلام، لذلك قام بعدّة خطوات في هذا الاتجاه، كما مرّ سابقاً.
وكانت تنزل على النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم آيات القرآن في المدينة تتضمّن أحكاماً وتعاليم سياسيّة واجتماعيّة. ولمّا صدر من الله تعالى الإذن بالجهاد والدفاع 1، عزم على تشكيل قوّة دفاعيّة لتعزيز الإجراءات الاحترازيّة، ولحماية المسلمين من أيّ هجوم عسكريّ، وبادر إلى وضع النواة الأوّليّة للجيش الإسلاميّّ، وقاد مجموعة من المعارك والغزوات والمناورات العسكريّّة في السنة الثانية للهجرة.
وللمؤرّخين اصطلاحان في المعارك التي خاضها المسلمون في حياة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم هما:
الغزوة: ويقصدون بها المعركة التي يحضرها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم نفسه، ويتولّى هو قيادتها.
السِّريَّة: وهي المجموعة الجهاديّة التي لا يكون فيها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم ويتولّى أحد أصحابه قيادتها.
وأحصى المؤرّخون عدد الغزوات والسرايا في حياة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، فبلغت أكثر من ثمانين غزوة وسَرِيَّة، وكلّها كانت في فترة ما بعد الهجرة.
فقد قام صلى الله عليه واله وسلم بالعديد من التحرُّكات العسكريّّة 2، مثل سَرِيَّة حمزة بن عبد المطّلب التي تألّفت من ثلاثين مقاتلاً، والتي لاحقت قافلة لقريش أثناء عودتها إلى مكّة، لكن مجدي بن عمرو الجهنيّ الذي كان موادعاً للطرفين، حال بينهما، فانصرفا من غير قتال، ثمّ سَرِيَّة عبيدة بن الحارث التي تألّفت من ستين مُقاتِلاً حيث تبعت جماعة أبي سفيان، وسَرِيَّة سعد بن أبي وقاص التي تألّفت من
عشرين مقاتلاً، لاحقت قافلة لقريش، وكذلك تتبّع الرسول صلى الله عليه واله وسلم برفقة جماعة من المسلمين قافلة لقريش حتّى بلغ أرض الأبواء، ولكن لم يقع اشتباك بين الطرفين. وعقد النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في سفره هذا معاهدة مع قبيلة بني ضمرة بأنْ تقف على الحياد. وخرج أيضاً صلى الله عليه واله وسلم على رأس مائة وخمسين من أصحابه لاعتراض قافلة تجاريّة لقريش يقودها أبو سفيان مُتوجِّهاً من مكّة إلى الشام (غزوة ذات العشيرة) ولكنّه لم يلحق بالقافلة، وأبرم أثناء ذلك معاهدة مع قبيلة بني مدلج 3.
معركة بدر
كانت "معركة بدر" أوّل معركة مُسلَّحة كبرى خاضها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم والمسلمون في مواجهة المشركين من قريش، وذلك يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة، قُرْبَ بدر على بُعد حوالي مائة وستين كيلو متراً من المدينة فيما بينها وبين مكّة المكرّمة.
خرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه مستهدفين السيطرة على القافلة التجاريّة التي كان يقودها أبو سفيان، المُتوجِّهة من الشام إلى مكّة، لا طمعاً في المال والغنيمة وإنّما بُغية التعويض على المسلمين ممّا أخذه منهم المشركون، وفرض حصار اقتصاديّ على قريش، علَّ ذلك يدفعها إلى الامتناع عن محاربة الدعوة، والتآمر على الإسلام والمسلمين.
لقد كان قرار التصدّي للقافلة ينطوي على احتمال تطوُّر الموقف، وحصول مواجهة عسكريّة، ونشوب معركة حاسمة ومصيريّة، وهو ما حصل فعلاً.
فقد علم أبو سفيان بتحرُّك النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم فغيّر طريقه، وأرسل إلى مكّة يطلب النجدة من قريش، فأقبلت قريش بأحقادها وكبريائها بألف مقاتل لحماية القافلة، وحين علمت قريش بنجاة القافلة حاول بعض قادتها أن يكتفي بذلك ويدعو إلى الانسحاب والعودة إلى مكّة، إلّا أنّ أبا جهل وغيره أصرَّوا على العدوان، فقرّروا الهجوم على المسلمين، والتقى الجمعان في بدر، وبدأت المعركة بالمبارزة ثمّ التحم الجيشان وهما غير مُتكافئين لا من حيث العدد ولا من حيث العتاد، ولكنّ الله أنزل الكثير من ألطافه ورحمته، فتدخّلت يد الغيب، وجاء الإمداد الملائكيّ للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، فحقّق الله سبحانه النصر للإسلام والمسلمين، واندحرت قوّة قريش، وتشتّت جيشها بين قتيل وجريح وأسير؛ حيث أسفرت المعركة عن قتل سبعين من المشركين وأسر سبعين، ولم يسقط من المسلمين سوى تسعة شهداء وقيل: أحد عشر، وقيل: أربعة عشر شهيداً، ولم يُؤسر منهم أحد.
وقد برز للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في هذه المعركة دور كبير، وظهرت شجاعته المُتميِّزة بين صفوف المسلمين، حيث رُوي أنّه قُتل بيده ثُلث قتلى المشركين، وقيل: قتل نصفهم بيده وشارك الآخرين في قتل النصف الآخر.
لقد حقّق المسلمون في بدر مكاسب ماديّة وأمنيّة وعقيديّة وإعلاميّة، ساهمت في خدمة الدعوة وتثبيت أركانها، وتحقيق نقلة نوعيّة في مجمل الأحداث في الجزيرة العربيّّة.
ولعلّ أبرز نتائج هذه المعركة أنّها
أوّلاً: عزّزت ثقة المسلمين بأنفسهم، وثبّتت إيمان بعض المتردِّدين في إسلامهم.
ثانياً: جعلت من المسلمين قوّة مرهوبة الجانب عند القبائل المشركة واليهود في المنطقة.
ثالثاً: شجّعت الكثيرين على الدخول في الإسلام بعد أن كانت قريش تُشكِّل الحاجز النفسيّ والماديّ لهم.
رابعاً: أضعفت هيبة قريش ونفوذها ومكانتها بين العرب.
خامساً: فتحت الأبواب أمام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للانطلاق بحريّة أكبر في نشر الدعوة.
سادساً: زادت من قوّة التضامن والتماسك بين المهاجرين والأنصار، وعزّزت وحدة الفريقين في مواجهة التحدّي.
وأثبتت تجربة بدر
أوّلاً: أنّ القِلّة المؤمنة المجاهدة الصابرة التي تملك إرادة قويّة وعزيمة راسخة، وإخلاصاً، ووعياً، وتخطيطاً، تستطيع أن تُحقّق الانتصارات والإنجازات الكبرى بإذن الله حتّى ولو كان العدوّ يملك الكثرة والقوّة الماديّة الكبيرة.
يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ 4.
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ*الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾5.
وثانياً: إنّ النصر بحاجة إلى عنصر روحيّ معنويّ هو الإيمان بالله، والإخلاص له، والاعتماد عليه، والثقة به، وغير ذلك ممّا يُوفِّر للإنسان قوّة روحيّة ومعنويّة، تُبعده عن الشعور بالقلق والخوف والضياع أمام مواقف التحدّي.
وقد كان هذا العنصر حاضراً بقوّة في بدر ومجاهديها، وقد ساهم بصورة أساس في تحقيق الانتصار في هذه المعركة، وفي كلّ المعارك التي خاضها المسلمون في مواجهة أعدائهم.
عوامل انتصار المسلمين
كانت هزيمة قريش وانتصار المسلمين في بدر مفاجأة غير مُتوقَّعة، وصلت أصداؤها إلى الحبشة. ويُمكن تلخيص أسباب وعوامل هذا الانتصار الباهر للمسلمين بما يلي:
1 ـ القيادة الصالحة للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم وشجاعته وإقدامه، وفي ذلك يقول الإمام عليّ عليه السلام: "كُنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه واله وسلم؛ فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه" 6.
2 ـ شجاعة عليّ عليه السلام وتضحيته الفذّة، فهو وحده قتل نصف عدد من قُتلوا من المشركين 7.
3 ـ العقيدة الراسخة والمعنويّات العالية، حيث كان المسلمون على درجة عالية من الإيمان وقوّة الروح المعنويّة، وقاتلوا بكلّ بسالة وأظهروا من الشجاعة ما أثار دهشة المشركين.
4 ـ الإمداد الغيبيّ، الذي حصل على عدّة وجوه، مثل نزول الملائكة على المسلمين بالنصر وحضورهم في ساحة المعركة، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين 8.
غزوة أُحُد
15 شوال 3هـ
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾.
معركة أُحد
استمرّت أحداث بدر ومعركتها التاريخيّة تتفاعل حقداً وكيداً في نفوس المشركين في مكّة. ولم يكن لدى أبي سفيان، قائد الشرك والعدوان آنذاك، غير التفكير بالحرب ومعاودة الهجوم على المسلمين بدافع الثأر، وتحقيق نصر عسكريّ يُغيِّر الآثار النفسيّة والإعلاميّة التي أنتجتها معركة بدر.
فدقّ المشركون طبول الحرب، وخطّطوا للعدوان والهجوم على المدينة، واتفقوا على أن تُرصد أرباح القافلة التجاريّة التي أفلتت من قبضة المسلمين وقادت إلى معركة بدر، لإسناد هذه الحملة العسكريّّة الآثمة.
زحف المشركون باتجاه المدينة، وكان عددهم ثلاثة آلاف مقاتل معهم العتاد والسلاح الكثير، وأخرجوا النساء معهم ليُشجعنّ الجنود على القتال، فعرف النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بمسيرهم من خلال عيونه في مكّة.
ويُقال: إنّ العبّاس بن عبد المطّلب أرسل إليه من مكّة بذلك، فأعلن النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم التعبئة العامّة في صفوف المسلمين استعداداًَ للدفاع، وبثّ العيون ورجال الاستطلاع في المنطقة لجمع المعلومات. وبعد أن استشار أصحابه في سُبُل التصدّي، قرّر مواجهة العدوّ خارج المدينة، فخرج صلى الله عليه واله وسلم في حوالي ألف مقاتل، غير أنّ المنافقين بقيادة عبد الله بن أُبيّ بن سلول، انسحبوا قبل الوصول إلى ساحة المعركة، وكانوا ثلاثمائة، بحجّة أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم خالف رأيهم الداعي إلى قتال المشركين من داخل المدينة، فواصل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مسيرة الجهاد بسبعمائة مقاتل، والتقى الفريقان عند جبل أُحد على بُعد بضعة كيلومترات من المدينة، في شهر شوّال من السنة الثالثة من الهجرة.
رسم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خارطة المعركة، وحدّد مواقع جيشه، فوضع الرماة عند تلّة مشرفة في الجبل، وكان عددهم خمسين رجلاً، ليسُدَّ بهم ثغرة يُمكن للعدوّ أن يتسلّل منها، وليُوفّر حماية خلفيّة للجيش الإسلاميّ، وأمرهم بعدم ترك مواقعهم مهما حدث، فقال لهم فيما يُروى عنه صلى الله عليه واله وسلم: "احموا ظهورنا فإن قبر حمزة سيد الشهداء ويظهر جبل أحد خلفه رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تُشركونا" 9.
وبدأت المعركة، وكان النصر حليف المسلمين في الجولة الأولى، فاستولت قوّاتهم على ساحة المعركة، وانهزم العدوّ، وبدؤوا بجمع الغنائم، فاستهوت الغنائم نفوس بعض الرماة، فتركوا مواقعهم، واندفعوا نحو الغنائم، مخالفين بذلك أوامر قائدهم الذي رفض مع قلّةٍ منهم أن يترك موقعه امتثالاً لتكليف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ممّا أحدث ثغرة في صفوف المجاهدين، فاستغلّها خالد بن الوليد أحد قادة المشركين آنذاك, فهاجم المجاهدين من خلفهم، فتسبّب هذا الهجوم ببعثرة الجيش الإسلاميّّ وانهزامه أمام المشركين الذين استعادوا أنفاسهم بعدما تمكّن خالد بن الوليد من قتل القلّة التي بقيت على الجبل والالتفاف على المسلمين المُنشغلين بجمع الغنائم، وصرخ صارخ أنّ محمّداً قد قُتل فَتَشَتَّت المسلمون تحت وقع المُباغتة، وتفرّقوا عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولم يثبُت معه غير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الذي راح يُقاتل إلى جانب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قتالاً شديداً ويصدّ كتائب المشركين ويُفرّقهم ويقتل فيهم، عندها نادى جبرائيل عليه السلام من السماء: "لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ" 10.
ولمّا رأى المسلمون الفارُّون صبرَ وثباتَ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والإمام عليّ عليه السلام وقوّة جهادهما في سبيل الله وعرفوا أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم لم يَمُت، وهو يدعوهم إليه، بدؤوا يعودون تدريجيّاً إلى ميدان المعركة حتّى اجتمعوا حوله صلى الله عليه واله وسلم، فطلب منهم أن يرجعوا إلى مراكزهم الأولى في القتال، تماماً كما هي الخطّة الأولى، فقاتلوا من جديد قتالاً شديداً، وتمكّنوا من صدّ هجمات المشركين المتواصلة، وأدرك المشركون استحالة إبادة المسلمين وتفتيتهم وتحقيق انتصار عليهم، وكانوا قد أصابهم التعب والجراح، فآثروا الانسحاب عائدين إلى مكّة دون تحقيق أهدافهم.
آثار المعركة
ومع ذلك فإنّ ما أصاب المسلمين في هذه المعركة كان خسارة فادحة، فقد سقط فيها حوالي سبعين شهيداً وفي مقدّمهم حمزة بن عبد المطّلب ومصعب بن عمير (رضوان الله عليهما)، وعدد كبير من الجرحى حتّى أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم أُصيب ببعض الجراح في وجهه، حسب رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، وبلغت جراحات الإمام عليّ عليه السلام نيّفاً وستّين جراحة، وقيل أكثر من ذلك، بين طعنة، ورمية، وضربة؛ أثناء دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وصدّه كتائب الأعداء.
لقد أُصيب المسلمون بفعل النكسة في "أُحد" بصدمة عنيفة وحزن عميق، وشعروا بالضعف والاحباط حتّى كاد اليأس يتسرّب إلى بعضٍ منهم، والشكّ إلى بعضٍ آخر.
أسباب الهزيمة ودروسها
إنّ الأسباب التي أدّت إلى فشل المسلمين في أحد فصول معركة "أُحد" وما يُمكن أن نستفيده من هذه التجربة كثيرة، منها:
1 ـ أهميّة الانضباط والتقيُّد بأوامر القائد وتوجيهاته مهما كانت الظروف.
2 ـ أنّ النصر لا يرتبط بكثرة العدد، ولذلك لا ينبغي الاغترار بالكثرة، بل يجب الاعتماد على النفس والتوكّل على الله والطاعة للقيادة وتحمُّل المسؤوليّة والقيام بالتكاليف.
3 ـ إنّ عناية الله بالمؤمنين وتسديده لهم لا يعني إلغاء جميع الأسباب الطبيعيّة كليّةً، وهذه العناية والإمداد الإلهيّّ مشروطان بالسعي نحو الهدف الأسمى.
4 ـ إنّ الارتباط بالله تعالى والإعراض عن الدنيا ومتاعها عاملان أساسان في تأييد الله تعالى للمسلمين.
وأدّت نتائج معركة أُحد إلى شماتة اليهود وكشف أحقادهم، ومحاولة إثارة الفتن من المنافقين، وإلى زعزعة الثقة بالقدرة العسكريّّة للمسلمين، وشجّعت أعداء الإسلام في أطراف المدينة على الوقوف ضدّ المسلمين والتآمر عليهم.
بدر الكبرى
(17 رمضان 2هـ)
وغزوات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْر...﴾ سورة آل عمران: 123)
الخلاصة
تختلف المرحلة المكّية من حياة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم عن المرحلة المدنيّة، حيث اتجه في المدينة إلى تعزيز القدرات الدفاعيّة للدولة الإسلاميّّة، ووضع النواة الأولى للجيش الإسلاميّّ، وقاد مجموعة من المعارك وأرسل العديد من السرايا العسكريّّة.
كانت أهم سرايا وغزوات النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بدر الكبرى لأنّها حطّمت معنويّات قريش ورفعت من معنويّات المسلمين، ورسّخت عقائدهم، وأدخلت الرعب في نفوس المشركين، وفتحت الأبواب أمام النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في الانطلاق بحريّة أكبر في نشر الدعوة.
في معركة أُحد كان النصر حليف المسلمين في الجولة الأولى، ولكنّهم نتيجة لعدم التزامهم بأوامر النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم وتوجيهاته خسروا المعركة، وكانت هزيمة أُحد درساً قاسياً وصعباً للمسلمين.
*دروس من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1-قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ...﴾ (سورة الحج: 39 ـ 40).
2-هذه التحرّكات لا تُعتبر حرباً كاملة، ولم يحصل في أيٍّ منها معركة أو اشتباك بين الطرفين.
3- الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص259 ـ 161.
4- آل عمران: 123.
5- الأنفال: 65 ـ 66.
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص279.
7-م.ن، المقدّمة ص24.
8- راجع: سورة الأنفال، الآيتان: 9 و17.
9- ابن كثير، السيرة النبويّة، ج3، ص47.
10-الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص110.