فترة زمنية فارقة تعيشها المنطقة العربية الآن. إنها لن تكون فترة طويلة بحساب الزمن، وإن كنا لا نعلم مداها يقيناً، لكنها لن تكون بالغة القصر أيضاً؛ هي تقع إذاً في المدى المتوسط على الأرجح (3 - 5 سنوات). وأما «المهمة» التي يلقيها التاريخ على عاتق الزمن خلال الوقت المشار إليه، فهي تصفية إرث مرحلة «الإسلام السياسي» الذي مد ظلّه الكثيف طوال نصف القرن الأخير، اعتباراً مما سمي بنكسة يونيو/ حريزان 1967.
محمد عبد الشفيع عيسى/ جريدة الأخبار
بغض النظر عن الالتباس الناجم عن توصيف ما حدث خلال تلك الأيام الخمسة من شهر يونيو/ حزيران (من الخامس إلى التاسع)، فقد ألقى ضوءاً باهراً على الجانب المظلم من الحدث (هزيمة عسكرية غير مستحقة ومن دون خوض حرب حقيقية في الميدان) بينما أزيح إلى هامش الظلمة جانب آخر لعله الأكثر سطوعاً فى ميزان الحقيقة التاريخية، وهو العدوان الإسرائيلي المبيّت المفتتح لعلاقة عضوية غير مسبوقة (وبخاصة في الجانب العسكري) بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية؛ بين «الإمبريالية الصغرى» و«الإمبريالية الكبرى»، إن شئت.
اعتبرت «النكسة» – أو العدوان بالأحرى – خصماً فارقاً من رصيد حركة القومية العربية وقيادتها، القيادة الناصرية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس منذ فجر ثورة 23 يوليو/ تموز 1952. ثم جاء رحيل القائد المباغت في 28 سبتمبر/ أيلول 1970 ما ترك فراغاً سياسياً وقيادياً هائلاً لم يكن ليملأه سوى «الإسلام السياسي». وتشاء الأقدار أن تكون حرب أكتوبر/ تشرين 1973 مواكبة - في ذات اللحظة التاريخية المركبة – فورة ارتفاع أسعار النفط، فأطلت «الحقبة النفطية» لتزيح مصر من موقعها المحوري على الخريطة العربية والعالمية، وليكتمل بذلك انتهاء الدور التاريخي لكل من القيادة الناصرية والقاعدة المصرية، في ضربة واحدة وفي توقيت واحد على سبيل التقريب. وكان بروز قيادة «السادات» في مصر عاملاً قوياً مساعداً لتدشين الحدث التاريخي الكبير.
وكما ملأ «الإسلام السياسي» فراغ السياسة على المستوى المجتمعي العربي، فقد ملأ النفط وبلدان النفط فراغ الاقتصاد والحركة على المستوى الرسمي، كليهما.
وما بين ثنائية الإسلام السياسي والنفط، أخذ يتشكل قوس عقائدي فريد، بحيث يصبح الوجه الأبرز للإسلام على صعيد العقيدة والشريعة، هو ذلك المستمد من التراث الحاضر لدى منطقة النفط بالذات، انطلاقاً من السلفية وبخاصة منها «الوهابية». وبينما أخذت الحركة الكلاسيكية للإخوان المسلمين في الانزواء تدريجاً، طفت السلفية مفترشة الميدان الأثير، و«مفترسة» أيضاً رقعة كاملة من الفراغ العقائدي والديني.
وتناسلت من السلفية «بناتها» الأثيرات عبر الزمن، بالتفاعل مع متغيرات دولية واقليمية عميقة، وخاصة منذ الدخول السوفياتي في أفغانستان عام 1979، وتلاه الانخراط الغربي – الأميركي – الخليجي النفطي في حرب أفغانستان، ليستوي عود ذلك الفرع البازغ من السلفية، نقصد «السلفية الجهادية». لقد ولدت «القاعدة» إذاً، وولدت زعامتها المبرّزة على يدي أسامة بن لادن. وتستوي القاعدة لواء عقائدياً وتنظيمياً، ثم ينفرط العقد التنظيمي بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ليبقى ناظم «الفكرة». وتم اختبار الفكرة – بعد اختمارها – إبان أتون الغزو الأميركي للعراق خلال سنوات حاسمة (2003 -2010) لينهض بنيان القاعدة وتنصهر مكوناته فتستوي قوة فكرية وعملية ذات قدرة هائلة برغم غياب التنظيم المركزي على المستوى العربي والإسلامي العام.
تلقت «القاعدة» ضربات من الجميع، وأتت أحداث ما سمي غربياً بالربيع العربي، لتنشأ من رميمها عظام كيان جديد، «ما بعد – قاعدي»، يرث كوادرها وفكرتها، ويضع لها ناموساً جديداً قائماً على هامش الكيان الإقليمي (بمعنى الأرضي)، أي الاستيلاء على أرض بغية تحويلها إلى إقليم ضمن مفهوم «دولتي» جديد... إنها إذاً مرحلة «داعش» التي لا غرابة أن سمّت نفسها بتنظيم «الدولة»، ثم «الدولة وأخواتها» اللاتي يعلنّ انتسابهنّ إلى «الأخت الكبرى» في بقاع المشرق و«الغرب الإسلامي» مشتملاً على الحزام الإسلامي جنوب الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية السمراء.
يشتد عود «داعش» في التوقيت نفسه الذي أخذ يشهد احتضاراً بعد صحوة موقتة قوية لجماعة «الإخوان المسلمين» ذات القلب والعقل السلفي ما قبل الجهادي ثم «الجهادي»، وذلك في موضع ولادتها الأولى وحاضرتها الأبرز، مصر. يعكس «الاحتضار السياسي» لحركة «الإخوان» في مصر منذ منتصف 2013 خللاً بنيوياً عميقاً، واختلالاً في منظومة الإدراك السياسي والعقدي، ويؤشر لعملية تاريخية يبدو أننا نستشرفها الآن: إنها عملية اضمحلال فانهيار المشروع الأوسع والأكبر للإسلام السياسي الذي استوى نصف قرن على التمام تقريباً.
وكما شهد تيار الإسلام السياسي صخب النضوج في أوجه الازدهار، في السبعينيات فالثمانينيات وأوائل التسعينيات، في مصر دائماً وخصوصاً، على أيدي «الجماعة الإسلامية» و«تنظيم الجهاد» فكذلك تنتقل عدوى الاحتضار رويداً من «الإخوان» إلى كامل المشروع الإسلامي ــ السلفي المجنّح؛ وتشاء المقادير أن يتولى التعبير عن صخب الاختصار ووهجه القاسي تنظيم بازغ من رحم «القاعدة» الجهادية، بنفس دولتي عميق. ولكن هل دخل مشروع الإسلام السياسي العريض مرحلة الاضمحلال والأفول حقاً؟.
لا بأس أن يكون ذلك كذلك، أخذاً في الاعتبار عبرة المشروع الستاليني (الاشتراكوي) في ثلاثينيات وأربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين، حين كان تفسير ستالين لمقولة اضمحلال الدولة في الشيوعية – تلك المقولة ذات الموقع الأثير في بنية التفكير الأولى لكارل ماركس ثم لينين إلى حد ما - هو أن الدولة قبل أن تضحمل تقوى، ثم تبلغ أقصى قوتها قبل أن تذوي. وكان ذلك تفسيراً عقائدياً معكوساً ذا طابع تبريري لطبيعة المنظومة السياسية الستالينية التي أرادت «بناء الاشتراكية في بلد واحد» ضداً لتروتسكي - داعية الثورة الدائمة والشاملة على المستوى العالمي.
هل كان ستالين محقاً، بغض النظر عن الطابع التبريري المحض لمقولته الزائفة بأن القوة البالغة تمهيد لاضمحلال مقدر ومضمون؟.ربما يمكن لنا تفسير مقولة الاضمحلال الستاليني ولكن بطريقة مخالفة تماماً لما أراد، إذْ القوة المفرطة – عن طريق ما يسميه البعض بلاغياً «مكر التاريخ» – إنما تمهّد لنهايتها بالذات، عبر «عملية» Process تاريخية حقاً، هي الاضمحلال والأفول.
لذا يبدو استواء عود السلفية الجهادية الدولتية، الممثلة عبر آخر حلقاتها في «داعش»، بمثابة نذير الاضمحلال والأفول التاريخي (الأكيد) أي بوصفه «ضرورة تاريخية»... ألا فلتكن أنهار الدم المهرقة على امتداد الإقليم العربي – الإفريقي قرباناً لوحش الشر الوجودي، من أجل تسهيل غروب أحد التمثلات الكبرى للشر التاريخي مجسداً في «إله القتل والدمار»، إذا صح هذا التعبير، المسمى في الكتابة السياسية الجارية «داعش»!
المخاض الدموي لما بعد التوحش
كيف تتبّدى أمام ناظرْينا آلام المخاض العسير؟ إنه لمخاض دامٍ حقّاً، يعكس في تمثله المجسّد انتقال ديالكتيكية العمل السياسي الإسلامي من «الجهاد الخارجي» ضد غير الشيوعي فالأميركي، ولكن ليس الإسرائيلي أبداً، إلى جهاد النفس المنقلبة على نفسها، وبالتالي من العنف غير المعمّم إلى العنف المسلح بأطيافه العديدة، وأخيراً إلى «العنف الدموي» كعنف أعمى ومقدس بطبيعة الحال.
في قلب هذا المخاض الدامي، المعمّد بالنار المقدسة، تتصاعد إلى عنان السماء تقلصات وآهات الجسد العليل، الجسد السياسي العربي – الإسلامي بشكل عام، والذي أصابه المرض العضال بفعل فاعل أجنبي ومحلي مقيم، وقد أخذ منه المرض مبلغه على مهل خلال عشرات السنين. وكانت المحصلة كياناً سياسياً يواجه الآن عاصفة اضمحلال المشروع الإسلامي، في غيبة المشروع القومي القديم، وفي حضور مثير لنبت ليبرالوي زاعق؛ ولكن مع ظهور خجول وئيد الخطى إلى الأمام لتيار وطني – قومي وتقدمي فى البلدان العربية كافة، يشق طريقه بمشقة وإنْ بثبات أكيد.
ولقد تعددت حلقات تسلل الداء الوبيل أو المرض العضال خلال العشريات الأخيرة:
أــ انتقال اعتباطي مفروض من «مرحلة ما قبل الدولة» في عديد البلدان العربية إلى مرحلة «العولمة» ذات المحتوى الغربي ــ الأميركي، فجأة ومن دون سابق تمهيد، أي من دون توفر شرط الضرورة التاريخية للانخراط السوي في تيارات العولمة، وهو شرط تبلور الكيان السياسي المنظم في البلد المرشح للانفتاح، وهو ما لم يتحقق لدينا بطبيعة الحال.
ب ــ بل وانتقال مما قبل الدولة بمعناها الصحيح إلى حالة «اللادولة» No-State أي الفوضى العارمة، تحت تأثير عوامل متفاعلة من ضعف الكيان الداخلي والتدخل الاختراقي الهجومي ذي الطابع العدواني للمتغير الخارجي الإقليمي والعالمي، كما هي حالة سوريا التي تعيش منذ أربع سنوات بين فكّي الكماشة: الضعف المزري للقوى السياسية التي يفترض فيها أن تكون حاملة للمشروع المستقبلي، وتدخّل فجّ وفظ لقوى عربية وكذا إقليمية، كما في حالة تركيا.
ج ــ انتقال من حالة «ما قبل الدولة» و«اللادولة» إلى حالة يمكن تسميتها «ضد الدولة» Anti-State، وفي هذه الحالة يجرى الانتقال بالقهقرى سريعاً إلى الوراء، إلى اللوذ بأحضان الكيانات الفرعية السابقة على محاولات تشكل الدولة الحديثة، والتي أدّت دورها التاريخي السابق في البناء التدريجي للأمة العربية. وقد أصبحت هذه الكيانات في الظرف المستجد عائقاً يحول دون إمكانية تشكّل الدولة... نقصد هنا خطوط الولاءات الهوياتية «قبل الوطنية»، إثنية كانت أو مذهبية أو غيرها.
د ــ أدوار ملتبسة لما يقال له بلغة أبحاث علم السياسة «الفاعلون من غير الدول» Non – State Actors حيث منظمات المجتمع المدني ذات الطابع المحلي، أو فروع المنظمات الخارجية، وبخاصة في حقول ما يسمى بحقوق الإنسان والانتقال الديمقراطي. وقد تؤدي المنظمات من هذا القبيل دوراً غير إيجابي في المحصلة النهائية ضمن عملية العبور التاريخي المفترض من «المخاض الدامي» إلى مرحلة تصليب التيار الوطني ــ القومي التقدمي في البلدان العربية.
هكذا إذاً تبدو ملامح واقعنا العربي المعقد في لوحته الحاضرة:
ــ نهاية لمشروع تاريخي كامل استمر نصف قرن، بلغ نقطة النهاية في مساره وسباقه مع الزمن، نقطة إدارة التوحش التي ستتلوها نهاية التوحش ذاته.
ــ كيانات سياسية غير جاهزة لاستقبال الحدث التاريخي الكبير لاحتضار المشروع الماثل، بفضل مؤثرات فاعلة سلباً خلال عشرات السنين.
ــ تطور وئيد لانبعاث التيار الوطني ــ القومي التقدمي، من قلب الركام. وهو شرط الضرورة لمقابلة حدث الموت البطيء بحدث الولادة المتعسّرة ذات الأفق التاريخي الإيجابي الضروري، غير منازع!.
عدل سابقا من قبل المخرج علي العذاري في الأحد يوليو 12, 2015 9:09 pm عدل 3 مرات (السبب : #منتديات المخرج علي العذاري)
محمد عبد الشفيع عيسى/ جريدة الأخبار
بغض النظر عن الالتباس الناجم عن توصيف ما حدث خلال تلك الأيام الخمسة من شهر يونيو/ حزيران (من الخامس إلى التاسع)، فقد ألقى ضوءاً باهراً على الجانب المظلم من الحدث (هزيمة عسكرية غير مستحقة ومن دون خوض حرب حقيقية في الميدان) بينما أزيح إلى هامش الظلمة جانب آخر لعله الأكثر سطوعاً فى ميزان الحقيقة التاريخية، وهو العدوان الإسرائيلي المبيّت المفتتح لعلاقة عضوية غير مسبوقة (وبخاصة في الجانب العسكري) بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية؛ بين «الإمبريالية الصغرى» و«الإمبريالية الكبرى»، إن شئت.
اعتبرت «النكسة» – أو العدوان بالأحرى – خصماً فارقاً من رصيد حركة القومية العربية وقيادتها، القيادة الناصرية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس منذ فجر ثورة 23 يوليو/ تموز 1952. ثم جاء رحيل القائد المباغت في 28 سبتمبر/ أيلول 1970 ما ترك فراغاً سياسياً وقيادياً هائلاً لم يكن ليملأه سوى «الإسلام السياسي». وتشاء الأقدار أن تكون حرب أكتوبر/ تشرين 1973 مواكبة - في ذات اللحظة التاريخية المركبة – فورة ارتفاع أسعار النفط، فأطلت «الحقبة النفطية» لتزيح مصر من موقعها المحوري على الخريطة العربية والعالمية، وليكتمل بذلك انتهاء الدور التاريخي لكل من القيادة الناصرية والقاعدة المصرية، في ضربة واحدة وفي توقيت واحد على سبيل التقريب. وكان بروز قيادة «السادات» في مصر عاملاً قوياً مساعداً لتدشين الحدث التاريخي الكبير.
وكما ملأ «الإسلام السياسي» فراغ السياسة على المستوى المجتمعي العربي، فقد ملأ النفط وبلدان النفط فراغ الاقتصاد والحركة على المستوى الرسمي، كليهما.
وما بين ثنائية الإسلام السياسي والنفط، أخذ يتشكل قوس عقائدي فريد، بحيث يصبح الوجه الأبرز للإسلام على صعيد العقيدة والشريعة، هو ذلك المستمد من التراث الحاضر لدى منطقة النفط بالذات، انطلاقاً من السلفية وبخاصة منها «الوهابية». وبينما أخذت الحركة الكلاسيكية للإخوان المسلمين في الانزواء تدريجاً، طفت السلفية مفترشة الميدان الأثير، و«مفترسة» أيضاً رقعة كاملة من الفراغ العقائدي والديني.
وتناسلت من السلفية «بناتها» الأثيرات عبر الزمن، بالتفاعل مع متغيرات دولية واقليمية عميقة، وخاصة منذ الدخول السوفياتي في أفغانستان عام 1979، وتلاه الانخراط الغربي – الأميركي – الخليجي النفطي في حرب أفغانستان، ليستوي عود ذلك الفرع البازغ من السلفية، نقصد «السلفية الجهادية». لقد ولدت «القاعدة» إذاً، وولدت زعامتها المبرّزة على يدي أسامة بن لادن. وتستوي القاعدة لواء عقائدياً وتنظيمياً، ثم ينفرط العقد التنظيمي بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ليبقى ناظم «الفكرة». وتم اختبار الفكرة – بعد اختمارها – إبان أتون الغزو الأميركي للعراق خلال سنوات حاسمة (2003 -2010) لينهض بنيان القاعدة وتنصهر مكوناته فتستوي قوة فكرية وعملية ذات قدرة هائلة برغم غياب التنظيم المركزي على المستوى العربي والإسلامي العام.
تلقت «القاعدة» ضربات من الجميع، وأتت أحداث ما سمي غربياً بالربيع العربي، لتنشأ من رميمها عظام كيان جديد، «ما بعد – قاعدي»، يرث كوادرها وفكرتها، ويضع لها ناموساً جديداً قائماً على هامش الكيان الإقليمي (بمعنى الأرضي)، أي الاستيلاء على أرض بغية تحويلها إلى إقليم ضمن مفهوم «دولتي» جديد... إنها إذاً مرحلة «داعش» التي لا غرابة أن سمّت نفسها بتنظيم «الدولة»، ثم «الدولة وأخواتها» اللاتي يعلنّ انتسابهنّ إلى «الأخت الكبرى» في بقاع المشرق و«الغرب الإسلامي» مشتملاً على الحزام الإسلامي جنوب الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية السمراء.
يشتد عود «داعش» في التوقيت نفسه الذي أخذ يشهد احتضاراً بعد صحوة موقتة قوية لجماعة «الإخوان المسلمين» ذات القلب والعقل السلفي ما قبل الجهادي ثم «الجهادي»، وذلك في موضع ولادتها الأولى وحاضرتها الأبرز، مصر. يعكس «الاحتضار السياسي» لحركة «الإخوان» في مصر منذ منتصف 2013 خللاً بنيوياً عميقاً، واختلالاً في منظومة الإدراك السياسي والعقدي، ويؤشر لعملية تاريخية يبدو أننا نستشرفها الآن: إنها عملية اضمحلال فانهيار المشروع الأوسع والأكبر للإسلام السياسي الذي استوى نصف قرن على التمام تقريباً.
وكما شهد تيار الإسلام السياسي صخب النضوج في أوجه الازدهار، في السبعينيات فالثمانينيات وأوائل التسعينيات، في مصر دائماً وخصوصاً، على أيدي «الجماعة الإسلامية» و«تنظيم الجهاد» فكذلك تنتقل عدوى الاحتضار رويداً من «الإخوان» إلى كامل المشروع الإسلامي ــ السلفي المجنّح؛ وتشاء المقادير أن يتولى التعبير عن صخب الاختصار ووهجه القاسي تنظيم بازغ من رحم «القاعدة» الجهادية، بنفس دولتي عميق. ولكن هل دخل مشروع الإسلام السياسي العريض مرحلة الاضمحلال والأفول حقاً؟.
لا بأس أن يكون ذلك كذلك، أخذاً في الاعتبار عبرة المشروع الستاليني (الاشتراكوي) في ثلاثينيات وأربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين، حين كان تفسير ستالين لمقولة اضمحلال الدولة في الشيوعية – تلك المقولة ذات الموقع الأثير في بنية التفكير الأولى لكارل ماركس ثم لينين إلى حد ما - هو أن الدولة قبل أن تضحمل تقوى، ثم تبلغ أقصى قوتها قبل أن تذوي. وكان ذلك تفسيراً عقائدياً معكوساً ذا طابع تبريري لطبيعة المنظومة السياسية الستالينية التي أرادت «بناء الاشتراكية في بلد واحد» ضداً لتروتسكي - داعية الثورة الدائمة والشاملة على المستوى العالمي.
هل كان ستالين محقاً، بغض النظر عن الطابع التبريري المحض لمقولته الزائفة بأن القوة البالغة تمهيد لاضمحلال مقدر ومضمون؟.ربما يمكن لنا تفسير مقولة الاضمحلال الستاليني ولكن بطريقة مخالفة تماماً لما أراد، إذْ القوة المفرطة – عن طريق ما يسميه البعض بلاغياً «مكر التاريخ» – إنما تمهّد لنهايتها بالذات، عبر «عملية» Process تاريخية حقاً، هي الاضمحلال والأفول.
لذا يبدو استواء عود السلفية الجهادية الدولتية، الممثلة عبر آخر حلقاتها في «داعش»، بمثابة نذير الاضمحلال والأفول التاريخي (الأكيد) أي بوصفه «ضرورة تاريخية»... ألا فلتكن أنهار الدم المهرقة على امتداد الإقليم العربي – الإفريقي قرباناً لوحش الشر الوجودي، من أجل تسهيل غروب أحد التمثلات الكبرى للشر التاريخي مجسداً في «إله القتل والدمار»، إذا صح هذا التعبير، المسمى في الكتابة السياسية الجارية «داعش»!
المخاض الدموي لما بعد التوحش
كيف تتبّدى أمام ناظرْينا آلام المخاض العسير؟ إنه لمخاض دامٍ حقّاً، يعكس في تمثله المجسّد انتقال ديالكتيكية العمل السياسي الإسلامي من «الجهاد الخارجي» ضد غير الشيوعي فالأميركي، ولكن ليس الإسرائيلي أبداً، إلى جهاد النفس المنقلبة على نفسها، وبالتالي من العنف غير المعمّم إلى العنف المسلح بأطيافه العديدة، وأخيراً إلى «العنف الدموي» كعنف أعمى ومقدس بطبيعة الحال.
في قلب هذا المخاض الدامي، المعمّد بالنار المقدسة، تتصاعد إلى عنان السماء تقلصات وآهات الجسد العليل، الجسد السياسي العربي – الإسلامي بشكل عام، والذي أصابه المرض العضال بفعل فاعل أجنبي ومحلي مقيم، وقد أخذ منه المرض مبلغه على مهل خلال عشرات السنين. وكانت المحصلة كياناً سياسياً يواجه الآن عاصفة اضمحلال المشروع الإسلامي، في غيبة المشروع القومي القديم، وفي حضور مثير لنبت ليبرالوي زاعق؛ ولكن مع ظهور خجول وئيد الخطى إلى الأمام لتيار وطني – قومي وتقدمي فى البلدان العربية كافة، يشق طريقه بمشقة وإنْ بثبات أكيد.
ولقد تعددت حلقات تسلل الداء الوبيل أو المرض العضال خلال العشريات الأخيرة:
أــ انتقال اعتباطي مفروض من «مرحلة ما قبل الدولة» في عديد البلدان العربية إلى مرحلة «العولمة» ذات المحتوى الغربي ــ الأميركي، فجأة ومن دون سابق تمهيد، أي من دون توفر شرط الضرورة التاريخية للانخراط السوي في تيارات العولمة، وهو شرط تبلور الكيان السياسي المنظم في البلد المرشح للانفتاح، وهو ما لم يتحقق لدينا بطبيعة الحال.
ب ــ بل وانتقال مما قبل الدولة بمعناها الصحيح إلى حالة «اللادولة» No-State أي الفوضى العارمة، تحت تأثير عوامل متفاعلة من ضعف الكيان الداخلي والتدخل الاختراقي الهجومي ذي الطابع العدواني للمتغير الخارجي الإقليمي والعالمي، كما هي حالة سوريا التي تعيش منذ أربع سنوات بين فكّي الكماشة: الضعف المزري للقوى السياسية التي يفترض فيها أن تكون حاملة للمشروع المستقبلي، وتدخّل فجّ وفظ لقوى عربية وكذا إقليمية، كما في حالة تركيا.
ج ــ انتقال من حالة «ما قبل الدولة» و«اللادولة» إلى حالة يمكن تسميتها «ضد الدولة» Anti-State، وفي هذه الحالة يجرى الانتقال بالقهقرى سريعاً إلى الوراء، إلى اللوذ بأحضان الكيانات الفرعية السابقة على محاولات تشكل الدولة الحديثة، والتي أدّت دورها التاريخي السابق في البناء التدريجي للأمة العربية. وقد أصبحت هذه الكيانات في الظرف المستجد عائقاً يحول دون إمكانية تشكّل الدولة... نقصد هنا خطوط الولاءات الهوياتية «قبل الوطنية»، إثنية كانت أو مذهبية أو غيرها.
د ــ أدوار ملتبسة لما يقال له بلغة أبحاث علم السياسة «الفاعلون من غير الدول» Non – State Actors حيث منظمات المجتمع المدني ذات الطابع المحلي، أو فروع المنظمات الخارجية، وبخاصة في حقول ما يسمى بحقوق الإنسان والانتقال الديمقراطي. وقد تؤدي المنظمات من هذا القبيل دوراً غير إيجابي في المحصلة النهائية ضمن عملية العبور التاريخي المفترض من «المخاض الدامي» إلى مرحلة تصليب التيار الوطني ــ القومي التقدمي في البلدان العربية.
هكذا إذاً تبدو ملامح واقعنا العربي المعقد في لوحته الحاضرة:
ــ نهاية لمشروع تاريخي كامل استمر نصف قرن، بلغ نقطة النهاية في مساره وسباقه مع الزمن، نقطة إدارة التوحش التي ستتلوها نهاية التوحش ذاته.
ــ كيانات سياسية غير جاهزة لاستقبال الحدث التاريخي الكبير لاحتضار المشروع الماثل، بفضل مؤثرات فاعلة سلباً خلال عشرات السنين.
ــ تطور وئيد لانبعاث التيار الوطني ــ القومي التقدمي، من قلب الركام. وهو شرط الضرورة لمقابلة حدث الموت البطيء بحدث الولادة المتعسّرة ذات الأفق التاريخي الإيجابي الضروري، غير منازع!.
عدل سابقا من قبل المخرج علي العذاري في الأحد يوليو 12, 2015 9:09 pm عدل 3 مرات (السبب : #منتديات المخرج علي العذاري)