منهج الإمام الحسين عليه السلام


تمهيد
بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام نهض الإمام الحسين عليه السلام بأعباء الإمامة وتحرّك وفق مسؤوليّته تجاه شريعة ربّه وأمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته وريث النبوّة، مراعياً ظروف الأمّة ومراقباً لمدى تدهورها وساعياً للمحافظة على ثمرة جهود الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد عمل الإمام عليه السلام في فترة حكم معاوية على تحصين الأمّة ضدّ الانهيار التامّ وإعطائها من المقوّمات القدر الكافي، كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن الّتي تستولدها الجاهليّة الأمويّة.

ويمكن أن نلخّص مجمل نشاطه في هذه الفترة بما يلي:
1- مواجهة معاوية وبيعة يزيد
بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام قرّر معاوية أن يُسافر بنفسه إلى المدينة ليأخذ البيعة لابنه يزيد ويقنع المعارضين. وبعد أن اجتمع بالإمام عليه السلام وعبد الله بن العبّاس أشاد بالنبيّصلى الله عليه وآله وسلم وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ودعاهما إلى بيعته، فانبرى الإمام عليه السلام وواجهه بكلام ذُهِل له معاوية.
وقد اتّسم موقف الإمام عليه السلام من معاوية بالشدّة والصرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة.

2- جمع الكلمة والاستجابة للجماهير
أخذت الوفود تترى على الإمام الحسين عليه السلام من جميع الأقطار الإسلاميّة، وهي تستغيث به نتيجة الظلم والجور الّذي حلّ بهم، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد. ورفع والي المدينة مروان بن الحكم كتاباً إلى معاوية يصف له فيه تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمام عليه السلام.

3- فضح جرائم معاوية
كتب الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمّة للأزمات، وممّا جاء فيها: "... ألست قاتل حِجْر بن عديّ أخا كِندَة وأصحابه المصلّين العابدين... قتلتهم ظلماً وعدواناً... أولستَ قاتل عمرو بن الحمق الخزاعيّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... أولستَ بمدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عُبيد ثقيف، فزعمت أنّه ابن أبيك؟... أولستَ قاتل الحضرميّ الّذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين عليّ فكتبت إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ؟"1.
ولم يصل إلينا وثيقة سياسيّة في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة وسجّلت الجرائم الّتي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

4- استعادة الحقوق المضيّعة
كان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أميّة لتقوية مركزهم السياسيّ والاجتماعيّ. وكان الإمام عليه السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية الّذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعيّ، ولا يقوم إلّا على القمع والتزييف والإغراء. وقد اجتازت على المدينة أموال من اليمن إلى خزينة دمشق، فعمد الإمام عليه السلام إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين2.

إنّ الإمام الحسين عليه السلام دلّ بعمله على أنّ الخليفة غير الشرعيّ ليس من حقّه أن يتصرّف بأموال المسلمين، وأنّ ذلك من حقوق الحاكم الشرعيّ، وهو الإمام الحسين عليه السلام نفسه الّذي ينفق أموال بيت المال وفق المعايير الإسلاميّة.

5- تذكير الأمّة بمسؤوليّتها‏
عقد الإمام عليه السلام مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، وانبرى عليه السلام خطيباً فيهم، وتحدّث بما ألمّ بعترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم من المحن الّتي صبّها عليهم معاوية... وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين.
وكان هذا المؤتمر يتضمّن الإعداد لوضعٍ مستقبليّ كان قد خطّط له الإمام عليه السلام.

الثورة الحسينيّة: العوامل والأهداف‏

1- لماذا وقّت الإمام عليه السلام ثورته بموت معاوية؟
بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام بمؤامرة من قبل معاوية ونقض معاوية لبنود الصلح تحرّكت الشيعة وطالبت الإمام الحسين عليه السلام بالتحرّك والثورة ضدّ معاوية، حيث إنّ الحسين عليه السلام كان يملك الدليل المقبول لثورته، ولكنّه لم يستجب لطلباتهم وآثر السكون ما دام معاوية حيّاً.
والسرّ - كما يبدو - كان يكمن في أمرين على الأقلّ:
الأوّل: أنّ الوفاء بالعهد خُلق إسلاميٌّ رفيع يمثّله الإمام المعصوم أحسن تمثيل، ولا يسوِّغ الإمام لنفسه أن يهبط إلى مستوى معاوية في نقضه للعهد، بالرغم من أنّ نقض العهد من قِبل معاوية مسوّغ شرعيّ وأخلاقيّ للخروج من تعهّده.
الثاني: أنّ السبب الّذي من أجله عقد الإمام الحسن عليه السلام الصلح مع معاوية ما زال مستمرّاً ونافذ المفعول. والإمام الحسين عليه السلام لن يتحرّك ولن يثور، إلّا إذا تهيّأت الظروف الموضوعيّة الّتي تضمن لثورته تحقيق أهدافها.

وكان السبب في إبرام الصلح أنّ الأمّة الإسلاميّة كانت قد سيطرت عليها حالة الضجر والملل من القتال حينما لاحظت مرارة الصراع بين الإمام عليّّ عليه السلام ومعاوية في صفّين، وبينه وبين عائشة وطلحة والزبير في الجمل، وبينه عليه السلام وبين الخوارج في النهروان. وقد سرى هذا الملل والضجر إلى جمعٍ من الموالين لأهل البيت عليهم السلام، ولم يكن بالإمكان علاج هذه الظاهرة حتّى بالتضحية، فكان لا بدّ من الصبر والتأنّي ليتّضح لعامّة المسلمين مدى دَجَل معاوية في تظاهره بالإسلام، ومدى التزام أهل البيت عليهم السلامبمبادئهم الرساليّة وتفانيهم في الدفاع عن الإسلام.

2- الدوافع الحقيقيّة للثورة الحسينيّة
هناك أكثر من دافع وسبب لتعليل النهضة الحسينيّة. وقد تكون متداخلة ومترتّبة بعضها على بعض. والأسباب الحقيقيّة لا بدّ أن نستلهمها من صاحب الثورة نفسه ولا يكفي أن نستند فيها إلى تحليلات الآخرين.

ونلاحظ في أكثر من مشهد حسينيّ، ومنذ بداية الحركة إلى نهايتها، إعلان الإمام الحسين عليه السلام أنّه إنّما قام لطلب الإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ولمهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتمثِّل في التصدّي للحاكم الجائر المستحلّ لحرمات الله. وحيث لا يتحقّق ذلك إلّا بالتضحية والشهادة في سبيل الله، تعيّن هذا الأسلوب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا سيّما إذا كان تركه يؤدّي إلى محق الشريعة وضياع الرسالة الّتي لا شي‏ء أغلى منها في ميزان الله تعالى.

وللوصول إلى الدوافع والأسباب الّتي حتّمت على الإمام الحسين عليه السلام اختيار طريق التضحية، لا بدّ أن نقف على أبعاد المشكلة الحقيقيّة الّتي كانت تعانيها الأمّة الإسلاميّة في عصر الإمام الحسين عليه السلام لتتّضح لنا مدى سلامة هذا الطريق والاختيار.

وهناك أكثر من مشهد لتصوير مدى عمق مرض فقدان الإرادة في جسم الأمّة وعلى مختلف المستويات والقطاعات الاجتماعيّة بدءً بأقرب الناس إلى أهل البيت عليهم السلاموانتهاءً بالبعيدين عنهم وعن ثقافتهم.

فلا بدّ أن نستعرض بعض النماذج لرسم صورةٍ عن هذا الواقع المؤلم الّذي كان يلمسه الإمام الحسين عليه السلام بكلّ وضوح.
1- لقد أجمعت كلمة عقلاء المسلمين على تخويف الإمام الحسين عليه السلام يوم صمّم أن يرفض بيعة يزيد ويثور عليه. وكانوا يقترحون عليه الحلول الّتي يؤمن معها على حياته عليه السلام وإن كان ذلك على حساب الدِّين وبقائه، ومن هؤلاء: محمّد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن العبّاس وعبد الله بن عمر، وكانت نصائحهم تعبّر عن نوعٍ من الانهيار النفسيّ الّذي شمل زعماء المسلمين فضلاً عن الجماهير.

2- موقف عامّة زعماء البصرة الموالين لخطّ الإمام عليّّ عليه السلام الّذين كاتبهم الإمام الحسين عليه السلام واستنصرهم فلم يستجيبوا لندائه، وكان إقدام الحسين عليه السلام يُعدُّ عند هؤلاء نوعاً من العجلة وقلّة الأناة، فمثلاً كان جواب الأحنف بن قيس الّذي تربّى على يدي الإمام عليّّ عليه السلام آية واحدة يأمره فيها بالتصبّر والتريّث.

3- حينما لقي الإمام الحسين عليه السلام عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ استنصره، وكان عبيد الله ممّن عرف الحسين عليه السلام، وعرف خطّ الحسين عليه السلام، لكنّه كان مستعدّاً لأن يقدّم فرسه لمولاه وعزّ عليه أن يقدّم قطرة من دمه في سبيل الله.

4- ذهب حبيب بن مظاهر الأسديّ ليدعو عشيرته بني أسد لنصرة الإمام الحسين عليه السلام، وما كان من العشيرة إلّا أن غادرت بأجمعها تلك الليلة المنطقة واختارت أن تبقى حياديّة لا إلى الحسين عليه السلام ولا إلى عدوّ الحسين عليه السلام، وهل هذه إلّا الهزيمة النفسيّة الّتي مُنيت بها قطاعات الأمّة بمختلف مستوياتها يومذاك؟

5- لقد استطاع عبيد الله بن زياد خلال أسبوعين أو ثلاثة بعد مقتل مسلم بن عقيل أن يجنّد الألوف من أبناء الكوفة - ممّن كانوا يحملون الولاء لعليّ عليه السلام وبنيه - ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، وهم كانوا قد حاربوا إلى جانب أبيه عليه السلام في صفّين والجمل والنهروان.

أمام هذا الواقع والهزيمة النفسيّة الّتي كانت تعيشها الأمّة الإسلاميّة كان على الإمام الحسين عليه السلام أن يقدّم الموقف النظريّ تجاه الوضع القائم ويضع النقاط على الحروف بنحوٍ ينتهي معه إلى اجتثاث جذور هذا المرض الخبيث.

ومن هنا كانت الثورة المسلّحة لاستنهاض النفوس الميّتة وإيقاظها من سباتها وتبديل جُبنها إلى الشجاعة.

وتفصيل ذلك: إنّ الحسين عليه السلام كانت أمامه عدّة حلول ممكنة بعد أن طلب يزيد منه البيعة وهدّده بالقتل إن لم يبايع:
الأوّل: أن يُبايع يزيد.
الثاني: أن يرفض البيعة ويبقى في مكّة أو المدينة، مع علمه بأنّه سيُقتل حينئذ ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.
الثالث: أن يلجأ إلى بلدٍ من بلاد العالم الإسلاميّ كما اقترح عليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة.
الرابع: أن يتحرّك ويذهب إلى الكوفة مستجيباً للرسائل الّتي وردته من أهلها ثمّ يستشهد بالطريقة الّتي وقعت.

وكان اختياره للموقف الرابع قائماً على أساس إدراكه لطبيعة الظرف الّذي يعيشه، فإنّه كان عليه أن يقف موقفاً يعالج فيه عدّة مشاكل في الأمّة الإسلاميّة.

واقع الأمّة ما قبل الثورة الحسينيّة
يُمكن للباحث أن يعرف ظروف وواقع الأمّة الإسلاميّة من خلال بيان أقسام وفئات الأمّة في ذلك الزمن، وهذه الفئات هي:
الأولى: وكانت تُشكِّل جزءاً كبيراً من الأمّة، وهي الّتي فقدت خلال عهد معاوية إرادتها وقدرتها على مواجهة الوضع القائم وهي تشعر بالذلّ والاستكانة، وأنّ خسارة كبيرة تحيق بالأمّة الإسلاميّة وهي تبديل الخلافة إلى كسرويّة وهرقليّة.
الثانية: وهي الّتي هان عليها الإسلام، فلم تعد تهتمّ بالرسالة بقدر اهتمامها بمصالحها الشخصيّّة، وتضاءلت عندها الرسالة.
الثالثة: وهي الفئة المغفّلة الّتي كان بالإمكان أن تنطلي عليها حيلة بني أميّة لو سكت الإمام الحسين عليه السلام عن تحويل الخلافة إلى قيصريّة وكسرويّة... فإنّ الخلافة وإن انحرفت عن خطّها المستقيم منذ توفّي النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم لكن بقي مفهومها هو مفهوم الخلافة، غاية الأمر اغتصبها أبو بكر ومن ثمّ عمر وعثمان. بينما في عهد معاوية ابن أبي سفيان طرأ على نفس المفهوم تغيّر أساس إذ لم تعد الخلافة حكماً للأمّة، وإنّما حوّلها معاوية إلى حكم ملكي كحكم كسرى وقيصر، وهو تحويل خطير في المفهوم أراد معاوية أن يُلبسه ثوب الشرعيّة.
الرابعة: وهي الّتي ترتبط بقضية الصلح الّذي أبرمه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، فإنّ الواقع الّذي من أجله صالح الإمام الحسن عليه السلام لم يكن مكشوفاً إلّا داخل دائرة الجماهير الّتي كانت تعيش المأساة عن قرب كالعراق بشكل عامّ دون من كان يعيش في أطراف العالم الإسلاميّ كأقاصي خراسان حيث لم يعيشوا المحنة يوماً بعد يوم، ولم يكتووا بالنار الّتي اكتوى بها الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة من قواعده وأعدائه معاً. وهذه الفئة لم تكن تميّز هل أنّ هذا التنازل هو اعتراف بشرعيّة الأطروحة الأمويّة، أم هو تصرّف اقتضته الضرورة والظروف الموضوعيّة الّتي كان يعيشها الإمام الحسن عليه السلام؟

فكان لا بدّ للإمام الحسين عليه السلام أن يختار موقفاً يُعالج فيه مشكلة كلّ واحدة من هذه الفئات الأربع من الأمّة، وكان لا بدّ أن يختار الموقف الّذي يُرجع فيه للفئة الأولى إرادتها الّتي فقدتها بسبب الإرهاب الأمويّ، وإلى الفئة الثانية إيمانها بالرسالة وشعورها بأهميّة الإسلام، فيختار حينئذٍ الموقف الّذي يشرح فيه - حتّى لمن كان بعيداً عن الأحداث - أنّ تنازل الإمام الحسن عليه السلام لم يكن إمضاءً لعمليّة التحويل، ويوقظ فيه الفئة الثالثة من غفلتها ويظهر للفئة الرابعة الواقع الّذي ألجأ الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح.

تقويم مواقف الفئات الأربع‏
إنّ تقويم المواقف الأربعة لهذه الفئات المتقدّمة من حيث قدرة كلّ منها على تحقيق الأهداف المُشار إليها يمكن بيانه كما يلي:
أمّا الموقف الأوّل: وهو أن يبايع يزيد، فهو لا يحقّق مكسباً على مستوى معالجة تلك الفئات من الأمّة... لأنّ قصّة يزيد لم تكن قصّة أبي بكر وعمر وعثمان، لأنّ التحويل هنا على مستوى المفهوم، ولم يكن بالإمكان أن تمرّ دون أن يقف أهل البيت عليهم السلامالّذين هم القادة الحقيقيّون للأمّة الموقف الدينيّ الواضح المحدّد من عمليّة التغيير هذه.
وأمّا الموقف الثاني: فهو لا يحقّق ذلك المكسب الّذي يريده الحسين عليه السلام أيضاً، وذلك لأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يؤكد أنّه لو بقي في المدينة أو في مكّة رافضاً البيعة لقُتل من قِبل بني أميّة حتّى ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة، وهذا القتل لن يُحرِّك المسلمين تجاه رسالتهم ودينهم. وإرجاع الأمّة إلى دينها وعقيدتها لا يمكن أن يتحقّق من خلال قتلٍ عابرٍ سهل من هذا القبيل، بل لا بدّ أن تُحشد له كلّ المثيرات والمحرِّكات.
وأمّا الموقف الثالث: فهو وإن كان أسلم من الأوّل والثاني على المدى القصير إذ يمكنه أن يعتصم بشيعته في اليمن مثلاً إلى برهةٍ معينة لكنّه سوف ينعزل، ويحيط نفسه بإطار منغلق عن مسرح الأحداث بينما لا بدّ أن يباشر عمله التغييريّ على مسرح الأحداث الّذي كان وقتئذٍ هو الشام والعراق ومكّة والمدينة كي يمكن لهذا العمل أن يؤثّر تربويّاً وروحيّاً وأخلاقيّاً في كلّ العالم الإسلاميّ.

وعليه كان لا بدّ للإمام الحسين عليه السلام أن يختار الموقف الرابع الّذي استطاع أن يهزّ به ضمير الأمّة من ناحية، ويشعرها بأهميّة الإسلام وكرامة هذا الدِّين من ناحية ثانية، وأن يدحض عمليّة تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة من ناحية ثالثة، وأن يوضّح لكلّ المسلمين مفهوم الصلح عند الإمام الحسن عليه السلام وأنّه لم يكن موقفاً إمضائيّاً وإنّما كان أسلوباً تمهيديّاً لموقفه عليه السلام.

ومن أجل هذا كلّه كانت الثورة الحسينيّة الّتي استطاع من خلالها الإمام الحسين عليه السلام أن يفضح المخطّطات الأمويّة، ويحطّم الإطار الدينيّ المزيّف الّذي أحاطوا به سلطانهم، ويحرّك مشاعر الأمّة الإسلاميّة لتعود إلى دينها وعقيدتها وتشعر بتقصيرها الفادح تجاه رسالة محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الخلاصة
كان للإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام نشاط سياسيّ واضح تجاه معاوية، فهو لم ينقض بنود الصلح الّتي أمضاها أخوه الحسن عليه السلام مع معاوية كما نقضها معاوية، ولكنّه بدأ يتحرّك باتّجاه إعداد وتجنيد الطاقات المستعدّة للمعارضة، وابتدأ بمواجهة معاوية بكلّ جرأة وصرامة لأخذه البيعة اللاّمشروعة ليزيد كوليّ للعهد بعده.

لم يتحرّك الإمام الحسين عليه السلام قبل موت معاوية لأنّه لم يكن مستعدّاً لنقض بنود الصلح الموقّعة في زمن الإمام الحسن عليه السلام بحالٍ من الأحوال. وهو كان ينتظر توفّر كلّ الشروط اللّازمة للثورة الّتي لم تكن متوفّرة عند استشهاد الإمام الحسن عليه السلام.

يعود الدافع الحقيقيّ للثورة الحسينيّة بهذا الشكل الّذي تحقّق وإن لم يكن فيها مكسب آنيّ من حيث الوصول إلى الحكم إلى أنّ إرادة الأمّة كانت قد أصبحت ميّتة بعد أن عرفت حقيقة خطّ أهل البيت عليهم السلام.

لم يكن أيّ إجراء بقادرٍ على تحريك ضميرها إلّا الشهادة والتضحية الّتي تغرس في أعماق وجودها عظمة الدِّين ورخص النفس والحياة الماديّة بالنسبة إلى دين الله الّذي جاء بكرامة الإنسان واستهدف إيصاله إلى الكمال اللائق به.

* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- شرح نهج البلاغة، م.س: 4/327.
2- الإمامة والسياسة، م.س: 1/284.

#منتديات_المخرج_علي_العذاري