الحياة السياسية للإمام السجاد عليه السلام-1
إن الحديث عن الإمام السجاد عليه السلام وكتابة سيرته عمل صعب، لأن أساس تعرف الناس على هذا الإمام تم في أجواء غير مساعدة إطلاقاً. ففي ذهن أغلب كتّاب السيرة والمحللين أن هذا الإنسان العظيم قد انزوى للعبادة ولم يكن له أي تدخل في السياسة. حتى أن بعض المؤرخين وكتّاب السيرة ذكروا هذه المسألة بشكل صريح.
أمّا الذين لم يقولوا هذا الأمر بصراحة فإن مفهومهم عن حياة الإمام السجّاد عليه السلام ليس سوى هذا الأمر. وهذا المعنى موجود في الألقاب التي تنسب إليه والتعابير التي يطلقها الناس عليه: كما يطلق البعض لقب "المريض" عليه، في حين أن مرضه لم يستغرق أكثر من عدة أيام في واقعة عاشوراء. ومن الطبيعي أن كل إنسان يمرض في حياته عدة أيام، وإن كان مرض الإمام عليه السلام للمصلحة الإلهية حتى لا يكلف هذا العظيم بالدفاع والجهاد في سبيل الله في تلك الأيام ليستطيع في المستقبل أن يحمل الحمل الثقيل للأمانة والإمامة على عاتقه، ويبقى حياً بعد والده لمدة 35 أو 34 سنة ويقضي فترة أصعب عصور الإمامة عند الشيعة.
أنتم عندما تنظرون إلى ماضي حياة الإمام السجّاد عليه السلام سوف تجدون حوادث متنوعة وملفتة جداً، كما حدث لبقية أئمتنا، وربما جمعنا سير الأئمة عليه السلام معاً فلن نجد مثل سيرة السجاد عليه السلام.
إن سيرة كل إنسان بالمعنى الواقعي للكلمة تتضح عندما نعرف التوجه العام الذي سار عليه ومن بعدها نقوم بملاحظة الحوادث الجزئية في حياته. فإذا عرف التوجه العام فإن الحوادث الجزئية سوف تصبح ذات معنى، أما إذا لم يعرف ذلك التوجه العام أو فهم خطأ فإن تلك الحوادث الجزئية سوف تصبح بدون معنى أو بمعنى خاطئ. وهذا لا يختص فقط بالإمام السجاد عليه السلام أو سائر أئمتنا عليه السلام بل أن هذا يصدق وينطبق على سيرة كل إنسان.
التوجه العام للأئمة عليه السلام:
نحن نشاهد بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام الذي وقع في السنة الأربعين للهجرة، أن أهل البيت عليه السلام لم يلتزموا بالبقاء داخل البيت والإقتصار على بيان الأحكام الإلهية فقط، بل نجد منذ أول أيام الصلح أن برنامج كل الأئمة عليه السلام كان يقوم على تهيئة المقدمات لإقامة الحكومة الإسلامية التي يرونها هم.
وهذا ما نلحظه بوضوح في حياة الإمام السجاد عليه السلام.
الصورة العامة لحياة الإمام السجاد عليه السلام:
فقد كان الإمام السجاد عليه السلام في الفترة ما بين استلامه للإمامة منذ عاشوراء 61ه، واستشهاده مسموماً عام 95ه. يتابع مسؤولية تحقق هدف إقامة حكومة أهل البيت‘. لذلك ينبغي أن نفسر جزئيات عمل الإمام والمراحل التي مرّ بها والأساليب التي استعملها والتوفيقات التي حصلت وكل الأمور التي بينها وكل التحركات التي قام بها والأدعية والمناجات التي جمعت في الصحيفة السجادية.. كل هذا ينبغي أن يفسّر بالنظر إلى الخط العام ومنها المواقف التي اتخذها طوال مدة الإمامة.
1- موقفه من عبيد الله بن زياد ويزيد، الذي تميز بالبطولة والشجاعة والفداء.
2- موقفه من مسرف بن عقبة الذي تميز بالهدوء، هذا الرجل الذي قام بتدمير المدينة واستباح أموالها بأمر من يزيد في السنة الثالثة من حكمه.
3- حركة الإمام مقابل عبد الملك بن مروان أقوى خلفاء بني أميّة وأمكرهم حيث تميز موقفه بالشدّة حيناً والإعتدال حيناً اخر.
4- موقف الإمام عليه السلام من عمر بن عبد العزيز.
5- تعامل الإمام مع أصحابه وأتباعه ووصاياه لأصدقائه.
6- موقف الإمام من وعّاظ السلاطين وأعوان الظلمة.
كل هذه المواقف والتحركات ينبغي أن تدرس بدقة. ووفق تصوري أرى أنه بالإلتفات إلى النهج العام فإن كل هذه الجزئيات والحوادث سوف تكتسب معاني مناسبة وواضحة. وسوف نجد عندها أن هذا الإنسان العظيم قد قضى كل حياته وسعيه في طريق الهدف المقدس وهو إقامة حكومة الله على الأرض وتطبيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج وأفضل الوسائل، وتقدّم بالقافلة الإسلامية التي كانت بعد واقعة عاشوراء في تشرذم وتفرّق مهول، وأنجز مهمته العظمى ومسئوليته الأصيلة (التي سوف نشير إليها بالتفصيل لاحقاً). والتي قام بها كل الأئمة وجميع الأنبياء والصالحين، مراعياً أصول السياسة والشجاعة والدقة في الأعمال. وبعد 35 سنة من الجهاد المستمر الذي لم يعرف الراحة أبداً رحل عن الدنيا كريماً مرفوع الرأس موكلاً حمل ثقل الرسالة من بعده إلى الإمام الباقر عليه السلام.
كانت هذه هي الصورة العامة لحياة الإمام السجاد عليه السلام. ولكن إذا أردنا أن ندرس تفاصيل الأحداث علينا أولاً أن نمهّد لها بالوضع السابق لها إذ يوجد في حياة الإمام السجاد فصل قصير ومحدّد نذكره أولاً ثم نقوم بعدها بشرح المسير العادي لحياة الإمام وتفصيل الأوضاع وأحوال الزمان والظروف التي كانت سائدة.
الفصل المصيري هو مرحلة ما بعد كربلاء، فصل الأسر الذي كان قصيراً ومؤثراً جداً ومعبراً حيث نشاهد الصلابة والقوة في شدة الأسر. لقد كان الإمام السجاد عليه السلام يرسم ملحمة بطولية عظيمة بأقواله وأفعاله خلال فترة الأسر والمرض هذه والتي تعتبر فترة مختلفة تماماً عن المرحلة الأساسية من حياته حيث بدأ يعمل على البنية التحتية باعتدال ودقة وهدوء، حتى أنه كان يجلس أحياناً مع عبد الملك بن مروان في مجلس واحد ويتصرف معه تصرفاً معتدلاً. أمّا في هذا الفصل فإننا نشاهد الإمام بصورة ثورية هادرة لا يسكت على أي حديث صغير. وكان أمام الملأ يردّ بأجوبة تزلزل أركان العدو.
في سوق الكوفة أيضاً وبصوت واحد وزمان واحد يخطب الإمام هو وعمته زينب وأخته سكينة فيثورون الناس ويفشون الحقائق.
وفي الشام. في مجلس يزيد أو في المسجد أمام جمع الناس يبين الإمام الحقائق بأبلغ بيان وتضمنت خطبه وكلماته حقانية أهل البيت عليه السلام بالخلافة وأفشت جرائم النظام الحاكم. ويبين مدى التخدير الشديد الذي يمارسه النظام ضد الناس الغافلين. ولا يوجد مجال هنا لذكر الخطبة وإماطة جزء من اللثام عن معانيها لأن هذا عمل مستقل ومنفصل عن موضوعنا ولكن ينبغي لكل من يريد أن يفسر هذه الخطبة أن يدرسها كلمة، كلمة مع الإلتفات إلى هذه الأصول، تلك كانت حالة الإمام السجاد عليه السلام في مرحلة الأسر العصيبة.
مرحلة ما بعد الأسر:
يطرح هنا سؤال وهو: لماذا يقوم الإمام السجاد عليه السلام في مرحلة ما بعد الأسر بالإعتدال والتقية ويغطي بالدعاء والأعمال المعتدلة على التحركات الثورية والشديدة، وفي مرحلة الأسر يتصرف بشدة وقوة ووضوح؟
والجواب أن مرحلة الأسر كانت فصلاً استثنائياً حيث كان على الإمام السجاد عليه السلام، وبمعزل عن كونه إماماً أن يهيئ أرضية التحرك لإقامة الحكومة الإلهية والإسلامية، وكان اللسان الناطق للدماء المسفوكة في عاشوراء، فالإمام السجاد عليه السلام لم يكن هنا في حقيقته بل كان لسان الحسين عليه السلام الصامت الذي تجلّى في هذا الشاب الثوري في الشام والكوفة. فلو لم يكن الإمام السجاد عليه السلام شديداً وحاداً وصريحاً في بيان القضايا فلن يبقى في الحقيقة مجال لعمله المستقبلي. لأن مجال عمله المستقبلي ينطلق من دم الحسين عليه السلام الذي كان أرضاً وأرضية للنهضات الشيعية في طول التاريخ.
وهكذا ينبغي أن يبدأ العمل أولاً بتحذير الناس، ثم في ظل هذا التحذير تبدأ المعارضة الأصولية والعميقة والبعيدة المدى، ولا يمكن أن يتحقق هذا التحذير إلا باللهجة الحادة والشديدة.
لذلك كان دور الإمام السجاد عليه السلام في هذه المرحلة ودور زينب عليها السلام بيان ثورة الحسين عليه السلام إذ أن معرفة الناس بقتل الحسين عليه السلام ولماذا قتل وكيف قتل سوف تؤثر على مستقبل الإسلام ومستقبل دعوة أهل البيت عليه السلام، وكان ينبغي بذل الجهود الكبيرة لأجل نشر هذه الحقائق على مستوى المجتمع. لهذا تحرّك الإمام السجاد عليه السلام في هذا الإتجاه مثل سكينة وفاطمة الصغرى ومثل زينب نفسها ومثل كل أسير(كل بقدر استطاعته). لقد اجتمعت كل هذه الطاقات حتى تنثر دم الحسين المسفوك في الغربة في كل المناطق الإسلامية التي مرّوا بها من كربلاء إلى المدينة، وحين دخل الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة كان عليه أن يبين الحقائق أمام العيون والنظار منذ وصوله. فكان هذا الفصل القصير مقطعاً استثنائياً في حياته.
المقطع التالي يبدأ حين يباشر الإمام السجاد عليه السلام حياته في المدينة كمواطن، ويبدأ عمله من بيت النبي عليه السلام وحرمه. ولأجل بيان برنامج الإمام نحتاج إلى دراسة الأوضاع التي كانت سائدة وظروف زمانه أيضاً.
حتى نحدد كيف بدأ الإمام السجاد عليه السلام حركته وبأي هدف وتكتيكات، يلزم أن نحقق في الوضع العام لأتباع الأئمة المخالفين والمعارضين لنظام حكم خلفاء بني أمية، وهذا يعتبر فصلاً مستقلاً في حياة الإمام السجاد عليه السلام،إذا استطعنا أن ندخل في بحثه بالتفصيل فسوف نحل الكثير من المشكلات والمسائل المرتبطة بحياته، ثم نصل بعدها إلى تفاصيل ما أقدم عليه الإمام وقام به.
الأرضية الاجتماعية:
عندما جرت واقعة كربلاء سيطرت على كافة العالم الإسلامي، وخاصة عندما وصل الخبر إلى الحجاز والعراق، حالة من الرعب والخوف الشديد بين الشيعة وأتباع الأئمة، لأنهم شعروا أن حكومة يزيد لا تتورع عن ارتكاب أي شيء لإحكام قبضتها على كل شيء حتى ولو كان قتل الحسين بن علي عليه السلام سبط الرسول المعروف بالعظمة والإعتبار والقداسة في كافة أنحاء العالم الإسلامي. هذا الرعب الذي ظهرت اثاره في الكوفة والمدينة بلغ ذروته بعد مرور زمان معين إثر وقوع عدة حوادث أخرى إحداها حادثة الحرة فسيطر جو القمع الشديد في منطقة نفوذ أهل البيت عليه السلام في الحجاز (وخاصة المدينة) وفي العراق (وخاصة الكوفة). فضعفت الإتصالات وصار أتباع الأئمة والمعارضون القلة لنظام بني أمية في حالة ضعف وعدم ثبات.
وتنقل رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في الحديث عن الوضع في ذلك الزمان: "ارتد الناس بعد الحسين عليه السلام إلا ثلاثة".
وذُكر في رواية أنهم خمسة وفي البعض أنهم سبعة.
وفي رواية عن الإمام السجاد عليه السلام يرويها أبو عمر المهدي يقول سمعت عن الإمام عليه السلام أنه قال: "وما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا".
وقد نقلت هذين الحديثين حتى يتضح الوضع العام لعالم الإسلام بالنسبة للأئمة وأتباعهم. فهذا القمع الذي حدث أوجد مثل تلك الحالة التي صار فيها أتباع الأئمة عليه السلام متفرقين ايسين خائفين لا يملكون القدرة على التحرك. ولكن في تلك الرواية يكمل الصادق عليه السلام القول: "ثم إن الناس لحقوا وكثروا".
التنظيمات السرية:
لو أردنا أن نفصل هذه القضية المذكورة أكثر لكانت على هذا النحو: بعد واقعة شهادة الإمام الحسين عليه السلام صار الناس في خوف ورعب لكن ليس إلى درجة زوال التنظيمات التي أعدها أتباع الأئمة عليه السلام. ودليل ذلك أننا نرى في الوقت الذي جاءوا بأسرى كربلاء إلى الكوفة، شوهدت التحركات التي تدل على وجود التنظيمات الشيعية.
وبالطبع عندما نتحدث عن "التنظيمات الشيعية السرية" لا نقصد النمط الموجود للتنظيمات في هذا العصر، بل المقصود تلك الروابط العقائدية التي كانت تصل الناس بعضهم ببعض وتحملهم على التضحية والأعمال السرية، والتي تؤلف في أذهاننا مجموعة واحدة.
في تلك الأيام التي كان أهل البيت عليه السلام في الكوفة يسقط في إحدى الليالي حجرٌ في السجن الذي كانوا فيه، وإذا بالحجر لُفَّ بورقةٍ كُتب عليها: "لقد أرسل حاكم الكوفة رجلاً إلى يزيد في الشام حتى يعلم ماذا يفعل بكم. فإذا سمعتم غداً ليلاً صوت تكبير فاعلموا أنكم ستقتلون ها هنا وإذا لم تسمعوا فاعلموا أن الوضع سيتحسن".
عندما نسمع مثل هذه القصة ندرك جيداً وجود شخص من أعضاء هذه التنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد وهو مطلع على ما يجري، ويمكنه أن يصل إلى السجن ويوصل صوته إليه.
مثال اخر: عبد الله بن عفيف الأزدي الرجل الأعمى الذي قام بردة الفعل الأولى عند ورود الأسرى إلى الكوفة وأدى ذلك إلى استشهاده. وكذلك ما رأيناه في الشام عندما التقى الناس بأهل البيت عليه السلام من البكاء والتلاوم وقد تكررت هذه الحوادث في مجلس يزيد أيضاً.
بناءً على هذا، ومع فرض جو من القمع الشديد بعد هذه الحادثة لم ينهدم نظام عمل أتباع أهل البيت عليه السلام ولم يحصل لهم التشتت والضياع. ولكن بعد وقوع حوادث أخرى ازداد جو القمع أكثر ومن هنا يمكن ربط الحديث "ارتد الناس بعد الحسين عليه السلام" بالحوادث التي وقعت بعده.
وخلال هذه المرحلة قبل وقوع الحوادث الأخرى قام الشيعة بإعادة الانسجام السابق والإستعداد.
وينقل الطبري قائلاً: "فلم يزل القوم في جمع الة الحرب والإستعداد لها" وهو يقصد الشيعة في طلب الثأر لدماء الحسين بن علي عليه السلام. وازداد عددهم يوماً بعد يوم حتى مات يزيد بن معاوية.
ولهذا نجد مع كل هذا الضغط والقمع الشديد استمرار التحركات كما ينقل الطبري ولعله لهذا السبب يقول مؤلف كتاب "جهاد الشيعة" (وهو كاتب غير شيعي ولا يمتلك رؤية واقعية تجاه الإمام السجاد عليه السلام ولكنه أدرك هذه الحقيقة): "أصبح الشيعة بعد شهادة الحسين عليه السلام كتنظيم واحد تجمعهم الإعتقادات والروابط السياسية ويعقدون الإجتماعات، ولهم القادة والقوى العسكرية. وكان التّوابون أول مظهر لهذه التنظيمات".
وهكذا شعرنا مع تسلّل الضعف إلى التنظيمات الشيعية إثر حادثة عاشوراء أن هذه التحركات في مقابل هذا الوضع استمرت بنشاط لإعادة هذا التنظيم إلى سابق عهده إلى أن جرت "واقعة الحرة". وبرأيي فإن واقعة الحرة كانت مفصلاً عظيماً في تاريخ التشيع وضربة كبيرة جداً له.
لقد جرت هذه الواقعة سنة 63 للهجرة، وتفصيلها باختصار أنه في سنة 62هـ وُلّي أحد شباب بني أمية على المدينة ففكر لاستمالة قلوب الشيعة في المدينة أن يدعو بعضهم إلى ملاقاة يزيد. فدعى بعض أشراف المسلمين والصحابة الذين كانوا في معظمهم من محبي الإمام السجاد عليه السلام إلى الشام للقاء يزيد والإستئناس به، فذهبوا إلى الشام والتقوا به ومكثوا عدة أيام وأعطاهم يزيد مبالغ كبيرة من المال (بمقدار 50 ألف درهم أو مائة ألف) ثم رجعوا إلى المدينة.
عندما عادوا إلى المدينة ولأنهم رأوا الفجائع في بلاط يزيد بدءوا بانتقاده والتهجم عليه. وانقلبت القضية، فبدلاً من مدحه والثناء عليه بدءوا بالتشهير به وقالوا للناس: كيف يمكن أن يكون يزيد خليفة وهو شارب للخمر ويلاعب الكلاب والقردة ويمارس أنواع الفسق والفجور. إننا نخلعه عن الخلافة.
وكان على رأس هؤلاء عبد الله بن حنظلة الذي دعا الناس إلى القيام على يزيد وخلعه. فأدت هذه الحركة إلى أن يأمر يزيد أحد قادته من بني أمية ويدعى "مسلم بن عقبة" بالإسراع إلى المدينة وإخماد الثورة فيها. فقدم ابن عقبة وحاصرها عدة أيام ثم دخلها وارتكب فيها أبشع وأفجع الجرائم التي لم يحدث مثلها في تاريخ الإسلام.
وقد عُرف بعد هذه الحادثة المفجعة باسم "مسرف بن عقبة".
مجريات وتفاصيل هذه الحادثة كثيرة ولا أريد هنا أن أشرح ما جرى، ولكن يكفي أن أقول أنها أصبحت أكبر وسيلة لإرعاب محبي وأتباع أهل البيت عليه السلام، خاصة في المدينة التي هرب منها من هرب وقتل اخرون، بعضهم من أصحاب أهل البيت عليه السلام الخيرين كعبد الله بن حنظلة.
لقد وصل هذا الخبر إلى كافة أقطار العالم وعُلِم أن النظام الحاكم سوف يقف بقوة أمام أية حركة من هذا القبيل.
الحادثة الأخرى التي أدت إلى إضعاف الشيعة هي حادثة شهادة المختار في الكوفة وتسلط عبد الملك بن مروان على كافة العالم الإسلامي.
فبعد موت يزيد، تبعه خلفاء لم يدوموا في الحكم إلا فترات قليلة كمعاوية بن يزيد الذي لم يحكم أكثر من ثلاثة أشهر، ثم مروان بن الحكم الذي حكم لمدة سنتين أو أقل ثم وصل الأمر إلى عبد الملك الذي كان أكثرهم تدبيراً كما جاء بشأنه.
"كان عبد الملك أشدهم شكيمة وأقساهم عزيمة".
فاستطاع أن يقبض على زمام أمور العالم الإسلامي بيده ويوجد نظاماً إرهابياً وقمعياً وكان إمساكه بزمام الأمور متوقفاً على القضاء على خصمائه.
فالمختار الشيعي قد صُفيّ قبل مجيئه على يد مصعب بن الزبير. ولكن عبد الملك أراد أن يضع نهاية لاستمرار حركة المختار وغيره في عالم التشيع. وبالفعل قام بذلك، حتى عانى الشيعة في العراق وخاصة الكوفة التي كانت في ذلك الوقت أهم مراكزهم أشد معاناة.
على كل حال، بدأت هذه الحوادث من واقعة كربلاء ثم تتالت: من قبيل واقعة الحرة والقضاء على حركة التوابين في العراق وشهادة المختار وشهادة إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي واخرين عظام من الشيعة. وبشهادتهم طغى جو من القمع والخوف الشديد على المراكز الشيعية في المدينة والكوفة وحلت غيوم الغربة والوحدة على المكان.
موقف الإمام عليه السلام في مراحل القمع:
يظن البعض أن الإمام عليه السلام فيما لو أراد أن يقاوم نظام بني أمية لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة العسكرية، أو أن يلتحق بالمختار أو عبد الله بن حنظلة أو أن يقودهما معلناً بذلك المقاومة المسلحة بكل وضوح، لكننا نفهم من خلال النظر إلى ظروف زمان الإمام السجاد عليه اسلام أن هذا ظنٌ خاطئ وذلك بالإلتفات إلى هدف الأئمة عليه السلام الذي سأبينه لاحقاً.
لو قام الأئمة عليه السلام، ومن جملتهم الإمام السجاد عليه السلام في تلك الظروف بمثل هذه التحركات العلنية والسلبية، فباليقين لما بقي للشيعة باقية، ولما بقيت الأرضية أو فسح المجال لاستمرار ونمو مدرسة أهل البيت عليه السلام ونظام الولاية والإمامة فيما بعد.
لهذا نجد أن الإمام السجاد عليه السلام في قضية المختار لم يعلن التعاون معه، وبرغم ما جاء في بعض الروايات عن ارتباط سري بينهما إلاّ أنه وبدون أدنى شك لم يكن ارتباطاً علنياً، حتى قيل في بعض الروايات أن الإمام السجاد عليه السلام كان يذم المختار ويبدو هذا الأمر طبيعياً جداً من ناحية التقية وذلك حتى لا يُشعر بوجود أي ارتباط بينهما، مع العلم بأن المختار فيما لو انتصر فإنه بالتأكيد كان سيعطي الحكومة لأهل البيت عليه السلام، ولكن في حال هزيمته، ومع وجود أدنى ارتباط واضح وعلني، لكانت النقمة شملت وبشكل قطعي الإمام السجاد عليه السلام وشيعة المدينة واجتثت جذور التشيع أيضاً. لأجل ذلك لم يُظهر الإمام عليه السلام أي نوع من الإرتباط العلني معه.
جاء في رواية أنه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرة، لم يشك أحد على الإطلاق في أن أول شخص سيقع ضحية نقمته هو علي بن الحسين عليه السلام، لكن الإمام السجاد بتدبيره الحكيم تصرف بحيث دفع هذا البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصلي وهناك روايات في بعض الكتب منها "بحار الأنوار" تحكي عن إظهار التذلل من قبل حضرة السجّاد عليه السلام عند مسلم بن عقبة، ولكنني بالقطع أكذب هذه الروايات وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لا تستند هذه الروايات إلى أي سند صحيح.
ثانياً: يوجد روايات أخرى تكذبها وتدفعها من حيث المضمون.
ففي لقاء الإمام الحسين عليه السلام مع مسلم بن عقبة يوجد روايات عديدة لا تنسجم أية واحدة منها مع الأخرى، ولأن بعض تلك الروايات تنطبق وتنسجم أكثر مع نهج الأئمة وسيرتهم، فنحن بصورة طبيعية نقبلها.
على كل حال، مع أننا لا نقبل تلك الروايات التي تتحدث عن صدور مثل هذه الأفعال من الإمام ولكننا لا نشك أيضاً في أن الإمام لم يقابل مسلم بن عقبة بتصرف معاد، لأن أي تصرف من هذا القبيل سوف يؤدي إلى قتل الإمام، وهذا سيؤدي بدوره إلى خسارة عظيمة لا تجبر بلحاظ الدور الذي ينبغي أن يقوم به الإمام السجاد عليه السلام بالنسبة لثورة الحسين عليه السلام وتبليغ حقيقتها. لهذا يبقى الإمام وكما قرأنا في رواية الإمام الصادق عليه السلام. ويلحق الناس به شيئاً فشيئاً ويزداد عددهم. وفي ظل تلك الظروف الصعبة وغير المساعدة يبدأ عمل الإمام السجاد عليه السلام.
في تلك الفترة ساد حكم عبد الملك، الذي شمل أكثر مراحل الإمامة لمدة تجاوزت الثلاثين سنة وكان نظامه يقوم بالرصد التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجاد عليه السلام، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة التي كانت تنقل إليه أدق التفاصيل حتى المسائل الداخلية والخاصة للإمام.
فمثلاً كان للإمام السجاد عليه السلام جارية تزوجها بعد أن أعتقها. وصل هذا الخبر إلى عبد الملك، فكتب رسالة إلى الإمام السجاد عليه السلام أراد أن يفهمه فيها أنه مطلع على أعماله ومجريات حياته، وكان يريد ضمن ذلك أيضاً أن يقوم بنوع من التفاخر والإستعلاء، فكتب للإمام إن هذا العمل ليس من سيرة قريش وأنت من قريش فما كان ينبغي أن تفعل هذا! فأجابه الإمام جواباً شديداً مظهراً عدم تقبله لتصرف عبد الملك الممتزج بالتودد والمكر.
أهداف الإمام عليه السلام:
بعد أن توضحت ساحة الإمام السجاد عليه السلام أشير بشكل مختصر إلى الهدف والمنهج الذي اعتمده الأئمة. وبعد ذلك نقوم بدراسة جزئيات حياة هذا الإمام فيما يتعلق بهذا النهج.
بدون شك كان الهدف النهائي لحضرة السجاد عليه السلام إيجاد الحكومة الإسلامية. ولكن كيف يمكن أن تقام الحكومة الإسلامية في مثل تلك الظروف؟ إن هذا يحتاج إلى عدة أمور:
1- ينبغي أن تدوّن وتدرس وتنتشر المدرسة الإسلامية الحقيقية التي يحمل علمها الأئمة عليه السلام، هذه المدرسة التي هي أيضاً المبنى الأساس للحكومة الإسلامية.
إذ كيف يمكن أن تقام حكومة مبينة على أساس الفكر الإسلامي الأصيل، والمجتمع الإسلامي قد أبعد لسنوات طويلة عن الفكر الإسلامي الصحيح إضافة إلى أنه لم يكن هناك أية ظروف مساعدة لنشره وتثبيت أركانه بين الناس.
إن أعظم الأدوار التي مارسها الإمام السجاد عليه السلام هي أنه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوة، وحقيقة المقام المعنوي للإنسان، وارتباطه بالله، وأهم دور أدته الصحيفة السجادية هو في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصحيفة، ثم جولوا ببصركم في أوضاع الناس على صعيد الفكر الإسلامي في ذلك الزمان ستجدون مدى المسافة التي تفصل بين الإثنين.
ففي ذلك الزمان الذي كان المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي يسيرون نحو الحياة المادية والملذات بدءاً من شخص الخليفة عبد الملك بن مروان إلى العلماء المحيطين به (ومن جملتهم محمد بن شهاب الزهري، وسوف أذكر أسماء علماء البلاط فيما بعد)، نزولاً إلى الجميع الذين كانوا يغوصون في بحر الدنيا والماديات، يقف الإمام السجاد عليه السلام ويقول مخاطباً الناس.
"أوَلا حر يدع هذه اللماظة لأهلها".
ففي هذه الجملة يوضح الإمام أن الفكر الإسلامي الأصيل كان عبارة عن جعل الهدف للمعنويات والتحرك نحو الوصول إلى الأهداف المعنوية والإسلامية، وجعل الإنسان يرتبط بالله عبر التكليف. وهذا هو الموقف المقابل تماماً في ذلك الزمن.
كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم بعمل كبير من أجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلامي. وكانت هذه الحادثة بداية أعمال الإمام السجاد عليه السلام.
2- تعريف الناس على حقانية أولئك الذين ينبغي أن يتسلموا زمام الحكم. إذ كيف يمكن لأهل البيت عليه السلام تشكيل حكومة في الوقت الذي كان الإعلام والتبليغ ضد ال الرسول قد ملأ العالم الإسلامي طوال عشرات السنين حتى عصر الإمام السجاد عليه السلام وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تخالف حركة أهل البيت عليه السلام بل إنها في بعض الموارد تشتمل على سبهم ولعنهم، وقد نشرت بين أناس لم يكن لديهم أي اطلاع على المقام المعنوي والواقعي لأهل البيت عليه السلام.
لهذا، فإن أحد الأهداف والتحركات المهمة للإمام كانت ترتبط بتعريف الناس على حقانية أهل البيت وأن مقام الولاية والإمامة والحكومة حق ثابت لهم وهم الخلفاء الواقعيون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الأمر إضافة لما له من أهمية عقائدية وفكرية فإنه يرتبط بالحركة السياسية المناهضة للنظام الحاكم.
3- كان على الإمام أن يؤسس بعض الأجهزة والتشكيلات التي يمكن أن تكون منطلقاً أصلياً للتحركات السياسية المستقبلية ففي مجتمع متمزق يعيش تحت أنواع القمع والتضييع المالي والمعنوي، وبالأخص الشيعة الذين كانوا يعانون من تضييق متزايد، لم يكن باستطاعة الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم وحده أو مع جماعة قليلة وغير منظمة بالثورة والمواجهة.
لهذا كان همّ الإمام السجاد عليه السلام أن يبدأ بتشكيل هذه التنظيمات التي كانت برأينا موجودة منذ أيام أمير المؤمنين غير أنها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء وثورة المختار.
بالنتيجة نجد أن عمل الإمام كان يدور ضمن ثلاثة محاور:
الأول: تدوين الفكر الإسلامي بصورة صحيحة وطبق ما أنزل الله، وبعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.
الثاني: إثبات حقانية أهل البيت في الخلافة والإمامة.
الثالث: إيجاد التشكيلات المنظّمة لأتباع أهل البيت عليه السلام وأتباع التشيع.
هذه الأعمال الثلاثة هي التي ينبغي أن ندرسها ونبحث فيها لنرى أي واحد منها قد تحقق في حياة الإمام السجاد عليه السلام.
إلى جانب هذه الأعمال كانت هناك أيضاً أعمال أخرى وتحركات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجو المرعب والقمعي. ففي ظل الإجراءات الأمنية المشددّة التي كان يفرضها الحكم نلاحظ مواقف عديدة للإمام أو أتباعه كان الهدف منها كسر حواجز القمع وصناعة بعض الأجواء الملائمة واللطيفة، وخاصة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها، مثل المواقف التي حدثت بين الإمام وعبد الملك عدة مرات، أو الأمور التي جرت مع العلماء المنحرفين والتابعين لعبد الملك (من قبيل محمد بن شهاب الزهري) كل ذلك لأجل خرق ذلك الجو المتشدد.
إن الباحث عندما يستعرض الروايات سواء الأخلاقية منها أو المواعظ أو الرسائل التي نقلت عن الإمام أو المواقف التي صدرت منه وذلك على أساس ما بينّاه فإنه سوف يجد لها المعاني المناسبة وبتعبير اخر سوف يرى أن جميع تلك التحركات والأقوال كانت ضمن الخطوط الثلاثة التي أشرنا إليها والتي كانت تصب جميعاً في دائرة إقامة الحكومة الإسلامية. وبالتأكيد لم يكن الإمام يفكر في إيجاد حكومة إسلامية في زمانه لأنه كان يعلم أن وقتها في المستقبل أي في الحقيقة عصر الإمام الصادق عليه السلام.
* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
#منتديات_المخرج_علي_العذاري
إن الحديث عن الإمام السجاد عليه السلام وكتابة سيرته عمل صعب، لأن أساس تعرف الناس على هذا الإمام تم في أجواء غير مساعدة إطلاقاً. ففي ذهن أغلب كتّاب السيرة والمحللين أن هذا الإنسان العظيم قد انزوى للعبادة ولم يكن له أي تدخل في السياسة. حتى أن بعض المؤرخين وكتّاب السيرة ذكروا هذه المسألة بشكل صريح.
أمّا الذين لم يقولوا هذا الأمر بصراحة فإن مفهومهم عن حياة الإمام السجّاد عليه السلام ليس سوى هذا الأمر. وهذا المعنى موجود في الألقاب التي تنسب إليه والتعابير التي يطلقها الناس عليه: كما يطلق البعض لقب "المريض" عليه، في حين أن مرضه لم يستغرق أكثر من عدة أيام في واقعة عاشوراء. ومن الطبيعي أن كل إنسان يمرض في حياته عدة أيام، وإن كان مرض الإمام عليه السلام للمصلحة الإلهية حتى لا يكلف هذا العظيم بالدفاع والجهاد في سبيل الله في تلك الأيام ليستطيع في المستقبل أن يحمل الحمل الثقيل للأمانة والإمامة على عاتقه، ويبقى حياً بعد والده لمدة 35 أو 34 سنة ويقضي فترة أصعب عصور الإمامة عند الشيعة.
أنتم عندما تنظرون إلى ماضي حياة الإمام السجّاد عليه السلام سوف تجدون حوادث متنوعة وملفتة جداً، كما حدث لبقية أئمتنا، وربما جمعنا سير الأئمة عليه السلام معاً فلن نجد مثل سيرة السجاد عليه السلام.
إن سيرة كل إنسان بالمعنى الواقعي للكلمة تتضح عندما نعرف التوجه العام الذي سار عليه ومن بعدها نقوم بملاحظة الحوادث الجزئية في حياته. فإذا عرف التوجه العام فإن الحوادث الجزئية سوف تصبح ذات معنى، أما إذا لم يعرف ذلك التوجه العام أو فهم خطأ فإن تلك الحوادث الجزئية سوف تصبح بدون معنى أو بمعنى خاطئ. وهذا لا يختص فقط بالإمام السجاد عليه السلام أو سائر أئمتنا عليه السلام بل أن هذا يصدق وينطبق على سيرة كل إنسان.
التوجه العام للأئمة عليه السلام:
نحن نشاهد بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام الذي وقع في السنة الأربعين للهجرة، أن أهل البيت عليه السلام لم يلتزموا بالبقاء داخل البيت والإقتصار على بيان الأحكام الإلهية فقط، بل نجد منذ أول أيام الصلح أن برنامج كل الأئمة عليه السلام كان يقوم على تهيئة المقدمات لإقامة الحكومة الإسلامية التي يرونها هم.
وهذا ما نلحظه بوضوح في حياة الإمام السجاد عليه السلام.
الصورة العامة لحياة الإمام السجاد عليه السلام:
فقد كان الإمام السجاد عليه السلام في الفترة ما بين استلامه للإمامة منذ عاشوراء 61ه، واستشهاده مسموماً عام 95ه. يتابع مسؤولية تحقق هدف إقامة حكومة أهل البيت‘. لذلك ينبغي أن نفسر جزئيات عمل الإمام والمراحل التي مرّ بها والأساليب التي استعملها والتوفيقات التي حصلت وكل الأمور التي بينها وكل التحركات التي قام بها والأدعية والمناجات التي جمعت في الصحيفة السجادية.. كل هذا ينبغي أن يفسّر بالنظر إلى الخط العام ومنها المواقف التي اتخذها طوال مدة الإمامة.
1- موقفه من عبيد الله بن زياد ويزيد، الذي تميز بالبطولة والشجاعة والفداء.
2- موقفه من مسرف بن عقبة الذي تميز بالهدوء، هذا الرجل الذي قام بتدمير المدينة واستباح أموالها بأمر من يزيد في السنة الثالثة من حكمه.
3- حركة الإمام مقابل عبد الملك بن مروان أقوى خلفاء بني أميّة وأمكرهم حيث تميز موقفه بالشدّة حيناً والإعتدال حيناً اخر.
4- موقف الإمام عليه السلام من عمر بن عبد العزيز.
5- تعامل الإمام مع أصحابه وأتباعه ووصاياه لأصدقائه.
6- موقف الإمام من وعّاظ السلاطين وأعوان الظلمة.
كل هذه المواقف والتحركات ينبغي أن تدرس بدقة. ووفق تصوري أرى أنه بالإلتفات إلى النهج العام فإن كل هذه الجزئيات والحوادث سوف تكتسب معاني مناسبة وواضحة. وسوف نجد عندها أن هذا الإنسان العظيم قد قضى كل حياته وسعيه في طريق الهدف المقدس وهو إقامة حكومة الله على الأرض وتطبيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج وأفضل الوسائل، وتقدّم بالقافلة الإسلامية التي كانت بعد واقعة عاشوراء في تشرذم وتفرّق مهول، وأنجز مهمته العظمى ومسئوليته الأصيلة (التي سوف نشير إليها بالتفصيل لاحقاً). والتي قام بها كل الأئمة وجميع الأنبياء والصالحين، مراعياً أصول السياسة والشجاعة والدقة في الأعمال. وبعد 35 سنة من الجهاد المستمر الذي لم يعرف الراحة أبداً رحل عن الدنيا كريماً مرفوع الرأس موكلاً حمل ثقل الرسالة من بعده إلى الإمام الباقر عليه السلام.
كانت هذه هي الصورة العامة لحياة الإمام السجاد عليه السلام. ولكن إذا أردنا أن ندرس تفاصيل الأحداث علينا أولاً أن نمهّد لها بالوضع السابق لها إذ يوجد في حياة الإمام السجاد فصل قصير ومحدّد نذكره أولاً ثم نقوم بعدها بشرح المسير العادي لحياة الإمام وتفصيل الأوضاع وأحوال الزمان والظروف التي كانت سائدة.
الفصل المصيري هو مرحلة ما بعد كربلاء، فصل الأسر الذي كان قصيراً ومؤثراً جداً ومعبراً حيث نشاهد الصلابة والقوة في شدة الأسر. لقد كان الإمام السجاد عليه السلام يرسم ملحمة بطولية عظيمة بأقواله وأفعاله خلال فترة الأسر والمرض هذه والتي تعتبر فترة مختلفة تماماً عن المرحلة الأساسية من حياته حيث بدأ يعمل على البنية التحتية باعتدال ودقة وهدوء، حتى أنه كان يجلس أحياناً مع عبد الملك بن مروان في مجلس واحد ويتصرف معه تصرفاً معتدلاً. أمّا في هذا الفصل فإننا نشاهد الإمام بصورة ثورية هادرة لا يسكت على أي حديث صغير. وكان أمام الملأ يردّ بأجوبة تزلزل أركان العدو.
في سوق الكوفة أيضاً وبصوت واحد وزمان واحد يخطب الإمام هو وعمته زينب وأخته سكينة فيثورون الناس ويفشون الحقائق.
وفي الشام. في مجلس يزيد أو في المسجد أمام جمع الناس يبين الإمام الحقائق بأبلغ بيان وتضمنت خطبه وكلماته حقانية أهل البيت عليه السلام بالخلافة وأفشت جرائم النظام الحاكم. ويبين مدى التخدير الشديد الذي يمارسه النظام ضد الناس الغافلين. ولا يوجد مجال هنا لذكر الخطبة وإماطة جزء من اللثام عن معانيها لأن هذا عمل مستقل ومنفصل عن موضوعنا ولكن ينبغي لكل من يريد أن يفسر هذه الخطبة أن يدرسها كلمة، كلمة مع الإلتفات إلى هذه الأصول، تلك كانت حالة الإمام السجاد عليه السلام في مرحلة الأسر العصيبة.
مرحلة ما بعد الأسر:
يطرح هنا سؤال وهو: لماذا يقوم الإمام السجاد عليه السلام في مرحلة ما بعد الأسر بالإعتدال والتقية ويغطي بالدعاء والأعمال المعتدلة على التحركات الثورية والشديدة، وفي مرحلة الأسر يتصرف بشدة وقوة ووضوح؟
والجواب أن مرحلة الأسر كانت فصلاً استثنائياً حيث كان على الإمام السجاد عليه السلام، وبمعزل عن كونه إماماً أن يهيئ أرضية التحرك لإقامة الحكومة الإلهية والإسلامية، وكان اللسان الناطق للدماء المسفوكة في عاشوراء، فالإمام السجاد عليه السلام لم يكن هنا في حقيقته بل كان لسان الحسين عليه السلام الصامت الذي تجلّى في هذا الشاب الثوري في الشام والكوفة. فلو لم يكن الإمام السجاد عليه السلام شديداً وحاداً وصريحاً في بيان القضايا فلن يبقى في الحقيقة مجال لعمله المستقبلي. لأن مجال عمله المستقبلي ينطلق من دم الحسين عليه السلام الذي كان أرضاً وأرضية للنهضات الشيعية في طول التاريخ.
وهكذا ينبغي أن يبدأ العمل أولاً بتحذير الناس، ثم في ظل هذا التحذير تبدأ المعارضة الأصولية والعميقة والبعيدة المدى، ولا يمكن أن يتحقق هذا التحذير إلا باللهجة الحادة والشديدة.
لذلك كان دور الإمام السجاد عليه السلام في هذه المرحلة ودور زينب عليها السلام بيان ثورة الحسين عليه السلام إذ أن معرفة الناس بقتل الحسين عليه السلام ولماذا قتل وكيف قتل سوف تؤثر على مستقبل الإسلام ومستقبل دعوة أهل البيت عليه السلام، وكان ينبغي بذل الجهود الكبيرة لأجل نشر هذه الحقائق على مستوى المجتمع. لهذا تحرّك الإمام السجاد عليه السلام في هذا الإتجاه مثل سكينة وفاطمة الصغرى ومثل زينب نفسها ومثل كل أسير(كل بقدر استطاعته). لقد اجتمعت كل هذه الطاقات حتى تنثر دم الحسين المسفوك في الغربة في كل المناطق الإسلامية التي مرّوا بها من كربلاء إلى المدينة، وحين دخل الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة كان عليه أن يبين الحقائق أمام العيون والنظار منذ وصوله. فكان هذا الفصل القصير مقطعاً استثنائياً في حياته.
المقطع التالي يبدأ حين يباشر الإمام السجاد عليه السلام حياته في المدينة كمواطن، ويبدأ عمله من بيت النبي عليه السلام وحرمه. ولأجل بيان برنامج الإمام نحتاج إلى دراسة الأوضاع التي كانت سائدة وظروف زمانه أيضاً.
حتى نحدد كيف بدأ الإمام السجاد عليه السلام حركته وبأي هدف وتكتيكات، يلزم أن نحقق في الوضع العام لأتباع الأئمة المخالفين والمعارضين لنظام حكم خلفاء بني أمية، وهذا يعتبر فصلاً مستقلاً في حياة الإمام السجاد عليه السلام،إذا استطعنا أن ندخل في بحثه بالتفصيل فسوف نحل الكثير من المشكلات والمسائل المرتبطة بحياته، ثم نصل بعدها إلى تفاصيل ما أقدم عليه الإمام وقام به.
الأرضية الاجتماعية:
عندما جرت واقعة كربلاء سيطرت على كافة العالم الإسلامي، وخاصة عندما وصل الخبر إلى الحجاز والعراق، حالة من الرعب والخوف الشديد بين الشيعة وأتباع الأئمة، لأنهم شعروا أن حكومة يزيد لا تتورع عن ارتكاب أي شيء لإحكام قبضتها على كل شيء حتى ولو كان قتل الحسين بن علي عليه السلام سبط الرسول المعروف بالعظمة والإعتبار والقداسة في كافة أنحاء العالم الإسلامي. هذا الرعب الذي ظهرت اثاره في الكوفة والمدينة بلغ ذروته بعد مرور زمان معين إثر وقوع عدة حوادث أخرى إحداها حادثة الحرة فسيطر جو القمع الشديد في منطقة نفوذ أهل البيت عليه السلام في الحجاز (وخاصة المدينة) وفي العراق (وخاصة الكوفة). فضعفت الإتصالات وصار أتباع الأئمة والمعارضون القلة لنظام بني أمية في حالة ضعف وعدم ثبات.
وتنقل رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في الحديث عن الوضع في ذلك الزمان: "ارتد الناس بعد الحسين عليه السلام إلا ثلاثة".
وذُكر في رواية أنهم خمسة وفي البعض أنهم سبعة.
وفي رواية عن الإمام السجاد عليه السلام يرويها أبو عمر المهدي يقول سمعت عن الإمام عليه السلام أنه قال: "وما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا".
وقد نقلت هذين الحديثين حتى يتضح الوضع العام لعالم الإسلام بالنسبة للأئمة وأتباعهم. فهذا القمع الذي حدث أوجد مثل تلك الحالة التي صار فيها أتباع الأئمة عليه السلام متفرقين ايسين خائفين لا يملكون القدرة على التحرك. ولكن في تلك الرواية يكمل الصادق عليه السلام القول: "ثم إن الناس لحقوا وكثروا".
التنظيمات السرية:
لو أردنا أن نفصل هذه القضية المذكورة أكثر لكانت على هذا النحو: بعد واقعة شهادة الإمام الحسين عليه السلام صار الناس في خوف ورعب لكن ليس إلى درجة زوال التنظيمات التي أعدها أتباع الأئمة عليه السلام. ودليل ذلك أننا نرى في الوقت الذي جاءوا بأسرى كربلاء إلى الكوفة، شوهدت التحركات التي تدل على وجود التنظيمات الشيعية.
وبالطبع عندما نتحدث عن "التنظيمات الشيعية السرية" لا نقصد النمط الموجود للتنظيمات في هذا العصر، بل المقصود تلك الروابط العقائدية التي كانت تصل الناس بعضهم ببعض وتحملهم على التضحية والأعمال السرية، والتي تؤلف في أذهاننا مجموعة واحدة.
في تلك الأيام التي كان أهل البيت عليه السلام في الكوفة يسقط في إحدى الليالي حجرٌ في السجن الذي كانوا فيه، وإذا بالحجر لُفَّ بورقةٍ كُتب عليها: "لقد أرسل حاكم الكوفة رجلاً إلى يزيد في الشام حتى يعلم ماذا يفعل بكم. فإذا سمعتم غداً ليلاً صوت تكبير فاعلموا أنكم ستقتلون ها هنا وإذا لم تسمعوا فاعلموا أن الوضع سيتحسن".
عندما نسمع مثل هذه القصة ندرك جيداً وجود شخص من أعضاء هذه التنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد وهو مطلع على ما يجري، ويمكنه أن يصل إلى السجن ويوصل صوته إليه.
مثال اخر: عبد الله بن عفيف الأزدي الرجل الأعمى الذي قام بردة الفعل الأولى عند ورود الأسرى إلى الكوفة وأدى ذلك إلى استشهاده. وكذلك ما رأيناه في الشام عندما التقى الناس بأهل البيت عليه السلام من البكاء والتلاوم وقد تكررت هذه الحوادث في مجلس يزيد أيضاً.
بناءً على هذا، ومع فرض جو من القمع الشديد بعد هذه الحادثة لم ينهدم نظام عمل أتباع أهل البيت عليه السلام ولم يحصل لهم التشتت والضياع. ولكن بعد وقوع حوادث أخرى ازداد جو القمع أكثر ومن هنا يمكن ربط الحديث "ارتد الناس بعد الحسين عليه السلام" بالحوادث التي وقعت بعده.
وخلال هذه المرحلة قبل وقوع الحوادث الأخرى قام الشيعة بإعادة الانسجام السابق والإستعداد.
وينقل الطبري قائلاً: "فلم يزل القوم في جمع الة الحرب والإستعداد لها" وهو يقصد الشيعة في طلب الثأر لدماء الحسين بن علي عليه السلام. وازداد عددهم يوماً بعد يوم حتى مات يزيد بن معاوية.
ولهذا نجد مع كل هذا الضغط والقمع الشديد استمرار التحركات كما ينقل الطبري ولعله لهذا السبب يقول مؤلف كتاب "جهاد الشيعة" (وهو كاتب غير شيعي ولا يمتلك رؤية واقعية تجاه الإمام السجاد عليه السلام ولكنه أدرك هذه الحقيقة): "أصبح الشيعة بعد شهادة الحسين عليه السلام كتنظيم واحد تجمعهم الإعتقادات والروابط السياسية ويعقدون الإجتماعات، ولهم القادة والقوى العسكرية. وكان التّوابون أول مظهر لهذه التنظيمات".
وهكذا شعرنا مع تسلّل الضعف إلى التنظيمات الشيعية إثر حادثة عاشوراء أن هذه التحركات في مقابل هذا الوضع استمرت بنشاط لإعادة هذا التنظيم إلى سابق عهده إلى أن جرت "واقعة الحرة". وبرأيي فإن واقعة الحرة كانت مفصلاً عظيماً في تاريخ التشيع وضربة كبيرة جداً له.
لقد جرت هذه الواقعة سنة 63 للهجرة، وتفصيلها باختصار أنه في سنة 62هـ وُلّي أحد شباب بني أمية على المدينة ففكر لاستمالة قلوب الشيعة في المدينة أن يدعو بعضهم إلى ملاقاة يزيد. فدعى بعض أشراف المسلمين والصحابة الذين كانوا في معظمهم من محبي الإمام السجاد عليه السلام إلى الشام للقاء يزيد والإستئناس به، فذهبوا إلى الشام والتقوا به ومكثوا عدة أيام وأعطاهم يزيد مبالغ كبيرة من المال (بمقدار 50 ألف درهم أو مائة ألف) ثم رجعوا إلى المدينة.
عندما عادوا إلى المدينة ولأنهم رأوا الفجائع في بلاط يزيد بدءوا بانتقاده والتهجم عليه. وانقلبت القضية، فبدلاً من مدحه والثناء عليه بدءوا بالتشهير به وقالوا للناس: كيف يمكن أن يكون يزيد خليفة وهو شارب للخمر ويلاعب الكلاب والقردة ويمارس أنواع الفسق والفجور. إننا نخلعه عن الخلافة.
وكان على رأس هؤلاء عبد الله بن حنظلة الذي دعا الناس إلى القيام على يزيد وخلعه. فأدت هذه الحركة إلى أن يأمر يزيد أحد قادته من بني أمية ويدعى "مسلم بن عقبة" بالإسراع إلى المدينة وإخماد الثورة فيها. فقدم ابن عقبة وحاصرها عدة أيام ثم دخلها وارتكب فيها أبشع وأفجع الجرائم التي لم يحدث مثلها في تاريخ الإسلام.
وقد عُرف بعد هذه الحادثة المفجعة باسم "مسرف بن عقبة".
مجريات وتفاصيل هذه الحادثة كثيرة ولا أريد هنا أن أشرح ما جرى، ولكن يكفي أن أقول أنها أصبحت أكبر وسيلة لإرعاب محبي وأتباع أهل البيت عليه السلام، خاصة في المدينة التي هرب منها من هرب وقتل اخرون، بعضهم من أصحاب أهل البيت عليه السلام الخيرين كعبد الله بن حنظلة.
لقد وصل هذا الخبر إلى كافة أقطار العالم وعُلِم أن النظام الحاكم سوف يقف بقوة أمام أية حركة من هذا القبيل.
الحادثة الأخرى التي أدت إلى إضعاف الشيعة هي حادثة شهادة المختار في الكوفة وتسلط عبد الملك بن مروان على كافة العالم الإسلامي.
فبعد موت يزيد، تبعه خلفاء لم يدوموا في الحكم إلا فترات قليلة كمعاوية بن يزيد الذي لم يحكم أكثر من ثلاثة أشهر، ثم مروان بن الحكم الذي حكم لمدة سنتين أو أقل ثم وصل الأمر إلى عبد الملك الذي كان أكثرهم تدبيراً كما جاء بشأنه.
"كان عبد الملك أشدهم شكيمة وأقساهم عزيمة".
فاستطاع أن يقبض على زمام أمور العالم الإسلامي بيده ويوجد نظاماً إرهابياً وقمعياً وكان إمساكه بزمام الأمور متوقفاً على القضاء على خصمائه.
فالمختار الشيعي قد صُفيّ قبل مجيئه على يد مصعب بن الزبير. ولكن عبد الملك أراد أن يضع نهاية لاستمرار حركة المختار وغيره في عالم التشيع. وبالفعل قام بذلك، حتى عانى الشيعة في العراق وخاصة الكوفة التي كانت في ذلك الوقت أهم مراكزهم أشد معاناة.
على كل حال، بدأت هذه الحوادث من واقعة كربلاء ثم تتالت: من قبيل واقعة الحرة والقضاء على حركة التوابين في العراق وشهادة المختار وشهادة إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي واخرين عظام من الشيعة. وبشهادتهم طغى جو من القمع والخوف الشديد على المراكز الشيعية في المدينة والكوفة وحلت غيوم الغربة والوحدة على المكان.
موقف الإمام عليه السلام في مراحل القمع:
يظن البعض أن الإمام عليه السلام فيما لو أراد أن يقاوم نظام بني أمية لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة العسكرية، أو أن يلتحق بالمختار أو عبد الله بن حنظلة أو أن يقودهما معلناً بذلك المقاومة المسلحة بكل وضوح، لكننا نفهم من خلال النظر إلى ظروف زمان الإمام السجاد عليه اسلام أن هذا ظنٌ خاطئ وذلك بالإلتفات إلى هدف الأئمة عليه السلام الذي سأبينه لاحقاً.
لو قام الأئمة عليه السلام، ومن جملتهم الإمام السجاد عليه السلام في تلك الظروف بمثل هذه التحركات العلنية والسلبية، فباليقين لما بقي للشيعة باقية، ولما بقيت الأرضية أو فسح المجال لاستمرار ونمو مدرسة أهل البيت عليه السلام ونظام الولاية والإمامة فيما بعد.
لهذا نجد أن الإمام السجاد عليه السلام في قضية المختار لم يعلن التعاون معه، وبرغم ما جاء في بعض الروايات عن ارتباط سري بينهما إلاّ أنه وبدون أدنى شك لم يكن ارتباطاً علنياً، حتى قيل في بعض الروايات أن الإمام السجاد عليه السلام كان يذم المختار ويبدو هذا الأمر طبيعياً جداً من ناحية التقية وذلك حتى لا يُشعر بوجود أي ارتباط بينهما، مع العلم بأن المختار فيما لو انتصر فإنه بالتأكيد كان سيعطي الحكومة لأهل البيت عليه السلام، ولكن في حال هزيمته، ومع وجود أدنى ارتباط واضح وعلني، لكانت النقمة شملت وبشكل قطعي الإمام السجاد عليه السلام وشيعة المدينة واجتثت جذور التشيع أيضاً. لأجل ذلك لم يُظهر الإمام عليه السلام أي نوع من الإرتباط العلني معه.
جاء في رواية أنه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرة، لم يشك أحد على الإطلاق في أن أول شخص سيقع ضحية نقمته هو علي بن الحسين عليه السلام، لكن الإمام السجاد بتدبيره الحكيم تصرف بحيث دفع هذا البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصلي وهناك روايات في بعض الكتب منها "بحار الأنوار" تحكي عن إظهار التذلل من قبل حضرة السجّاد عليه السلام عند مسلم بن عقبة، ولكنني بالقطع أكذب هذه الروايات وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لا تستند هذه الروايات إلى أي سند صحيح.
ثانياً: يوجد روايات أخرى تكذبها وتدفعها من حيث المضمون.
ففي لقاء الإمام الحسين عليه السلام مع مسلم بن عقبة يوجد روايات عديدة لا تنسجم أية واحدة منها مع الأخرى، ولأن بعض تلك الروايات تنطبق وتنسجم أكثر مع نهج الأئمة وسيرتهم، فنحن بصورة طبيعية نقبلها.
على كل حال، مع أننا لا نقبل تلك الروايات التي تتحدث عن صدور مثل هذه الأفعال من الإمام ولكننا لا نشك أيضاً في أن الإمام لم يقابل مسلم بن عقبة بتصرف معاد، لأن أي تصرف من هذا القبيل سوف يؤدي إلى قتل الإمام، وهذا سيؤدي بدوره إلى خسارة عظيمة لا تجبر بلحاظ الدور الذي ينبغي أن يقوم به الإمام السجاد عليه السلام بالنسبة لثورة الحسين عليه السلام وتبليغ حقيقتها. لهذا يبقى الإمام وكما قرأنا في رواية الإمام الصادق عليه السلام. ويلحق الناس به شيئاً فشيئاً ويزداد عددهم. وفي ظل تلك الظروف الصعبة وغير المساعدة يبدأ عمل الإمام السجاد عليه السلام.
في تلك الفترة ساد حكم عبد الملك، الذي شمل أكثر مراحل الإمامة لمدة تجاوزت الثلاثين سنة وكان نظامه يقوم بالرصد التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجاد عليه السلام، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة التي كانت تنقل إليه أدق التفاصيل حتى المسائل الداخلية والخاصة للإمام.
فمثلاً كان للإمام السجاد عليه السلام جارية تزوجها بعد أن أعتقها. وصل هذا الخبر إلى عبد الملك، فكتب رسالة إلى الإمام السجاد عليه السلام أراد أن يفهمه فيها أنه مطلع على أعماله ومجريات حياته، وكان يريد ضمن ذلك أيضاً أن يقوم بنوع من التفاخر والإستعلاء، فكتب للإمام إن هذا العمل ليس من سيرة قريش وأنت من قريش فما كان ينبغي أن تفعل هذا! فأجابه الإمام جواباً شديداً مظهراً عدم تقبله لتصرف عبد الملك الممتزج بالتودد والمكر.
أهداف الإمام عليه السلام:
بعد أن توضحت ساحة الإمام السجاد عليه السلام أشير بشكل مختصر إلى الهدف والمنهج الذي اعتمده الأئمة. وبعد ذلك نقوم بدراسة جزئيات حياة هذا الإمام فيما يتعلق بهذا النهج.
بدون شك كان الهدف النهائي لحضرة السجاد عليه السلام إيجاد الحكومة الإسلامية. ولكن كيف يمكن أن تقام الحكومة الإسلامية في مثل تلك الظروف؟ إن هذا يحتاج إلى عدة أمور:
1- ينبغي أن تدوّن وتدرس وتنتشر المدرسة الإسلامية الحقيقية التي يحمل علمها الأئمة عليه السلام، هذه المدرسة التي هي أيضاً المبنى الأساس للحكومة الإسلامية.
إذ كيف يمكن أن تقام حكومة مبينة على أساس الفكر الإسلامي الأصيل، والمجتمع الإسلامي قد أبعد لسنوات طويلة عن الفكر الإسلامي الصحيح إضافة إلى أنه لم يكن هناك أية ظروف مساعدة لنشره وتثبيت أركانه بين الناس.
إن أعظم الأدوار التي مارسها الإمام السجاد عليه السلام هي أنه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوة، وحقيقة المقام المعنوي للإنسان، وارتباطه بالله، وأهم دور أدته الصحيفة السجادية هو في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصحيفة، ثم جولوا ببصركم في أوضاع الناس على صعيد الفكر الإسلامي في ذلك الزمان ستجدون مدى المسافة التي تفصل بين الإثنين.
ففي ذلك الزمان الذي كان المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي يسيرون نحو الحياة المادية والملذات بدءاً من شخص الخليفة عبد الملك بن مروان إلى العلماء المحيطين به (ومن جملتهم محمد بن شهاب الزهري، وسوف أذكر أسماء علماء البلاط فيما بعد)، نزولاً إلى الجميع الذين كانوا يغوصون في بحر الدنيا والماديات، يقف الإمام السجاد عليه السلام ويقول مخاطباً الناس.
"أوَلا حر يدع هذه اللماظة لأهلها".
ففي هذه الجملة يوضح الإمام أن الفكر الإسلامي الأصيل كان عبارة عن جعل الهدف للمعنويات والتحرك نحو الوصول إلى الأهداف المعنوية والإسلامية، وجعل الإنسان يرتبط بالله عبر التكليف. وهذا هو الموقف المقابل تماماً في ذلك الزمن.
كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم بعمل كبير من أجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلامي. وكانت هذه الحادثة بداية أعمال الإمام السجاد عليه السلام.
2- تعريف الناس على حقانية أولئك الذين ينبغي أن يتسلموا زمام الحكم. إذ كيف يمكن لأهل البيت عليه السلام تشكيل حكومة في الوقت الذي كان الإعلام والتبليغ ضد ال الرسول قد ملأ العالم الإسلامي طوال عشرات السنين حتى عصر الإمام السجاد عليه السلام وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تخالف حركة أهل البيت عليه السلام بل إنها في بعض الموارد تشتمل على سبهم ولعنهم، وقد نشرت بين أناس لم يكن لديهم أي اطلاع على المقام المعنوي والواقعي لأهل البيت عليه السلام.
لهذا، فإن أحد الأهداف والتحركات المهمة للإمام كانت ترتبط بتعريف الناس على حقانية أهل البيت وأن مقام الولاية والإمامة والحكومة حق ثابت لهم وهم الخلفاء الواقعيون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الأمر إضافة لما له من أهمية عقائدية وفكرية فإنه يرتبط بالحركة السياسية المناهضة للنظام الحاكم.
3- كان على الإمام أن يؤسس بعض الأجهزة والتشكيلات التي يمكن أن تكون منطلقاً أصلياً للتحركات السياسية المستقبلية ففي مجتمع متمزق يعيش تحت أنواع القمع والتضييع المالي والمعنوي، وبالأخص الشيعة الذين كانوا يعانون من تضييق متزايد، لم يكن باستطاعة الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم وحده أو مع جماعة قليلة وغير منظمة بالثورة والمواجهة.
لهذا كان همّ الإمام السجاد عليه السلام أن يبدأ بتشكيل هذه التنظيمات التي كانت برأينا موجودة منذ أيام أمير المؤمنين غير أنها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء وثورة المختار.
بالنتيجة نجد أن عمل الإمام كان يدور ضمن ثلاثة محاور:
الأول: تدوين الفكر الإسلامي بصورة صحيحة وطبق ما أنزل الله، وبعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.
الثاني: إثبات حقانية أهل البيت في الخلافة والإمامة.
الثالث: إيجاد التشكيلات المنظّمة لأتباع أهل البيت عليه السلام وأتباع التشيع.
هذه الأعمال الثلاثة هي التي ينبغي أن ندرسها ونبحث فيها لنرى أي واحد منها قد تحقق في حياة الإمام السجاد عليه السلام.
إلى جانب هذه الأعمال كانت هناك أيضاً أعمال أخرى وتحركات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجو المرعب والقمعي. ففي ظل الإجراءات الأمنية المشددّة التي كان يفرضها الحكم نلاحظ مواقف عديدة للإمام أو أتباعه كان الهدف منها كسر حواجز القمع وصناعة بعض الأجواء الملائمة واللطيفة، وخاصة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها، مثل المواقف التي حدثت بين الإمام وعبد الملك عدة مرات، أو الأمور التي جرت مع العلماء المنحرفين والتابعين لعبد الملك (من قبيل محمد بن شهاب الزهري) كل ذلك لأجل خرق ذلك الجو المتشدد.
إن الباحث عندما يستعرض الروايات سواء الأخلاقية منها أو المواعظ أو الرسائل التي نقلت عن الإمام أو المواقف التي صدرت منه وذلك على أساس ما بينّاه فإنه سوف يجد لها المعاني المناسبة وبتعبير اخر سوف يرى أن جميع تلك التحركات والأقوال كانت ضمن الخطوط الثلاثة التي أشرنا إليها والتي كانت تصب جميعاً في دائرة إقامة الحكومة الإسلامية. وبالتأكيد لم يكن الإمام يفكر في إيجاد حكومة إسلامية في زمانه لأنه كان يعلم أن وقتها في المستقبل أي في الحقيقة عصر الإمام الصادق عليه السلام.
* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
#منتديات_المخرج_علي_العذاري