شهادة الامام الباقر عليه السلام
وقضى الإمام في مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم مسموماً شهيد، قيل: دسّ إليه السمّ هشام بن عبد الملك1، وقيل: إبراهيم بن الوليد2، وقيل: إنّه مات مسموماً بسمّ دُسّ إليه في سرج، فركبه الإمام عليه السلام فنزل متورّماً.3
وكان الإمام يعلم بدنو أجله، فعن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّه قال: "قتل عليّ عليه السلام وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات عليّ بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأنا اليوم ابن ثمان وخمسين سنة"4.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ أبي عليه السلام استودعني ما هناك، فلمّا حضرته الوفاة قال: ادع لي شهوداً فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر فقال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، وأوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد وأمره أن يكفّنه في برده الذي كان يصلّي فيه الجمعة، وأن يعمّمه بعمامته، وأن يربّع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحلّ عنه أطماره عند دفنه، ثمّ قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبت- بعد ما انصرفوا- ما كان في هذا بأن تشهد عليه، فقال: يا بنيّ كرهت أن تغلب وأن يقال: إنّه لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك الحجّة"5.
وعنه عليه السلام أيضاً قال: "كتب أبي في وصيّته أن أكفّنه في ثلاثة أثواب، أحدها رداء له حبرة كان يصلّي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص، فقلت لأبي: لم تكتب هذا؟ فقال: أخاف أن يغلبك الناس وإن قالوا: كفّنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل، وعمّمني بعمامة، وليس تعدّ العمامة من الكفن، إنّما يعدّ ما يلفّ به الجسد"6.
وعنه عليه السلام أنّه قال: "كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه أبي محمّد بن عليّ، فأوصاني بأشياء في غسله وفى كفنه وفى دخوله قبره، قال: قلت: يا أبتاه والله ما رأيت منذ اشتكيت أحسن هيئة منك اليوم، وما رأيت عليك أثر الموت، قال: يا بنيّ أما سمعت عليّ بن الحسين عليه السلام ناداني من وراء الجدران: يا محمّد، تعال عجِّل"7.
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه أتى أبا جعفر بليلة قبض وهو يناجي، فأومأ إليه بيده أن تأخّر، فتأخّر حتّى فرغ من المناجاة، ثمّ أتاه فقال: "يا بنيّ، إنّ هذه الليلة التي أقبض فيه، وهي الليلة التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، قال: "وحدّثني أنّ أباه عليّ بن الحسين أتاه بشراب في الليلة التي قبض فيه، وقال: اشرب هذ، فقال: يا بنيّ إنّ هذه الليلة التي وعدت أن أقبض فيه، فقبض فيها"8.
وروي أنّه لمّا قربت وفاته عليه السلام دعا بأبي عبد الله جعفر ابنه عليه السلام فقال: "إنّ هذه الليلة التي وعدت فيها، ثمّ سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح"، وقال له: "يا أبا عبد الله، الله الله في الشيعة". فقال أبو عبد الله: "والله لا تركتهم يحتاجون إلى أحد"9.
وفي رواية أنّه قال: "لمّا حضرت أبي عليه السلام الوفاة قال: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم- والرجل منهم يكون في المصر- فلا يسأل أحداً"10.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادبٍ تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى"11.
گله يبعد الروح يا باقي البقيّه اتجلّد يبعد الروح واسمع هالوصية
من بعد عيني لازم اتنصبوا عزيّه ونوحوا على العطشان ظامي ذابحينه
وأوصى أبو جعفرعليه السلام بثمانمائة درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك من السُنّة، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغِلوا"12.
ثمّ إنّهعليه السلام، أدار وجهه في أهل بيته وقال: "حفظكم الله، سدّدكم الله، الله خليفتي عليكم وكفى به خليفة"، ثمّ صار يؤدّي الشهادتين، (أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله)، فغمّض عينيه، وقضى نحبه مسموماً..
وا إماماه واسيّداه وا باقراه
فأخذ في تجهيزه ولده الصادق عليه السلام، وصلّى عليه، ودفنه بالبقيع إلى جنب أبيه13.
عليه صاحت الوادم فرد صيحه الصادق غسله او حطّه ابضريحه
بس جثة السبط ظلّت طريحه او بالخيل الصدر منّه تهشّم
لَمْ يَبْقَ ثَاوٍ بِالعَرَاءِ كَجَدِّهِ دَامٍ تُغَسِّلُهُ دِمَاءُ وَرِيدِ
قَدْ بُدِّدَتْ أَوْصالُهُ يا لَلْهُدَى بِشَبَا الصِّفَاحِ أَيَّما تَبْدِيدِ
الإمام الباقر عليه السلام ومصائب كربلاء:
روي عنه عليه السلام قوله: "قُتل جدّي الحسين عليه السلام ولي أربع سنين، وإنّي لأذكر مقتله وما نالنا في ذلك الوقت"14.
وكان عليه السلام يروي أحداث كربلاء ويحدّث الناس به، فكان يقول عن قتل جدّه الحسين عليه السلام: "لقد قتل بالسيف، والسنان، وبالحجارة، وبالخشب، وبالعص، ولقد أوطأوه الخيل بعد ذلك"15.
ويقول: "أصيب الحسين بن عليّ عليه السلام ووجد به ثلاثمائة وبضع وعشرون طعنة برمح أو ضمْرة بسيف أو رمية بسهم"، فروي أنّها كانت كلّها في مقدّمه لأنّه عليه السلام كان لا يولّي16.
ركن الدين عالباقر تهدّم لمّن سمّه هشام او مات بالسم
تحمّل من زغر عينه النوايب او شاف ابكربله ابعينه المصايب
للشامات راح ويّه الغرايب او من ذل اليسر كبده تولّم
ظل من عقب هظم الغاضريّه مكظّم على الصبر من جور أميّه
لمّن جرّعوه كاسات المنيّه او كبده ذاب واتقطّع من السم
وعندما التقى بعقبة بن بشير الأسديّ قال له أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام: "إنّ لنا فيكم يا بني أسد دماً"، قال: قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر، وما ذلك؟ قال: "أُتي الحسين بصبيّ له فهو في حجره إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين دمه فلمّا ملأ كفّيه صبّه في الأرض، ثمّ قال: ربّ إن تك حبست عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين"17.
وكان يذكر دخوله الشام على يزيد، ويقول: "دخلنا على يزيد، ونحن اثنا عشر غلاماً مغلّلين في الحديد وعلينا قمص.."18.
ومشى ويّه الأطفال مقيِّدينه يسير وينضرب لو بكت عينه
ينظر والده ويسمع ونينه على الناقه وعليه يتراكم الهم
وهكذا بقيت أحداث كربلاء تتردّد في قلبه الزكيّ وعلى لسانه الشريف، فكان الشعراء يدخلون عليه لرثاء الحسين عليه السلام فيأذن لهم ويبكي لمصاب جدّه الحسين عليه السلام.
فعن الكميت بن أبي المستهلّ قال: دخلت على سيّدي أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام فقلت: يا ابن رسول الله إنّي قد قلت فيكم أبياتاً أفتأذن لي في إنشادها. فقال: "إنّها أيّام البيض". قلت: فهو فيكم خاصّة. قال: "هات"، فأنشأت أقول:
أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ وأَبْكَانِي والدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ وأَلْوانِ
لِتِسْعَةٍ بِالطَّفِّ قَدْ غُودِرُوا صَارُوا جِمِيعاً رَهْنَ أَكْفانِ
فبكى عليه السلام وبكى أبو عبد الله وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء، فلمّا بلغت إلى قولي:
وَسِتَّةٌ لا سَحارَى بِهِمُ بَنُو عَقيلٍ خَيْرُ فِتْيانِ
ثُمَّ عَلِيُّ الخَيْرِ مَوْلاكُمُ ذِكْرُهُمْ هَيَّجَ أَحْزَانِي
فبكى ثمّ قال عليه السلام: "ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة إلّا بنى الله له بيتاً في الجنّة، وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النّار"، فلمّا بلغت إلى قولي:
مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَا مَسَّكُمْ أَوْ شَامِتاً يَوْماً مِنَ الآنِ
فَقَدْ ذُلِّلْتُمُ بَعْدَ عِزٍّ فَمَا أَدْفَعُ ضَيْماً حِينَ يَغْشَانِي
أخذ بيدي وقال: "أللهم اغفر للكميت ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر"، فلمّا بلغت إلى قولي:
مَتَى يَقُومُ الحَقُّ فِيكُمْ مَتَى يَقُومُ مَهْدِيُّكُمُ الثَانِي؟
قال: "سريعاً إن شاء الله سريعاً"، ثمّ قال: "يا أبا المستهلّ، إنّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين.."19.
في زيارته عليه السلام:
روي عن أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام أنّه قال: "من زار جعفراً وأباه لم يشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى".
وعن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما لمن زار أحداً منكم؟ قال: "كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"20.
ويزار عليه السلام بما ورد في زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام:
"السلام عليكم أئمّة الهدى، السلام عليكم أهل التقوى، السلام عليكم الحجّة على أهل الدنيا، السلام عليكم القوّام في البريّة بالقسط، السلام عليكم أهل الصفوة، السلام عليكم أهل النجوى، أشهد أنّكم قد بلّغتم ونصحتم وصبرتم في ذات الله، وكُذّبتم وأُسيء إليكم فغفرتم، وأشهد أنّكم الأئمّة الراشدون المهديّون، وأنّ طاعتكم مفروضة، وأنّ قولكم الصدق، وأنّكم دعوتم فلم تجابوا وأمرتم فلم تطاعوا، وأنّكم دعائم الدين وأركان الأرض، ولم تزالوا بعين الله ينسخكم في أصلاب كلّ مطهّر، وينقلكم من أرحام المطهّرات، لم تدنّسكم الجاهليّة الجهلاء، ولم تشرك فيكم فتن الأهواء، طبتم وطاب منشأكم، منَّ بكم علينا ديّان الدين، فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليكم رحمة لن، وكفّارة لذنوبنا، إذ اختاركم لن، وطيّب خلقتنا بما منَّ به علينا من ولايتكم، فكنّا عنده مسمّين بعلمكم وبفضلكم، معترفين بتصديقنا إيّاكم، وهذا مقام من أسرف وأخط، واستكان وأقرّ بما جنى، ورجا بمقامه الخلاص، وأن يستنقذه بكم مستنقذ الهلكى من الردى. فكونوا لي شفعاء، فقد وفدت إليكم إذ رغب عنكم أهل الدني، واتخذوا آيات الله هزو، واستكبروا عنها، يا من هو ذاكر لا يسهو، ودائم لا يلهو، ومحيط بكلّ شيء، لك المنّ بما وفّقتني، وعرّفتني بما ثبّتني عليه، إذ صدّ عنه عبادك، وجحدوا معرفتهم، واستخفّوا بحقّهم، ومالوا إلى سواهم، فكانت المنّة لك ومنك عليّ، مع أقوامٍ خصصتهم بما خصصتني به، فلك الحمد إذ كنت عندك في مقامي مذكوراً مكتوب، ولا تحرمني ما رجوت ولا تخيّبني فيما دعوت".
وادع لنفسك بما أحببت ثمّ تصلّي ثمان ركعات إن شاء الله.
فإذا أردت الانصراف فقف على قبورهم وقل: "السلام عليكم أئمّة الهدى ورحمة الله وبركاته، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام، آمنّا بالله وبالرسول وبما جئتم به ودللتم عليه، أللهم فاكتبنا مع الشاهدين".
ثمّ ادع الله كثيراً واسأله أن لا يجعله آخر العهد من زيارتهم21.
* باقر العلوم، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 46 ص 217 عن الكفعميّ في المصباح.
2- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 210. قال السيّد محسن الأمين في المجالس السنيّة ج 5 هامش ص 455: لا يخفى أنّهعليه السلام توفّي في ملك هشام بن عبد الملك لا في ملك إبراهيم بن الوليد، إلّا أن يكون المراد أنّ إبراهيم سمّه في ملك هشام.
3- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 2 ص 604.
4- الأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 2 ص 332.
5- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 307.
6- المصدر السابق ج 3 ص 144.
7- الصفّار: بصائر الدرجات ص 502.
8- المصدر السابق ص 502.
9- المسعوديّ: إثبات الوصيّة ص 182.
10- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 306.
ا11-لمصدر السابق ج 5 ص 117.
12- المصدر السابق ج 3 ص 217.
13- الهاشميّ السيّد عليّ بن الحسين: المطالب المهمّة ص 149.
14- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص320.
15- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 45 ص 91.
16- الصدوق: الأماليّ ص 228.
17- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، ج 3 ص 332.
18- ابن قتيبة الدينوريّ: الإمامة والسياسة ج 2 ص 12.
19- الخزّاز القمّي: كفاية الأثر ص 248.
ا20-لطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 78 -79.
21-المصدر السابق ص 79 - 80.
وقضى الإمام في مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم مسموماً شهيد، قيل: دسّ إليه السمّ هشام بن عبد الملك1، وقيل: إبراهيم بن الوليد2، وقيل: إنّه مات مسموماً بسمّ دُسّ إليه في سرج، فركبه الإمام عليه السلام فنزل متورّماً.3
وكان الإمام يعلم بدنو أجله، فعن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّه قال: "قتل عليّ عليه السلام وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وقتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات عليّ بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأنا اليوم ابن ثمان وخمسين سنة"4.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ أبي عليه السلام استودعني ما هناك، فلمّا حضرته الوفاة قال: ادع لي شهوداً فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر فقال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، وأوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد وأمره أن يكفّنه في برده الذي كان يصلّي فيه الجمعة، وأن يعمّمه بعمامته، وأن يربّع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحلّ عنه أطماره عند دفنه، ثمّ قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبت- بعد ما انصرفوا- ما كان في هذا بأن تشهد عليه، فقال: يا بنيّ كرهت أن تغلب وأن يقال: إنّه لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك الحجّة"5.
وعنه عليه السلام أيضاً قال: "كتب أبي في وصيّته أن أكفّنه في ثلاثة أثواب، أحدها رداء له حبرة كان يصلّي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص، فقلت لأبي: لم تكتب هذا؟ فقال: أخاف أن يغلبك الناس وإن قالوا: كفّنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل، وعمّمني بعمامة، وليس تعدّ العمامة من الكفن، إنّما يعدّ ما يلفّ به الجسد"6.
وعنه عليه السلام أنّه قال: "كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه أبي محمّد بن عليّ، فأوصاني بأشياء في غسله وفى كفنه وفى دخوله قبره، قال: قلت: يا أبتاه والله ما رأيت منذ اشتكيت أحسن هيئة منك اليوم، وما رأيت عليك أثر الموت، قال: يا بنيّ أما سمعت عليّ بن الحسين عليه السلام ناداني من وراء الجدران: يا محمّد، تعال عجِّل"7.
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه أتى أبا جعفر بليلة قبض وهو يناجي، فأومأ إليه بيده أن تأخّر، فتأخّر حتّى فرغ من المناجاة، ثمّ أتاه فقال: "يا بنيّ، إنّ هذه الليلة التي أقبض فيه، وهي الليلة التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، قال: "وحدّثني أنّ أباه عليّ بن الحسين أتاه بشراب في الليلة التي قبض فيه، وقال: اشرب هذ، فقال: يا بنيّ إنّ هذه الليلة التي وعدت أن أقبض فيه، فقبض فيها"8.
وروي أنّه لمّا قربت وفاته عليه السلام دعا بأبي عبد الله جعفر ابنه عليه السلام فقال: "إنّ هذه الليلة التي وعدت فيها، ثمّ سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح"، وقال له: "يا أبا عبد الله، الله الله في الشيعة". فقال أبو عبد الله: "والله لا تركتهم يحتاجون إلى أحد"9.
وفي رواية أنّه قال: "لمّا حضرت أبي عليه السلام الوفاة قال: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم- والرجل منهم يكون في المصر- فلا يسأل أحداً"10.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادبٍ تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى"11.
گله يبعد الروح يا باقي البقيّه اتجلّد يبعد الروح واسمع هالوصية
من بعد عيني لازم اتنصبوا عزيّه ونوحوا على العطشان ظامي ذابحينه
وأوصى أبو جعفرعليه السلام بثمانمائة درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك من السُنّة، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغِلوا"12.
ثمّ إنّهعليه السلام، أدار وجهه في أهل بيته وقال: "حفظكم الله، سدّدكم الله، الله خليفتي عليكم وكفى به خليفة"، ثمّ صار يؤدّي الشهادتين، (أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله)، فغمّض عينيه، وقضى نحبه مسموماً..
وا إماماه واسيّداه وا باقراه
فأخذ في تجهيزه ولده الصادق عليه السلام، وصلّى عليه، ودفنه بالبقيع إلى جنب أبيه13.
عليه صاحت الوادم فرد صيحه الصادق غسله او حطّه ابضريحه
بس جثة السبط ظلّت طريحه او بالخيل الصدر منّه تهشّم
لَمْ يَبْقَ ثَاوٍ بِالعَرَاءِ كَجَدِّهِ دَامٍ تُغَسِّلُهُ دِمَاءُ وَرِيدِ
قَدْ بُدِّدَتْ أَوْصالُهُ يا لَلْهُدَى بِشَبَا الصِّفَاحِ أَيَّما تَبْدِيدِ
الإمام الباقر عليه السلام ومصائب كربلاء:
روي عنه عليه السلام قوله: "قُتل جدّي الحسين عليه السلام ولي أربع سنين، وإنّي لأذكر مقتله وما نالنا في ذلك الوقت"14.
وكان عليه السلام يروي أحداث كربلاء ويحدّث الناس به، فكان يقول عن قتل جدّه الحسين عليه السلام: "لقد قتل بالسيف، والسنان، وبالحجارة، وبالخشب، وبالعص، ولقد أوطأوه الخيل بعد ذلك"15.
ويقول: "أصيب الحسين بن عليّ عليه السلام ووجد به ثلاثمائة وبضع وعشرون طعنة برمح أو ضمْرة بسيف أو رمية بسهم"، فروي أنّها كانت كلّها في مقدّمه لأنّه عليه السلام كان لا يولّي16.
ركن الدين عالباقر تهدّم لمّن سمّه هشام او مات بالسم
تحمّل من زغر عينه النوايب او شاف ابكربله ابعينه المصايب
للشامات راح ويّه الغرايب او من ذل اليسر كبده تولّم
ظل من عقب هظم الغاضريّه مكظّم على الصبر من جور أميّه
لمّن جرّعوه كاسات المنيّه او كبده ذاب واتقطّع من السم
وعندما التقى بعقبة بن بشير الأسديّ قال له أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام: "إنّ لنا فيكم يا بني أسد دماً"، قال: قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر، وما ذلك؟ قال: "أُتي الحسين بصبيّ له فهو في حجره إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّى الحسين دمه فلمّا ملأ كفّيه صبّه في الأرض، ثمّ قال: ربّ إن تك حبست عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين"17.
وكان يذكر دخوله الشام على يزيد، ويقول: "دخلنا على يزيد، ونحن اثنا عشر غلاماً مغلّلين في الحديد وعلينا قمص.."18.
ومشى ويّه الأطفال مقيِّدينه يسير وينضرب لو بكت عينه
ينظر والده ويسمع ونينه على الناقه وعليه يتراكم الهم
وهكذا بقيت أحداث كربلاء تتردّد في قلبه الزكيّ وعلى لسانه الشريف، فكان الشعراء يدخلون عليه لرثاء الحسين عليه السلام فيأذن لهم ويبكي لمصاب جدّه الحسين عليه السلام.
فعن الكميت بن أبي المستهلّ قال: دخلت على سيّدي أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام فقلت: يا ابن رسول الله إنّي قد قلت فيكم أبياتاً أفتأذن لي في إنشادها. فقال: "إنّها أيّام البيض". قلت: فهو فيكم خاصّة. قال: "هات"، فأنشأت أقول:
أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ وأَبْكَانِي والدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ وأَلْوانِ
لِتِسْعَةٍ بِالطَّفِّ قَدْ غُودِرُوا صَارُوا جِمِيعاً رَهْنَ أَكْفانِ
فبكى عليه السلام وبكى أبو عبد الله وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء، فلمّا بلغت إلى قولي:
وَسِتَّةٌ لا سَحارَى بِهِمُ بَنُو عَقيلٍ خَيْرُ فِتْيانِ
ثُمَّ عَلِيُّ الخَيْرِ مَوْلاكُمُ ذِكْرُهُمْ هَيَّجَ أَحْزَانِي
فبكى ثمّ قال عليه السلام: "ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة إلّا بنى الله له بيتاً في الجنّة، وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النّار"، فلمّا بلغت إلى قولي:
مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَا مَسَّكُمْ أَوْ شَامِتاً يَوْماً مِنَ الآنِ
فَقَدْ ذُلِّلْتُمُ بَعْدَ عِزٍّ فَمَا أَدْفَعُ ضَيْماً حِينَ يَغْشَانِي
أخذ بيدي وقال: "أللهم اغفر للكميت ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر"، فلمّا بلغت إلى قولي:
مَتَى يَقُومُ الحَقُّ فِيكُمْ مَتَى يَقُومُ مَهْدِيُّكُمُ الثَانِي؟
قال: "سريعاً إن شاء الله سريعاً"، ثمّ قال: "يا أبا المستهلّ، إنّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين.."19.
في زيارته عليه السلام:
روي عن أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام أنّه قال: "من زار جعفراً وأباه لم يشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى".
وعن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما لمن زار أحداً منكم؟ قال: "كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"20.
ويزار عليه السلام بما ورد في زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام:
"السلام عليكم أئمّة الهدى، السلام عليكم أهل التقوى، السلام عليكم الحجّة على أهل الدنيا، السلام عليكم القوّام في البريّة بالقسط، السلام عليكم أهل الصفوة، السلام عليكم أهل النجوى، أشهد أنّكم قد بلّغتم ونصحتم وصبرتم في ذات الله، وكُذّبتم وأُسيء إليكم فغفرتم، وأشهد أنّكم الأئمّة الراشدون المهديّون، وأنّ طاعتكم مفروضة، وأنّ قولكم الصدق، وأنّكم دعوتم فلم تجابوا وأمرتم فلم تطاعوا، وأنّكم دعائم الدين وأركان الأرض، ولم تزالوا بعين الله ينسخكم في أصلاب كلّ مطهّر، وينقلكم من أرحام المطهّرات، لم تدنّسكم الجاهليّة الجهلاء، ولم تشرك فيكم فتن الأهواء، طبتم وطاب منشأكم، منَّ بكم علينا ديّان الدين، فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليكم رحمة لن، وكفّارة لذنوبنا، إذ اختاركم لن، وطيّب خلقتنا بما منَّ به علينا من ولايتكم، فكنّا عنده مسمّين بعلمكم وبفضلكم، معترفين بتصديقنا إيّاكم، وهذا مقام من أسرف وأخط، واستكان وأقرّ بما جنى، ورجا بمقامه الخلاص، وأن يستنقذه بكم مستنقذ الهلكى من الردى. فكونوا لي شفعاء، فقد وفدت إليكم إذ رغب عنكم أهل الدني، واتخذوا آيات الله هزو، واستكبروا عنها، يا من هو ذاكر لا يسهو، ودائم لا يلهو، ومحيط بكلّ شيء، لك المنّ بما وفّقتني، وعرّفتني بما ثبّتني عليه، إذ صدّ عنه عبادك، وجحدوا معرفتهم، واستخفّوا بحقّهم، ومالوا إلى سواهم، فكانت المنّة لك ومنك عليّ، مع أقوامٍ خصصتهم بما خصصتني به، فلك الحمد إذ كنت عندك في مقامي مذكوراً مكتوب، ولا تحرمني ما رجوت ولا تخيّبني فيما دعوت".
وادع لنفسك بما أحببت ثمّ تصلّي ثمان ركعات إن شاء الله.
فإذا أردت الانصراف فقف على قبورهم وقل: "السلام عليكم أئمّة الهدى ورحمة الله وبركاته، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام، آمنّا بالله وبالرسول وبما جئتم به ودللتم عليه، أللهم فاكتبنا مع الشاهدين".
ثمّ ادع الله كثيراً واسأله أن لا يجعله آخر العهد من زيارتهم21.
* باقر العلوم، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 46 ص 217 عن الكفعميّ في المصباح.
2- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 210. قال السيّد محسن الأمين في المجالس السنيّة ج 5 هامش ص 455: لا يخفى أنّهعليه السلام توفّي في ملك هشام بن عبد الملك لا في ملك إبراهيم بن الوليد، إلّا أن يكون المراد أنّ إبراهيم سمّه في ملك هشام.
3- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 2 ص 604.
4- الأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 2 ص 332.
5- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 307.
6- المصدر السابق ج 3 ص 144.
7- الصفّار: بصائر الدرجات ص 502.
8- المصدر السابق ص 502.
9- المسعوديّ: إثبات الوصيّة ص 182.
10- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 306.
ا11-لمصدر السابق ج 5 ص 117.
12- المصدر السابق ج 3 ص 217.
13- الهاشميّ السيّد عليّ بن الحسين: المطالب المهمّة ص 149.
14- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص320.
15- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 45 ص 91.
16- الصدوق: الأماليّ ص 228.
17- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، ج 3 ص 332.
18- ابن قتيبة الدينوريّ: الإمامة والسياسة ج 2 ص 12.
19- الخزّاز القمّي: كفاية الأثر ص 248.
ا20-لطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 78 -79.
21-المصدر السابق ص 79 - 80.