الامام الحسن العسكري عليه السلام
عانى الإمام العسكري عليه السلام مع أبيه الهادي، وقضى القسط الأهم من حياته في العاصمة العباسية وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف التي واجهت أباه، وتسلم مركز الإمامة بعد أبيه وعمره انذاك اثنتين وعشرين عاماً.
وجاءت مواقفه امتداداً لمواقف أبيه عليه السلام بوصفه المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده وراعياً لمصالحهم العقائدية والإجتماعية، بالإضافة إلى تخطيطه وتمهيده، لغيبة ولده الحجة بن الحسن المهدي عليه السلام.
وفي عصر الإمام عليه السلام جدّت ظروف وملابسات، ضعفت معها السلطة العباسية إلى درجة سيطرة الموالي والأتراك على مقاليد الحكم.
وكان من المتوقع وفي هذا الجو من ضعف السلطة، أن يخف الضغط والإرهاب على الإمام وأصحابه، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل ازدادت موجة الإرهاب والضغط وبلغت أوجها على يد الخليفة المعتمد، لأن الخوف والتوجس من نشاط الإمام وتحركاته لم يكن ليقتصر على الخليفة وحده، بل إن هذه تمثلت في خط اجتماعي عام، لم يكن الخليفة إلا أحد أفراده.
فكان هذا الخط الإجتماعي العام، يقف دوماً ضد خط الإمام وأطروحته الفكرية والسياسية، والمتميزة والمتناقضة مع أطروحة الحاكم المتمثل في هذا الخط الإجتماعي العام والطبقة المستأثرة المنحرفة.
ومن هنا كان الصراع الدائم بين الخطين المتناقضين، ومحاولات الحاكم لعزل أطروحة الإمام وقيادته عن المسرح الإجتماعي والسياسي، ومحاسبته على كل بادرة نشاط أو تحرك حتى ولو كانت وشاية تافهة أو خبراً صغيراً عن نشاط الإمام "وقد حبسه المتوكل ولم يذكر سبب ذلك، ولا شك أن سببه العداوة والحسد وقبول وشاية الواشين كما جرى لابائه مع المتوكل وابائه من التشريد والحبس والقتل وأنواع الأذى، وروي أنه عليه السلام قتل مسموماً على يد المعتمد"1.
ومن هنا لا ينبغي توقع خفة الضغط، وموجته المرعبة بتوالي الأعوام، بل يحدثنا التاريخ عن شدتها وترسخها.
وهذا التصاعد الحاقد في محاربة الإمام عليه السلام كان السبب والدافع الرئيسي والمهم، لحدوث الغيبة، كما سنوضحه فيما يأتي إن شاء الله.
خطة الإمام عليه السلام في مواجهته للأحداث:
ويمكن تقسيم مواقف الإمام عليه السلام وخططه تجاه الأحداث بما يلي من المواقف:
الموقف الأول: من الحكم والحكام
كانت سياسة العباسيين تجاه الأئمة عليه السلام واضحة من أيام الإمام الرضا عليه السلام وتلخصت بالحرص على دمج إمام أهل البيت وصَهْرِه في الجهاز الحاكم، وضمان مراقبتهم الدائمة له، ومن ثم عزله عن قواعده ومواليه.
هذه السياسة المخادعة كانت نافذة تجاه الإمام الحسن العسكري عليه السلام كذلك لمزاياها الكثيرة بالنسبة للحكم، فكان العسكري عليه السلام كوالده مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس2.
ولكن الإمام عليه السلام كابائه في موقفه من الحكام، وقف موقفاً حذراً ومحترساً في علاقته بالحكم، دون أن يثير أي اهتمام أو أن يلقي بنفسه في أضواء الحكم وجهازه، بل كانت علاقته بالحكم روتينية رتيبة، تمسكاً بخط ابائه تجاه السلطة العباسية.
فموقف الإمام السلبي هذا أكسبه أمام الحكام احتراماً ومنزلة رفيعة، وهذا ما نلاحظ من خلال علاقته بوزراء عصره وكيف أن الإمام عليه السلام كان يفرض شخصيته وجلالها حتى على أشد الناس حقداً وانحرافاً عن أهل البيت وهو الوزير عبيد الله يحيى بن خاقان الذي يقول في الإمام عليه السلام: "ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم أيَّاه على ذوي السن منهم والخطر"3.
والملاحظ من كلام هذا الوزير مدى احترامه وتقديسه للإمام، وقد زاره الإمام مرة وقابله في مجلس قصير4 لكي يفهمهم أن وقوفه عليه السلام إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم والإنحراف الذي يمارسه الجهاز الحاكم، إنما يقفه لتأييد كل حق أينما وجد، لأن المسألة عنده مسألة أمة ورسالة وهي تسمو على العداوات الشخصية والإختلافات، وربما أراد كذلك أن يوهمهم بعدم الخروج على سياستهم أو الإحتجاج ضدهم وربما كانت سبباً تدفع الحاكم للتخفيف عن أصحابه من الضغط والمطاردة التي يلقونها من الدولة.
وقد أراد الإمام عليه السلام أن يلتقي بالوزير في محل عام وفي أثناء جلوس الوزير يخبره حاجبه بأن أبا محمد بن الرضا بالباب فيأخذ هذا الخبر اهتماماً في نفس الوزير، قال ولده أحمد: فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا بحضرة أبي، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد.
يقول: فدخل رجل حسنُ القامة، جميل الوجه، جيد البدن حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.
قال أحمد: فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطىً فعانقه وقبَّل وجهه وصدره وأجلسه على مصلاه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه!..
وقد بقي أحمد بن عبيد الله متحيراً في أمر أبيه وأمر الإمام حتى استأذن مرة أباه بالسؤال وقال: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل. فقال يا بني ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي، ثم سكت وأنا ساكت، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه5.
وهذا يدل على ما للإمام عليه السلام من حب وتعظيم وإدراك لعدالة قضيته وأجدريته بالحكم.
والإمام العسكري عليه السلام كان يقف من بعض الأحداث موقف الساكت دون تصريح إيجابي أو سلبي تجاهها، كما فعل مع صاحب ثورة الزنج الذي زعم الإنتساب إلى الإمام علي عليه السلام ولم تكن ثورته تجسيداً لأطروحة أهل البيت لما ارتكبته ثورته من قتل الكثير من الناس، وسلبه الأموال وإحراقه المدن وسبيه النساء، كل ذلك بالجملة وبلا حساب أو رادع من دين.
فموقف الإمام إزاء سلوكية الثورة كان قطعاً موقف الرافض والمستنكر لما ارتكبته من أعمال تتنافى وأحكام الإسلام ولكن الإمام عليه السلام اثر السكوت والصمت ولم ينتقد تصرفاتها ولم يتعرض لتفاصيلها، ولو فعل ذلك لكان عمله هذا يعتبر تأييداً ضمنياً للدولة، لأن ثورة الزنج بالرغم من سلبياتها الكثيرة فهي بالتالي تتفق وأهداف الإمام عليه السلام من إضعاف حكم العباسيين وكسر شوكتهم، وهو أمر ينبغي على الإمام عليه السلام أن يستفيد منه لصالح حركته ونشاطه، لأن المعارضين مهما اختلفوا، فهم بالتالي يشتركون في مناوأة عدو واحد وهو الوضع الحاكم.
فالإمام يستفيد من نتائج حركة الزنج، لأن الدولة سوف تضعف، ولا يمكنها من أن تحارب على جبهتين أو أن تعطي لكل جبهة ثقلها المطلوب، ولربما أدى ذلك إلى حد ما إلى تخفيف الضغط على جبهة الإمام عليه السلام، ولو أن الدولة كانت ترى أن نشاط الإمام عليه السلام أشد خطراً وأبعد أثراً على المدى البعيد من حركة الزنج التي لا يعدو كونها تحركاً انياً سرعان ما يزول.
الموقف الثاني: موقفه من الحركة العلمية والتثقيف العقائدي
وتمثلت مواقفه العلمية بردوده المفحمة للشبهات الإلحادية وإظهاره للحق بأسلوب الحوار والجدل الموضوعي والمناقشات العلمية، وكان يردف هذا النشاط بنشاط اخر بإصداره البيانات العلمية وتأليفه الكتب ونحو ذلك.
وهو بهذا الجهد "يموِّن الأمة العقائدية شخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة، وضربها في بدايات تكونها من ناحية أخرى، وللإمام من علمه المحيط المستوعب ما يجعله قادراً على الإحساس بهذه البدايات وتقدير أهميتها ومضاعفاتها والتخطيط للقضاء عليها.
ومن هنا جاء موقف الإمام العسكري واهتمامه في المدينة بمشروع كتاب يضعه الكندي " أبو يوسف يعقوب بن إسحاق" فيلسوف العراق في زمانه، حول متناقضات القران إذ اتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته وأحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ6 وجعله يتوب ويحرق أوراقه7.
وله عليه السلام بيانات علمية لأبي هاشم الجعفري في مسألة خلق القران8 وكذلك في تفسير القران9.
الموقف الثالث:
موقفه في مجال الإشراف على قواعده الشعبية وحماية وجودها وتنمية وعيها ومدها بكل أساليب الصمود والإرتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة.
وكثيراً ما كان ينبههم عليه السلام من الوقوع في الشرك العباسي ويعينهم على نوائب الدهر اقتصادياً واجتماعياً من جراء ما يلاقونه من معاملة قاسية من الحكام.
وقد كتب الإمام محذراً محمد بن علي السمري وهو خاصة أصحابه ورابع نواب ولده الحجة المهدي عجل الله تعالى فرجه في غيبته الصغرى قائلاً له: "فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة"10.
وكان يأمر أصحابه بالصمت والكف عن النشاط ريثما تعود الأمور إلى مجاريها وتستتب الحوادث.
وكان عليه السلام يحذر أصحابه حتى وهم رهن الإعتقال، وقد اعتقل مرة جماعة من أصحابه ووضعوا تحت إشراف صالح بن وصيف وهم: أبو هاشم الجعفري، وداوود بن القاسم، والحسن بن محمد العقيقي، ومحمد بن إبراهيم العمري وغيرهم. فأخبرهم الإمام عليه السلام أن يحذروا واحداً في الحبس يدعي أنه علوي وهو ليس منهم، وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه، فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام عليه السلام11.
ومن مواقفه تجاه أصحابه مساعدته بالمال لأجل مصالحهم المادية العامة.
فقد كانت تأتي الإمام عليه السلام أموال كثيرة من مختلف المناطق الإسلامية التي تتواجد فيها قواعده الشعبية، وذلك عن طريق وكلائه المنتشرين فيها.
وكان الإمام عليه السلام يحاول جاهداً وبأساليب مختلفة أن يخفي هذا الجانب إخفاء تاماً عن السلطة، ويحيطه بالسرية التامة.
ونستطيع أن نلاحظ، كيف استطاع الإمام وهو المضطهد المراقب أن يستلم الأموال ويصرفها طبقاً للمصالح التي يراها دون أن تعرف الدولة شيئاً عن نشاطه هذا، بل تقف تجاهه عاجزة مكتوفة الأيدي عن كشفه، بالرغم من بذل أقصى وسعها في ذلك، وما انكشاف بعض هذه الأموال للدولة إلا نتيجة لتقصير بعض الأطراف في الأخذ بهذا المسلك12.
ولقد وقفت الدولة العباسية موقفاً شديداً وصارماً من أصحاب الإمام عليه السلام وقواعده المساندة وقد فعلت الكثير من أجل تمييع أطروحة الإمام عليه السلام وشرذمة أصحابه، وعمدت إلى شراء الضمائر بالمال الوفير والعيش الرغيد.
وكان الإمام عليه السلام يقف من هذه المحاولات موقف الناصح والمسدد لأصحابه قائلاً لهم: "الفقير معنا خيرٌ من الغني مع غيرنا، والقتل معنا خيرٌ من الحياة مع عدونا، ونحن كهفٌ لمن التجأ إلينا، ونورٌ لمن استبصر بنا وعصمةٌ لمن اعتصم بنا، من أحبنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنا فإلى النار"13.
الموقف الرابع: موقفه عليه السلام من التمهيد للغيبة
إن الإمام العسكري عليه السلام حين يعلم بكل وضوح تعلق الإرادة الإلهية بغيبة ولده من أجل إقامة دولة الله على الأرض وتطبيقها على الإنسانية أجمع، والأخذ بيد المستضعفين في الأرض ليبدل خوفهم أمناً.. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً..
يعرف أن عليه مسؤولية التمهيد لغيبة ولده، وذلك لأن البشر اعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب على هذا الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوز إلى تفكير واسع.
ولم يكن مجتمع الإمام عليه السلام الذي عاصر بواقعه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته، خاصة وأن غيبة الإمام حادث لا مثيل له في تاريخ الأمة.
والإرهاصات المسبقة والنصوص الكثيرة المتوالية التي جاءت تبشر بالمهدي عجل الله تعالى فرجه وإن كانت متواترة وصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن رواها مؤلفو الصحاح وهم معاصرون أو متقدمون على هذه الفترة بمن فيهم البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.. نقول وإن كان لكل هذه النصوص والتبليغات، أثرها الكبير والفاعل في ترسيخ فكرة انتظار المهدي عجل الله تعالى فرجه في نفوس المسلمين بشكل عام، وكان إيمانهم بها يتناسب تناسباً طردياً مع عمق إيمان الفرد وسعة تفكيره واتجاه مذهبه في الإسلام، فإن هذه النصوص ليست أكثر من عون للإمام لكي يقنع الناس بالإيمان بالغيبة من ناحية ويبرهن للناس تجسيد الغيبة في ولده المهدي من ناحية أخرى.
والأمر الأصعب الذي تحمل مسئوليته الإمام العسكري عليه السلام بصفته والداً للمهدي عليه السلام هو إقناع الناس بفكرة حلول زمان الغيبة وتنفيذها في شخص ولده الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه وهو أمر صعب بالنسبة للفرد العادي إذ أنه سوف يفاجأ ويصدم بإيمانه بفكرة الغيبة، فإن هناك فرقاً كبيراً في منطق إيمان الفرد العادي بشكل مؤجل لا يكاد يحس الفرد بأثره في الحياة وبين الإيمان بالغيب مع الإعتقاد بتنفيذه في زمان معاصر، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الإفتراض التوضيحي التالي:
إذا أخبرنا شخص لا نشك بصدقه بقرب حدوث قيام الساعة أو قرب حدوث أجلنا، فإن مثل هذا الخبر سوف يولد لنا صدمة للإيمان بها، لأن الإيمان يحتاج إلى قوة مضاعفة من الإيمان والإرادة، وأن نحشد كل قوانا الإيمانية والروحية كي نتوصل معها للإيمان بهذا الأمر الغيبي.
هذه الحقيقة النفسية وملابساتها، كانت تلح على الإمام أن يبذل كل الجهد لتخفيف وقع الصدمة وتذليلها وتهيئة أذهان الناس لاستقبالها دون رفض أو إنكار، وتعويد أصحابه وقواعده على الإلتزام وهو يريد تربية جيلٍ واعٍ يكون النواة الأساسية لتربية الأجيال الاتية والتي ستبني بجهدها تاريخ الغيبتين الصغرى والكبرى.
وإذا عطفنا على ذلك تلك الظروف والمعاناة الصعبة التي عاشها الإمام وأصحابه من قبل الدولة، وضرورة العمل والتبشير بفكرة المهدي الثورية، والتي كانت تعتبر في منطق الحكام أمراً مهدداً لكيانهم وخروجاً على سلطانهم وتمرداً على دولتهم.
ومن هنا نحس بكل وضوح دقة التخطيط الملقاة على كاهل الإمام العسكري عليه السلام وحرج موقفه وهو يدعو لفكرة ولده المهدي عليه السلام:
الإمام عليه السلام يمهد لغيبة ولده المهدي عليه السلام
وقد اتجه نشاط الإمام العسكري وتخطيطه في تحقيق هذا الهدف إلى عملين ممهدين:
1- حجب المهدي عجل الله تعالى فرجه عن أعين الناس مع إظهاره لبعض خاصته فقط.
2- شن حملة توعية لفكرة الغيبة، وإفهام الناس بضرورة تحملهم لمسؤولياتهم الإسلامية تجاهها وتعويدهم على متطلباتها.
فعلى المستوى الثاني رأينا الإمام العسكري يصدر بياناته وتعليماته عن المهدي عجل الله تعالى فرجه كحلقة متسلسلة من تلك النصوص والتعليمات التي بشر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده مع التأكيد والتخصيص على ولده المهدي عليه السلام.
واتخذت بيانات العسكري عليه السلام أشكالاً ثلاثة:
أ- بيان عام، كالتعرض إلى صفات المهدي عجل الله تعالى فرجه بعد ظهوره وقيامه في دولته العالمية، كجوابه عليه السلام عن سؤال بعض أصحابه عن قيام المهدي قائلاً: "فإذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داوود لا يسأل البينة"14.
ب- توجيه نقد سياسي للأوضاع القائمة، يقرنها بفكرة المهدي وضرورة تغييرها لها، فمن ذلك قوله عليه السلام: "إذا خرج القائم أمر بهدم المنابر والمقاصر في المساجد" وكانت تبنى هذه المقاصر لغرض الأمن من الإعتداء على الخليفة وزيادة الهيبة في نفوس الاخرين15.
ج- توجيه عام لقواعده وأصحابه، يوضح لهم أبعاد فكرة الغيبة، وضرورة التكيف لها من الناحية النفسية والإجتماعية تمهيداً لما يعانونه من غيبة الإمام وانقطاعه عنهم.
فمن ذلك كتب الإمام عليه السلام لابن بابويه رسالة يقول فيها: "عليك بالصبر وانتظار الفرج، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"16.
3- وقد اتخذ الإمام العسكري عليه السلام موقفاً اخر يمهد فيه للغيبة عندما احتجب بنفسه عن الناس، إلا عن خاصة أصحابه وأوكل مهمة تبليغ تعليماته وأحكامه بواسطة عدد من خاصته وذلك بأسلوب المكاتبات والتوقيعات، ممهداً بذلك إلى نفس الأسلوب الذي سوف يسير عليه ابنه المهدي عجل الله تعالى فرجه في غيبته الصغرى وهو في احتجابه وإيصاله للتعليمات.
وقد يبدو الأمر غريباً مفاجئاً للناس لو حدث هذا بدون مسبقات وممهدات كهذه. ومن هنا كان أسلوب الإمام العسكري، منهجاً خاصاً في تهيئة ذهنيات الأمة وتوعيتها لكي تتقبل هذا الأسلوب وتستسيغه من دون استغراب ومضاعفات غير محمودة.
وكان قد بدأ التحضير والتخطيط لهذه الفكرة بشكل بسيط أيام الإمام الهادي عليه السلام عندما احتجب عن كثير من مواليه وأخذ يراسلهم عن طريق الكتب والتوقيعات17 ليعود شيعته على هذا المسلك بشكل متدرج بطيء موافقاً بذلك الفهم العام لدى الناس.
وفعلاً اعتاد أصحابه ومواليه الإتصال به والسؤال منه بطريق المراسلة والكتابة18.
وكذلك نظام الوكلاء الذي اتبعه الإمام العسكري مع قواعده الشعبية كان أسلوباً اخر من أساليب التمهيد لفكرة الغيبة.
وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام عليه السلام نفذوا إلى عثمان بن سعيد العمري السمان الذي كان يتجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام عليه السلام فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى الإمام عليه السلام بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه19.
وسنجد في البحث المقبل أن نظام الإحتجاب والوكلاء، هو الأسلوب نفسه الذي يكون ساري المفعول في غيبة الإمام الصغرى، بعد أن اعتاد الناس في مسلك الإمامين العسكريين عليهما السلام وخاصة الإمام الحسن العسكري عليه السلام وهذا ما سنوضحه في البحث التالي إن شاء الله.
* الحياة السياسية لأئمة أهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الموسوعة، ص49.
2- المناقب، ج3، ص335.
3- الإرشاد، ص813 وأعلام الورى، ص753.
4- المناقب، ج3، ص625.
5- الإرشاد، ص813.
6- دور الأئمة للصدر.
7- المناقب، ج3، ص625.
8- نفس المصدر، ج3، ص535.
9- الإحتجاج، ج2، ص052.
10- كشف الغمة، ج3، ص704.
11- نفس المصدر، ج3، ص222 وأعلام الورى، ص453.
12- راجع للتوسع تاريخ الغيبة، للصدر، ص602.
13- كشف الغمة، ج3، ص112.
14- الإرشاد، ص323.
15- المناقب، ج3، ص635.
16- نفس المصدر، ص725.
17- إثبات الوصية، ص262.
18- الإرشاد، ص323، وكشف الغمة ج3، ص702.
19- غيبة الشيخ الطوسي، ص 219 512.
عانى الإمام العسكري عليه السلام مع أبيه الهادي، وقضى القسط الأهم من حياته في العاصمة العباسية وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف التي واجهت أباه، وتسلم مركز الإمامة بعد أبيه وعمره انذاك اثنتين وعشرين عاماً.
وجاءت مواقفه امتداداً لمواقف أبيه عليه السلام بوصفه المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده وراعياً لمصالحهم العقائدية والإجتماعية، بالإضافة إلى تخطيطه وتمهيده، لغيبة ولده الحجة بن الحسن المهدي عليه السلام.
وفي عصر الإمام عليه السلام جدّت ظروف وملابسات، ضعفت معها السلطة العباسية إلى درجة سيطرة الموالي والأتراك على مقاليد الحكم.
وكان من المتوقع وفي هذا الجو من ضعف السلطة، أن يخف الضغط والإرهاب على الإمام وأصحابه، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل ازدادت موجة الإرهاب والضغط وبلغت أوجها على يد الخليفة المعتمد، لأن الخوف والتوجس من نشاط الإمام وتحركاته لم يكن ليقتصر على الخليفة وحده، بل إن هذه تمثلت في خط اجتماعي عام، لم يكن الخليفة إلا أحد أفراده.
فكان هذا الخط الإجتماعي العام، يقف دوماً ضد خط الإمام وأطروحته الفكرية والسياسية، والمتميزة والمتناقضة مع أطروحة الحاكم المتمثل في هذا الخط الإجتماعي العام والطبقة المستأثرة المنحرفة.
ومن هنا كان الصراع الدائم بين الخطين المتناقضين، ومحاولات الحاكم لعزل أطروحة الإمام وقيادته عن المسرح الإجتماعي والسياسي، ومحاسبته على كل بادرة نشاط أو تحرك حتى ولو كانت وشاية تافهة أو خبراً صغيراً عن نشاط الإمام "وقد حبسه المتوكل ولم يذكر سبب ذلك، ولا شك أن سببه العداوة والحسد وقبول وشاية الواشين كما جرى لابائه مع المتوكل وابائه من التشريد والحبس والقتل وأنواع الأذى، وروي أنه عليه السلام قتل مسموماً على يد المعتمد"1.
ومن هنا لا ينبغي توقع خفة الضغط، وموجته المرعبة بتوالي الأعوام، بل يحدثنا التاريخ عن شدتها وترسخها.
وهذا التصاعد الحاقد في محاربة الإمام عليه السلام كان السبب والدافع الرئيسي والمهم، لحدوث الغيبة، كما سنوضحه فيما يأتي إن شاء الله.
خطة الإمام عليه السلام في مواجهته للأحداث:
ويمكن تقسيم مواقف الإمام عليه السلام وخططه تجاه الأحداث بما يلي من المواقف:
الموقف الأول: من الحكم والحكام
كانت سياسة العباسيين تجاه الأئمة عليه السلام واضحة من أيام الإمام الرضا عليه السلام وتلخصت بالحرص على دمج إمام أهل البيت وصَهْرِه في الجهاز الحاكم، وضمان مراقبتهم الدائمة له، ومن ثم عزله عن قواعده ومواليه.
هذه السياسة المخادعة كانت نافذة تجاه الإمام الحسن العسكري عليه السلام كذلك لمزاياها الكثيرة بالنسبة للحكم، فكان العسكري عليه السلام كوالده مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس2.
ولكن الإمام عليه السلام كابائه في موقفه من الحكام، وقف موقفاً حذراً ومحترساً في علاقته بالحكم، دون أن يثير أي اهتمام أو أن يلقي بنفسه في أضواء الحكم وجهازه، بل كانت علاقته بالحكم روتينية رتيبة، تمسكاً بخط ابائه تجاه السلطة العباسية.
فموقف الإمام السلبي هذا أكسبه أمام الحكام احتراماً ومنزلة رفيعة، وهذا ما نلاحظ من خلال علاقته بوزراء عصره وكيف أن الإمام عليه السلام كان يفرض شخصيته وجلالها حتى على أشد الناس حقداً وانحرافاً عن أهل البيت وهو الوزير عبيد الله يحيى بن خاقان الذي يقول في الإمام عليه السلام: "ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم أيَّاه على ذوي السن منهم والخطر"3.
والملاحظ من كلام هذا الوزير مدى احترامه وتقديسه للإمام، وقد زاره الإمام مرة وقابله في مجلس قصير4 لكي يفهمهم أن وقوفه عليه السلام إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم والإنحراف الذي يمارسه الجهاز الحاكم، إنما يقفه لتأييد كل حق أينما وجد، لأن المسألة عنده مسألة أمة ورسالة وهي تسمو على العداوات الشخصية والإختلافات، وربما أراد كذلك أن يوهمهم بعدم الخروج على سياستهم أو الإحتجاج ضدهم وربما كانت سبباً تدفع الحاكم للتخفيف عن أصحابه من الضغط والمطاردة التي يلقونها من الدولة.
وقد أراد الإمام عليه السلام أن يلتقي بالوزير في محل عام وفي أثناء جلوس الوزير يخبره حاجبه بأن أبا محمد بن الرضا بالباب فيأخذ هذا الخبر اهتماماً في نفس الوزير، قال ولده أحمد: فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا بحضرة أبي، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد.
يقول: فدخل رجل حسنُ القامة، جميل الوجه، جيد البدن حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.
قال أحمد: فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطىً فعانقه وقبَّل وجهه وصدره وأجلسه على مصلاه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه!..
وقد بقي أحمد بن عبيد الله متحيراً في أمر أبيه وأمر الإمام حتى استأذن مرة أباه بالسؤال وقال: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل. فقال يا بني ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي، ثم سكت وأنا ساكت، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه5.
وهذا يدل على ما للإمام عليه السلام من حب وتعظيم وإدراك لعدالة قضيته وأجدريته بالحكم.
والإمام العسكري عليه السلام كان يقف من بعض الأحداث موقف الساكت دون تصريح إيجابي أو سلبي تجاهها، كما فعل مع صاحب ثورة الزنج الذي زعم الإنتساب إلى الإمام علي عليه السلام ولم تكن ثورته تجسيداً لأطروحة أهل البيت لما ارتكبته ثورته من قتل الكثير من الناس، وسلبه الأموال وإحراقه المدن وسبيه النساء، كل ذلك بالجملة وبلا حساب أو رادع من دين.
فموقف الإمام إزاء سلوكية الثورة كان قطعاً موقف الرافض والمستنكر لما ارتكبته من أعمال تتنافى وأحكام الإسلام ولكن الإمام عليه السلام اثر السكوت والصمت ولم ينتقد تصرفاتها ولم يتعرض لتفاصيلها، ولو فعل ذلك لكان عمله هذا يعتبر تأييداً ضمنياً للدولة، لأن ثورة الزنج بالرغم من سلبياتها الكثيرة فهي بالتالي تتفق وأهداف الإمام عليه السلام من إضعاف حكم العباسيين وكسر شوكتهم، وهو أمر ينبغي على الإمام عليه السلام أن يستفيد منه لصالح حركته ونشاطه، لأن المعارضين مهما اختلفوا، فهم بالتالي يشتركون في مناوأة عدو واحد وهو الوضع الحاكم.
فالإمام يستفيد من نتائج حركة الزنج، لأن الدولة سوف تضعف، ولا يمكنها من أن تحارب على جبهتين أو أن تعطي لكل جبهة ثقلها المطلوب، ولربما أدى ذلك إلى حد ما إلى تخفيف الضغط على جبهة الإمام عليه السلام، ولو أن الدولة كانت ترى أن نشاط الإمام عليه السلام أشد خطراً وأبعد أثراً على المدى البعيد من حركة الزنج التي لا يعدو كونها تحركاً انياً سرعان ما يزول.
الموقف الثاني: موقفه من الحركة العلمية والتثقيف العقائدي
وتمثلت مواقفه العلمية بردوده المفحمة للشبهات الإلحادية وإظهاره للحق بأسلوب الحوار والجدل الموضوعي والمناقشات العلمية، وكان يردف هذا النشاط بنشاط اخر بإصداره البيانات العلمية وتأليفه الكتب ونحو ذلك.
وهو بهذا الجهد "يموِّن الأمة العقائدية شخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة، وضربها في بدايات تكونها من ناحية أخرى، وللإمام من علمه المحيط المستوعب ما يجعله قادراً على الإحساس بهذه البدايات وتقدير أهميتها ومضاعفاتها والتخطيط للقضاء عليها.
ومن هنا جاء موقف الإمام العسكري واهتمامه في المدينة بمشروع كتاب يضعه الكندي " أبو يوسف يعقوب بن إسحاق" فيلسوف العراق في زمانه، حول متناقضات القران إذ اتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته وأحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ6 وجعله يتوب ويحرق أوراقه7.
وله عليه السلام بيانات علمية لأبي هاشم الجعفري في مسألة خلق القران8 وكذلك في تفسير القران9.
الموقف الثالث:
موقفه في مجال الإشراف على قواعده الشعبية وحماية وجودها وتنمية وعيها ومدها بكل أساليب الصمود والإرتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة.
وكثيراً ما كان ينبههم عليه السلام من الوقوع في الشرك العباسي ويعينهم على نوائب الدهر اقتصادياً واجتماعياً من جراء ما يلاقونه من معاملة قاسية من الحكام.
وقد كتب الإمام محذراً محمد بن علي السمري وهو خاصة أصحابه ورابع نواب ولده الحجة المهدي عجل الله تعالى فرجه في غيبته الصغرى قائلاً له: "فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة"10.
وكان يأمر أصحابه بالصمت والكف عن النشاط ريثما تعود الأمور إلى مجاريها وتستتب الحوادث.
وكان عليه السلام يحذر أصحابه حتى وهم رهن الإعتقال، وقد اعتقل مرة جماعة من أصحابه ووضعوا تحت إشراف صالح بن وصيف وهم: أبو هاشم الجعفري، وداوود بن القاسم، والحسن بن محمد العقيقي، ومحمد بن إبراهيم العمري وغيرهم. فأخبرهم الإمام عليه السلام أن يحذروا واحداً في الحبس يدعي أنه علوي وهو ليس منهم، وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه، فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام عليه السلام11.
ومن مواقفه تجاه أصحابه مساعدته بالمال لأجل مصالحهم المادية العامة.
فقد كانت تأتي الإمام عليه السلام أموال كثيرة من مختلف المناطق الإسلامية التي تتواجد فيها قواعده الشعبية، وذلك عن طريق وكلائه المنتشرين فيها.
وكان الإمام عليه السلام يحاول جاهداً وبأساليب مختلفة أن يخفي هذا الجانب إخفاء تاماً عن السلطة، ويحيطه بالسرية التامة.
ونستطيع أن نلاحظ، كيف استطاع الإمام وهو المضطهد المراقب أن يستلم الأموال ويصرفها طبقاً للمصالح التي يراها دون أن تعرف الدولة شيئاً عن نشاطه هذا، بل تقف تجاهه عاجزة مكتوفة الأيدي عن كشفه، بالرغم من بذل أقصى وسعها في ذلك، وما انكشاف بعض هذه الأموال للدولة إلا نتيجة لتقصير بعض الأطراف في الأخذ بهذا المسلك12.
ولقد وقفت الدولة العباسية موقفاً شديداً وصارماً من أصحاب الإمام عليه السلام وقواعده المساندة وقد فعلت الكثير من أجل تمييع أطروحة الإمام عليه السلام وشرذمة أصحابه، وعمدت إلى شراء الضمائر بالمال الوفير والعيش الرغيد.
وكان الإمام عليه السلام يقف من هذه المحاولات موقف الناصح والمسدد لأصحابه قائلاً لهم: "الفقير معنا خيرٌ من الغني مع غيرنا، والقتل معنا خيرٌ من الحياة مع عدونا، ونحن كهفٌ لمن التجأ إلينا، ونورٌ لمن استبصر بنا وعصمةٌ لمن اعتصم بنا، من أحبنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنا فإلى النار"13.
الموقف الرابع: موقفه عليه السلام من التمهيد للغيبة
إن الإمام العسكري عليه السلام حين يعلم بكل وضوح تعلق الإرادة الإلهية بغيبة ولده من أجل إقامة دولة الله على الأرض وتطبيقها على الإنسانية أجمع، والأخذ بيد المستضعفين في الأرض ليبدل خوفهم أمناً.. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً..
يعرف أن عليه مسؤولية التمهيد لغيبة ولده، وذلك لأن البشر اعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب على هذا الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوز إلى تفكير واسع.
ولم يكن مجتمع الإمام عليه السلام الذي عاصر بواقعه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته، خاصة وأن غيبة الإمام حادث لا مثيل له في تاريخ الأمة.
والإرهاصات المسبقة والنصوص الكثيرة المتوالية التي جاءت تبشر بالمهدي عجل الله تعالى فرجه وإن كانت متواترة وصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن رواها مؤلفو الصحاح وهم معاصرون أو متقدمون على هذه الفترة بمن فيهم البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.. نقول وإن كان لكل هذه النصوص والتبليغات، أثرها الكبير والفاعل في ترسيخ فكرة انتظار المهدي عجل الله تعالى فرجه في نفوس المسلمين بشكل عام، وكان إيمانهم بها يتناسب تناسباً طردياً مع عمق إيمان الفرد وسعة تفكيره واتجاه مذهبه في الإسلام، فإن هذه النصوص ليست أكثر من عون للإمام لكي يقنع الناس بالإيمان بالغيبة من ناحية ويبرهن للناس تجسيد الغيبة في ولده المهدي من ناحية أخرى.
والأمر الأصعب الذي تحمل مسئوليته الإمام العسكري عليه السلام بصفته والداً للمهدي عليه السلام هو إقناع الناس بفكرة حلول زمان الغيبة وتنفيذها في شخص ولده الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه وهو أمر صعب بالنسبة للفرد العادي إذ أنه سوف يفاجأ ويصدم بإيمانه بفكرة الغيبة، فإن هناك فرقاً كبيراً في منطق إيمان الفرد العادي بشكل مؤجل لا يكاد يحس الفرد بأثره في الحياة وبين الإيمان بالغيب مع الإعتقاد بتنفيذه في زمان معاصر، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الإفتراض التوضيحي التالي:
إذا أخبرنا شخص لا نشك بصدقه بقرب حدوث قيام الساعة أو قرب حدوث أجلنا، فإن مثل هذا الخبر سوف يولد لنا صدمة للإيمان بها، لأن الإيمان يحتاج إلى قوة مضاعفة من الإيمان والإرادة، وأن نحشد كل قوانا الإيمانية والروحية كي نتوصل معها للإيمان بهذا الأمر الغيبي.
هذه الحقيقة النفسية وملابساتها، كانت تلح على الإمام أن يبذل كل الجهد لتخفيف وقع الصدمة وتذليلها وتهيئة أذهان الناس لاستقبالها دون رفض أو إنكار، وتعويد أصحابه وقواعده على الإلتزام وهو يريد تربية جيلٍ واعٍ يكون النواة الأساسية لتربية الأجيال الاتية والتي ستبني بجهدها تاريخ الغيبتين الصغرى والكبرى.
وإذا عطفنا على ذلك تلك الظروف والمعاناة الصعبة التي عاشها الإمام وأصحابه من قبل الدولة، وضرورة العمل والتبشير بفكرة المهدي الثورية، والتي كانت تعتبر في منطق الحكام أمراً مهدداً لكيانهم وخروجاً على سلطانهم وتمرداً على دولتهم.
ومن هنا نحس بكل وضوح دقة التخطيط الملقاة على كاهل الإمام العسكري عليه السلام وحرج موقفه وهو يدعو لفكرة ولده المهدي عليه السلام:
الإمام عليه السلام يمهد لغيبة ولده المهدي عليه السلام
وقد اتجه نشاط الإمام العسكري وتخطيطه في تحقيق هذا الهدف إلى عملين ممهدين:
1- حجب المهدي عجل الله تعالى فرجه عن أعين الناس مع إظهاره لبعض خاصته فقط.
2- شن حملة توعية لفكرة الغيبة، وإفهام الناس بضرورة تحملهم لمسؤولياتهم الإسلامية تجاهها وتعويدهم على متطلباتها.
فعلى المستوى الثاني رأينا الإمام العسكري يصدر بياناته وتعليماته عن المهدي عجل الله تعالى فرجه كحلقة متسلسلة من تلك النصوص والتعليمات التي بشر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده مع التأكيد والتخصيص على ولده المهدي عليه السلام.
واتخذت بيانات العسكري عليه السلام أشكالاً ثلاثة:
أ- بيان عام، كالتعرض إلى صفات المهدي عجل الله تعالى فرجه بعد ظهوره وقيامه في دولته العالمية، كجوابه عليه السلام عن سؤال بعض أصحابه عن قيام المهدي قائلاً: "فإذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داوود لا يسأل البينة"14.
ب- توجيه نقد سياسي للأوضاع القائمة، يقرنها بفكرة المهدي وضرورة تغييرها لها، فمن ذلك قوله عليه السلام: "إذا خرج القائم أمر بهدم المنابر والمقاصر في المساجد" وكانت تبنى هذه المقاصر لغرض الأمن من الإعتداء على الخليفة وزيادة الهيبة في نفوس الاخرين15.
ج- توجيه عام لقواعده وأصحابه، يوضح لهم أبعاد فكرة الغيبة، وضرورة التكيف لها من الناحية النفسية والإجتماعية تمهيداً لما يعانونه من غيبة الإمام وانقطاعه عنهم.
فمن ذلك كتب الإمام عليه السلام لابن بابويه رسالة يقول فيها: "عليك بالصبر وانتظار الفرج، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"16.
3- وقد اتخذ الإمام العسكري عليه السلام موقفاً اخر يمهد فيه للغيبة عندما احتجب بنفسه عن الناس، إلا عن خاصة أصحابه وأوكل مهمة تبليغ تعليماته وأحكامه بواسطة عدد من خاصته وذلك بأسلوب المكاتبات والتوقيعات، ممهداً بذلك إلى نفس الأسلوب الذي سوف يسير عليه ابنه المهدي عجل الله تعالى فرجه في غيبته الصغرى وهو في احتجابه وإيصاله للتعليمات.
وقد يبدو الأمر غريباً مفاجئاً للناس لو حدث هذا بدون مسبقات وممهدات كهذه. ومن هنا كان أسلوب الإمام العسكري، منهجاً خاصاً في تهيئة ذهنيات الأمة وتوعيتها لكي تتقبل هذا الأسلوب وتستسيغه من دون استغراب ومضاعفات غير محمودة.
وكان قد بدأ التحضير والتخطيط لهذه الفكرة بشكل بسيط أيام الإمام الهادي عليه السلام عندما احتجب عن كثير من مواليه وأخذ يراسلهم عن طريق الكتب والتوقيعات17 ليعود شيعته على هذا المسلك بشكل متدرج بطيء موافقاً بذلك الفهم العام لدى الناس.
وفعلاً اعتاد أصحابه ومواليه الإتصال به والسؤال منه بطريق المراسلة والكتابة18.
وكذلك نظام الوكلاء الذي اتبعه الإمام العسكري مع قواعده الشعبية كان أسلوباً اخر من أساليب التمهيد لفكرة الغيبة.
وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام عليه السلام نفذوا إلى عثمان بن سعيد العمري السمان الذي كان يتجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام عليه السلام فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى الإمام عليه السلام بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه19.
وسنجد في البحث المقبل أن نظام الإحتجاب والوكلاء، هو الأسلوب نفسه الذي يكون ساري المفعول في غيبة الإمام الصغرى، بعد أن اعتاد الناس في مسلك الإمامين العسكريين عليهما السلام وخاصة الإمام الحسن العسكري عليه السلام وهذا ما سنوضحه في البحث التالي إن شاء الله.
* الحياة السياسية لأئمة أهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الموسوعة، ص49.
2- المناقب، ج3، ص335.
3- الإرشاد، ص813 وأعلام الورى، ص753.
4- المناقب، ج3، ص625.
5- الإرشاد، ص813.
6- دور الأئمة للصدر.
7- المناقب، ج3، ص625.
8- نفس المصدر، ج3، ص535.
9- الإحتجاج، ج2، ص052.
10- كشف الغمة، ج3، ص704.
11- نفس المصدر، ج3، ص222 وأعلام الورى، ص453.
12- راجع للتوسع تاريخ الغيبة، للصدر، ص602.
13- كشف الغمة، ج3، ص112.
14- الإرشاد، ص323.
15- المناقب، ج3، ص635.
16- نفس المصدر، ص725.
17- إثبات الوصية، ص262.
18- الإرشاد، ص323، وكشف الغمة ج3، ص702.
19- غيبة الشيخ الطوسي، ص 219 512.