الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف-2
الغيبة الصغرى:
تبدأ من عام 062هـ إلى عام 923هـ.
إن غيبة الإمام عليه السلام لا يمكن أن نفسرها "بابتعاد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف عن المجتمع ومشكلاته المعقدة، بل كان المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف قائداً فذاً يعيش بشعوره المرهف الام وامال أمته وقواعده الشعبية ويتجاوب معهم بالفكر والعمل، وذلك حسب مقتضيات الظروف والمصلحة الإسلامية. وكان الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يتصل مباشرة ببعض الخاصة من أصحابه، ويوصيهم بتبليغ ما شاهدوه إلى الناس، مع إيصائهم بكتمان المكان وغير ذلك من الخصوصيات التي قد تدل عليه وتيسر للسلطات طريق الوصول إليه، وكان عليه السلام يجيب على أغلب المسائل التي تصله عن طريق وكلائه وسفرائه المعتمدين لهذا العمل، وكان من المتعذر على غير السفراء الوصول إليه، إلا من أحرز فيه الإخلاص وعدم إفشاء السر، وكان يوصيهم بحرمة التصريح باسمه بل يتم التصريح باسمه بأسماء مستعارة تشير إليه دون أن تعينه، كالقائم، والغريم، والحجة، وصاحب الزمان ونحو ذلك، فإن السلطات "إن وقفوا على الإسم أذاعوه وإن وقفوا على المكان دلوا عليه". وكان الإمام عليه السلام يغير مكانه بين اونة وأخرى دون أن يلفت إلى ذلك الأنظار.
مطاردة السلطات للإمام عليه السلام:
كان القبض على الإمام عليه السلام أحد أهداف الدولة الكبرى، لأنها تعلم أن وجود الإمام عليه السلام معناه تهديد لسلامة حكمهم. ومن هنا جاءت محاولاتهم المستميتة لتحصين دولتهم ضد خطره، وتجنيد الحملات للقبض عليه، وقد جردت السلطات ثلاث حملات إرهابية للقبض عليه والأمر بكبس داره وتفتيشها تفتيشاً دقيقاً.
وكان التجسس المستمر والحذر البالغ من قبل السلطات سياسة متبعة من قبل كل الحكام لكشف مكان اختفاء الإمام عليه السلام والقبض عليه.
ولكن الأعوام التسعة عشر من نشاط السفراء، ومحاولات التجسس الدائبة أسفرت عن شيء جديد وهو ثبوت فكرة السفارة لديها ونشاطاتها المريبة في قبض المال بالوكالة لصالح الإمام عليه السلام ليس هذا فقط بل هناك قيادة ترعى وتشرف على القواعد الشعبية وتستلم الأموال منها.
وعلى ضوء هذا الإكتشاف الخطير رأى المعتضد عند توليه الخلافة أن أهم واجباته في الحكم، أن يبادر فوراً إلى تجديد الحملات لمحاولة القبض على الإمام عليه السلام.
وقد وضع عملاء الدولة وجواسيسها مخططاً كاملاً تعلم المعتضد بدار الإمام عليه السلام واحتمال اختفائه هناك، وقد بعث المعتضد على ثلاثة نفر، وأمرهم بالخروج إلى سامراء مخففين لا يكون معهم قليل ولا كثير، إلا أن يركب كل واحدٍ فرساً معه اخر، ووصف لهم محلة وداراً وقال: "إذا أتيتموها تجدون على الباب خادماً أسوداً فاكبسوا الدار، ومن رأيتم فيها فأتوني برأسه"1.
ولم يكشف المعتضد لهؤلاء الثلاثة مهمتهم الحقيقية ودون أن يعرفهم بأنهم مكلفون بإلقاء القبض على الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حفاظاً على سمعته وسمعة الدولة، وخوفاً من تسرب الخبر إلى الناس فيكون ما لا يحمد للمعتضد عقباه، فإن الأمر أدق وأهم من أن يعرفه الناس.
وبدأت الحملة كما أمر المعتضد، وتوجهوا إلى سامراء وبحثوا عن الدار فكبسوها وجاسوا خلالها، وكان الإمام عليه السلام فيها ولكنهم لم يلتفتوا إليه، ونجا منهم بمعجزة يرويها لنا التاريخ بشيء من التفصيل2.
وظن المعتضد أن هذه الحملة فشلت لقلة عددها وسرية تنفيذها ومن هنا نراه يجرد حملة أخرى أكبر.
يروي صاحب البحار نص الرواية "ثم بعثوا عسكراً أكثر، فلما دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القران، فاجتمعوا على بابه وحفظوه حتى لا يصعد ولا يخرج، وأميرهم قائم حتى يصل العسكر كله، فخرج من السكة التي على باب السرداب ومرَّ عليهم، فلما غاب، قال الأمير انزلوا عليه، فقالوا: أليس هو مرَّ عليك، فقال ما رأيت، ولم تركتموه، قالوا: إنا حسبنا أنك تراه".
ومن طريف حال هؤلاء الجلاوزة، أنهم لم يبادروا للقبض عليه بل وقفوا على باب السرداب يحافظون عليه، فهم يخافون مواجهته عليه السلام ويحتاجون إلى مدد أكبر وعدد أكثر فهم منتظرون لوصول المدد من بغداد إلى سامراء، وفي هذه الأثناء من الترقب، استغل الإمام عليه السلام أروع لحظة من لحظات ذلك الحصار، لحظة اقترنت بالدقة والتوقيت والضبط في التدبير والعناية الإلهية، إنها لحظة غفلة قائد الحملة عن الترصد والإنتباه، لحظة لم يأت فيه المدد، ولم تصدر الأوامر بعد لاقتحام المكان.
الإمام عليه السلام والتنظيم الهرمي:
يتبين للباحث من مجموع الروايات والنصوص التاريخية أن الإمام عليه السلام اعتمد تنظيماً هرمياً في ارتباطاته واتصالاته بقواعده ومواليه، فكان عليه السلام في قمة الهرم قائداً يمارس عمله بسرية وخفاء، يصدر الأوامر والتعليمات إلى سفرائه مباشرة وهم بمثابة أعضاء الإرتباط بينه وبين الوكلاء الذين انتشروا في المناطق البعيدة، ليكونوا همزة الوصل بين السفراء والقواعد الشعبية الواسعة.
وكان الإمام الجواد عليه السلام يعمد إلى إحاطة اتصاله بالوكلاء بالغموض المطلق وكان ذلك الإتصال مجهولاً تماماً لدى كل إنسان مهما كان خاصاً ومقرباً ما عدا السفير نفسه الذي يضطلع بمهمة الإتصال المباشر، ومن الممكن القول بأن السفير كان منهياً عن التصريح به أساساً لكل أحد.
وكان اختيار الإمام عليه السلام لأشخاص السفارة وإيكال الوكالة الخاصة لهم، تقوم على عمق إخلاصهم، وقوة تحملهم للتعذيب فيما بعد إذا وقعوا في قبضة السلطة، ولم يشترط الإمام عليه السلام أن يكون السفير هو الأعمق فقهاً أو الأوسع ثقافة، لأن السفارة لا تعني إلا التوسط في التبليغ، ومن هنا جاز إسنادها إلى المفضول مع وجود الأفضل، حرصاً على الإخلاص العميق وقوة الإرادة.
ومن هنا جاء البعض يعترض على أبي سهل النوبختي فقيل له: كيف صار هذا الأمر أي السفارة إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: "هو أعلم وما اختاروا، ولكن أنا رجلً ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة، لعلي كنت أدل على مكانه، وأبو القاسم فلو كان الحجة تحت ذيله وقرض ذيله بالمقاريض ما كشف الذيل عنه"3.
وكانت مسؤولية السفراء في هذا التنظيم عامة وشاملة، على حين نرى مسؤولية الوكلاء خاصة، تشمل منطقتهم فقط، ومهمة الوكيل في التنظيم، تسهيل عمل السفير وتوسيعه، وخصوصاً أن ظروف العمل السري تمنع حرية الحركة والإتصال المباشر بالقواعد الشعبية المنتشرة في مختلف البلدان الإسلامية، فيكون لعمل الوكلاء ونشاطهم أكبر الأثر في إيصال التعاليم والتوجيهات إلى أوسع مقدار ممكن من القواعد الشعبية الموالية.
فضلاً عن ذلك أن فكرة اعتماد نظام الوكلاء في التنظيم الهرمي، تساهم في إضفاء طابع التكتم والسرية على اسم وشخص السفير فالفرد المنتمي للقواعد الشعبية العارف بفكرة السفارة غاية ما يستطيعه هو الإتصال بأحد الوكلاء من دون معرفة اسم السفير أو عمله أو مكانه4.
وكانت الأموال والحقوق الشرعية تصل الإمام عليه السلام ليعاد توزيعها بواسطة السفراء ثم الوكلاء لتصرف في مواضعها.
وهذه الأموال منها ما يصل الإمام عليه السلام مباشرة، ومنها ما يصرفه الوكيل وفقاً للقواعد والأحكام الإسلامية في صرف الحقوق.
ومن مهمة السفراء أيضاً أخذ الأسئلة وإيصالها من وإلى الإمام عليه السلام، تندرج في ذلك الأسئلة الفقهية والعقائدية وغيرها التي كانت توجه للإمام عليه السلام.
كل شيء عن السفراء الأربعة:
السفراء الأربعة هم الذين تولوا الوكالة الخاصة عن الإمام عليه السلام خلال غيبته الصغرى وهم على التوالي وحسب تسلسلهم التاريخي:
1- عثمان بن سعيد العمري. 3- الحسين بن نوح النوبختي
2- محمد بن عثمان العمري. 4- علي بن محمد السّمري5.
وبانتهائهم ينتهي عهد الغيبة الصغرى عام 923 هـ. ويبدأ بعدها عهد الغيبة الكبرى.
وقد اضطلعوا بمهمة قواعد الإمام عليه السلام من الناحية الفكرية والسلوكية، طبقاً لتعليمات الإمام عليه السلام والتوسط بينه وبينها في إيصال التبليغات وإخراج التوقيعات، وحل مشاكلها وتذليل العقبات التي تصادفها.
وقد اعتمدت تحركاتهم ونشاطاتهم السرية التامة دون أن يثيروا السلطات عليهم، ولكي تنفسح لهم أكبر الفرص وأوسع المجالات للعمل تحت قيادة الإمام عليه السلام دون أن يقعوا تحت طائلة المطاردة والتنكيل.
ولعل الدوافع التي دفعت السفراء إلى هذا الأسلوب من العمل هي الأسباب التالية:
1- خوف السلطة من العلويين، ومحاولة مطاردة واضطهاد عدد كبير من قادتهم وكبرائهم، ويكفينا ذلك العدد الضخم من العلويين الذين صرعوا على يد السلطات، وقد ضبط لنا أسماءهم أبو الفرج في المقاتل6. ويقول الطوسي في غيبته: "إن سيف المعتضد كان يقطر دماً"7، وكانت تلك الفترة مليئة بالظلم والجور وسفك الدماء8.
2- الجو القلق والمضطرب الذي عاشته قواعد الإمام الشعبية، والسفراء الأربعة بنحو خاص، إلى درجة أن عثمان بن سعيد السفير الأول للإمام عليه السلام كان ينقل المال في جراب من الدهن، لشعوره بضغط السلطات ومطاردتهم له، ولما ينتظره من العقاب الصارم لو عرفت به الدولة أو حصلت تجاهه على مستمسك خطير.
3- المطاردة الجادة والدائبة للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ومحاولة إلقاء القبض عليه، وحملات التفتيش المنظمة لداره، فإذا كانت الدولة تقف من الإمام عليه السلام هذا الموقف فكيف تقف تجاه قواعده ومواليه؟!.
وكان السفراء هم حلقة الوصل في قبض وتوزيع الأموال التي كان الموالون يحملونها إلى الإمام عليه السلام من أطراف البلاد الإسلامية وكانت الوفود تفد للسفير تحمل معها الأموال والأسئلة، تسلم السفير الأموال وتستسقي منه أجوبة المسائل وحل المشكلات.
وظاهر بعض الروايات، أن الأموال كانت تحمل في السنوات الأولى من الغيبة الصغرى إلى سامراء حيث يكون من يقبضها هناك ويسلمها للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وذلك بدلالة السفير نفسه، كما فعل أبو جعفر العمري مع الدينور9.
ثم انقطع ذلك، واستمر السفير على قبض المال بنفسه مع إعطاء الوصل به10.
وقبض الأموال وتوزيعها كان يقع سراً بعيداً عن أعين الدولة ورقابتها ولا يصرح به إلا نادراً، وكان التوزيع في الأعم الأغلب يأخذ الأسلوب التجاري أي يعطي بصفته دائناً مثلاً، دون أن يثير هذا السلوك شك السلطات.
وكثيراً ما كانوا يواجهون الوشايات بتخطيط رائع ومضاد، ومن ذلك وصول أخبار إلى مسامع عبد الله بن سليمان الوزير بوجود وكلاء للمهدي عليه السلام في بغداد وغيرها من المناطق يعملون لمصالح الإمام عليه السلام وجاء من ينصح الوزير بأن يرسل لكل وكيل شخصاً ويدعي بأن له مالاً يريد أن يدفعه للإمام عليه السلام فمن قبض من الوكلاء شيئاً قامت الحجة عليه، ويؤخذ عند ذلك بالجرم المشهود، وفعلاً قام الوزير بهذه المحاولة لكشف وكلاء الإمام عليه السلام إلا أن تعاليم الإمام كانت قد سبقته إلى الوكلاء، فما كان منهم إلا التنصل من الوكالة وتجاهل أمرها أمام عملاء الدولة وبذلك أحبطت مؤامرة الوزير ونجا الوكلاء من براثن السلطات11.
ومن النشاطات الأخرى التي مارسها السفراء، تصديهم لحل المشاكل العلمية والدخول في المناقشات العقائدية إما توجيهاً لقواعدهم الشعبية أو من أجل الإحتجاج ضد الشبهات والدفاع عن الإسلام12.
أهداف السفارة:
هناك هدفان ترمي إليها السفارة عن الإمام عليه السلام هي:
1- تهيئة أذهان الأمة وتوعيتها لمفهوم الغيبة الكبرى وتعويد الناس تدريجياً على الإحتجاب، وعدم مفاجأتهم بالغيبة دون سابق مقدمات، ولربما أدى الإحتجاب المفاجئ إلى الإنكار المطلق لوجود المهدي عليه السلام.
ومن هنا جاء تخطيط الإمامين الهادي والعسكري عليه السلام بالاختفاء التدريجي عن وسط الأمة، وضاعفه الإمام العسكري على نفسه، كما أن الإمام المهدي نفسه تدرج في عمق الإحتجاب كما بينا، وكانت فترة السفارة أيضاً إحدى الفترات المرحلية لتهيئة الأذهان بشكلها المتدرج.
2- قيام السفارة برعاية شؤون القواعد الشعبية الموالية للإمام والتوسط بينها، لتمضية شؤونها ومصالحها بعد اختفاء الإمام عن مسرح الحياة بغيبته الكبرى .
وقد قام السفراء بمسئوليتهم في هذا الجانب خير قيام حيث اضطلعوا بحفظ مصالح القواعد الشعبية، ومن خلال ظروف اجتماعية وسياسية بالغة التعقيد.
وقد دامت السفارة عن الإمام المهدي تسعاً وستين عاماً وستة أشهر وخمسة عشر يوماً وهي نفس فترة الغيبة الصغرى شغل منها السفير الأول عثمان بن سعيد حوالي خمس سنوات، والسفير الثاني محمد بن عثمان حوالي الأربعين عاماً، والثالث وهو الحسين بن روح إحدى وعشرين عاماً، وخلفه السفير الرابع علي بن محمد السّمري، حيث بقي في السفارة ثلاث سنين. وقد انتهت الغيبة الصغرى عام 923 وعمر الإمام عليه السلام أربع وسبعون عاماً، قضى أربع سنين ونصف منها في حياة أبيه عليه السلام وتسعة وستين عاماً ونصف وخمسة عشر يوماً في الغيبة الصغرى، ثم بدأت الغيبة الكبرى حيث يأذن الله تعالى له بالخروج لكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
* الحياة السياسية لأئمة أهل البيت عليهم السلام، سلسلة المعارف الإسلامية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الغيبة للطوسي، ص941 البحار، ج21، ص8.
2- الخرايج والجرايح، ص76.
3- غيبة الطوسي، ص042 والبحار، ج31، ص89.
4- منتهى المقال، ج1، ص142.
5- راجع تراجم حياتهم في كتاب الغيبة للطوسي.
6- المقاتل للأصفهاني.
7- الغيبة للطوسي، ص971.
8- عقيدة الشيعة، ص752، لرونلدسن.
9- البحار، ج31، ص97.
10- الإرشاد، ص533.
11- أعلام الورى، ص124.
12- غيبة الشيخ الطوسي، ص932 والإحتجاج، ص882.
الغيبة الصغرى:
تبدأ من عام 062هـ إلى عام 923هـ.
إن غيبة الإمام عليه السلام لا يمكن أن نفسرها "بابتعاد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف عن المجتمع ومشكلاته المعقدة، بل كان المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف قائداً فذاً يعيش بشعوره المرهف الام وامال أمته وقواعده الشعبية ويتجاوب معهم بالفكر والعمل، وذلك حسب مقتضيات الظروف والمصلحة الإسلامية. وكان الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يتصل مباشرة ببعض الخاصة من أصحابه، ويوصيهم بتبليغ ما شاهدوه إلى الناس، مع إيصائهم بكتمان المكان وغير ذلك من الخصوصيات التي قد تدل عليه وتيسر للسلطات طريق الوصول إليه، وكان عليه السلام يجيب على أغلب المسائل التي تصله عن طريق وكلائه وسفرائه المعتمدين لهذا العمل، وكان من المتعذر على غير السفراء الوصول إليه، إلا من أحرز فيه الإخلاص وعدم إفشاء السر، وكان يوصيهم بحرمة التصريح باسمه بل يتم التصريح باسمه بأسماء مستعارة تشير إليه دون أن تعينه، كالقائم، والغريم، والحجة، وصاحب الزمان ونحو ذلك، فإن السلطات "إن وقفوا على الإسم أذاعوه وإن وقفوا على المكان دلوا عليه". وكان الإمام عليه السلام يغير مكانه بين اونة وأخرى دون أن يلفت إلى ذلك الأنظار.
مطاردة السلطات للإمام عليه السلام:
كان القبض على الإمام عليه السلام أحد أهداف الدولة الكبرى، لأنها تعلم أن وجود الإمام عليه السلام معناه تهديد لسلامة حكمهم. ومن هنا جاءت محاولاتهم المستميتة لتحصين دولتهم ضد خطره، وتجنيد الحملات للقبض عليه، وقد جردت السلطات ثلاث حملات إرهابية للقبض عليه والأمر بكبس داره وتفتيشها تفتيشاً دقيقاً.
وكان التجسس المستمر والحذر البالغ من قبل السلطات سياسة متبعة من قبل كل الحكام لكشف مكان اختفاء الإمام عليه السلام والقبض عليه.
ولكن الأعوام التسعة عشر من نشاط السفراء، ومحاولات التجسس الدائبة أسفرت عن شيء جديد وهو ثبوت فكرة السفارة لديها ونشاطاتها المريبة في قبض المال بالوكالة لصالح الإمام عليه السلام ليس هذا فقط بل هناك قيادة ترعى وتشرف على القواعد الشعبية وتستلم الأموال منها.
وعلى ضوء هذا الإكتشاف الخطير رأى المعتضد عند توليه الخلافة أن أهم واجباته في الحكم، أن يبادر فوراً إلى تجديد الحملات لمحاولة القبض على الإمام عليه السلام.
وقد وضع عملاء الدولة وجواسيسها مخططاً كاملاً تعلم المعتضد بدار الإمام عليه السلام واحتمال اختفائه هناك، وقد بعث المعتضد على ثلاثة نفر، وأمرهم بالخروج إلى سامراء مخففين لا يكون معهم قليل ولا كثير، إلا أن يركب كل واحدٍ فرساً معه اخر، ووصف لهم محلة وداراً وقال: "إذا أتيتموها تجدون على الباب خادماً أسوداً فاكبسوا الدار، ومن رأيتم فيها فأتوني برأسه"1.
ولم يكشف المعتضد لهؤلاء الثلاثة مهمتهم الحقيقية ودون أن يعرفهم بأنهم مكلفون بإلقاء القبض على الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حفاظاً على سمعته وسمعة الدولة، وخوفاً من تسرب الخبر إلى الناس فيكون ما لا يحمد للمعتضد عقباه، فإن الأمر أدق وأهم من أن يعرفه الناس.
وبدأت الحملة كما أمر المعتضد، وتوجهوا إلى سامراء وبحثوا عن الدار فكبسوها وجاسوا خلالها، وكان الإمام عليه السلام فيها ولكنهم لم يلتفتوا إليه، ونجا منهم بمعجزة يرويها لنا التاريخ بشيء من التفصيل2.
وظن المعتضد أن هذه الحملة فشلت لقلة عددها وسرية تنفيذها ومن هنا نراه يجرد حملة أخرى أكبر.
يروي صاحب البحار نص الرواية "ثم بعثوا عسكراً أكثر، فلما دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القران، فاجتمعوا على بابه وحفظوه حتى لا يصعد ولا يخرج، وأميرهم قائم حتى يصل العسكر كله، فخرج من السكة التي على باب السرداب ومرَّ عليهم، فلما غاب، قال الأمير انزلوا عليه، فقالوا: أليس هو مرَّ عليك، فقال ما رأيت، ولم تركتموه، قالوا: إنا حسبنا أنك تراه".
ومن طريف حال هؤلاء الجلاوزة، أنهم لم يبادروا للقبض عليه بل وقفوا على باب السرداب يحافظون عليه، فهم يخافون مواجهته عليه السلام ويحتاجون إلى مدد أكبر وعدد أكثر فهم منتظرون لوصول المدد من بغداد إلى سامراء، وفي هذه الأثناء من الترقب، استغل الإمام عليه السلام أروع لحظة من لحظات ذلك الحصار، لحظة اقترنت بالدقة والتوقيت والضبط في التدبير والعناية الإلهية، إنها لحظة غفلة قائد الحملة عن الترصد والإنتباه، لحظة لم يأت فيه المدد، ولم تصدر الأوامر بعد لاقتحام المكان.
الإمام عليه السلام والتنظيم الهرمي:
يتبين للباحث من مجموع الروايات والنصوص التاريخية أن الإمام عليه السلام اعتمد تنظيماً هرمياً في ارتباطاته واتصالاته بقواعده ومواليه، فكان عليه السلام في قمة الهرم قائداً يمارس عمله بسرية وخفاء، يصدر الأوامر والتعليمات إلى سفرائه مباشرة وهم بمثابة أعضاء الإرتباط بينه وبين الوكلاء الذين انتشروا في المناطق البعيدة، ليكونوا همزة الوصل بين السفراء والقواعد الشعبية الواسعة.
وكان الإمام الجواد عليه السلام يعمد إلى إحاطة اتصاله بالوكلاء بالغموض المطلق وكان ذلك الإتصال مجهولاً تماماً لدى كل إنسان مهما كان خاصاً ومقرباً ما عدا السفير نفسه الذي يضطلع بمهمة الإتصال المباشر، ومن الممكن القول بأن السفير كان منهياً عن التصريح به أساساً لكل أحد.
وكان اختيار الإمام عليه السلام لأشخاص السفارة وإيكال الوكالة الخاصة لهم، تقوم على عمق إخلاصهم، وقوة تحملهم للتعذيب فيما بعد إذا وقعوا في قبضة السلطة، ولم يشترط الإمام عليه السلام أن يكون السفير هو الأعمق فقهاً أو الأوسع ثقافة، لأن السفارة لا تعني إلا التوسط في التبليغ، ومن هنا جاز إسنادها إلى المفضول مع وجود الأفضل، حرصاً على الإخلاص العميق وقوة الإرادة.
ومن هنا جاء البعض يعترض على أبي سهل النوبختي فقيل له: كيف صار هذا الأمر أي السفارة إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: "هو أعلم وما اختاروا، ولكن أنا رجلً ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة، لعلي كنت أدل على مكانه، وأبو القاسم فلو كان الحجة تحت ذيله وقرض ذيله بالمقاريض ما كشف الذيل عنه"3.
وكانت مسؤولية السفراء في هذا التنظيم عامة وشاملة، على حين نرى مسؤولية الوكلاء خاصة، تشمل منطقتهم فقط، ومهمة الوكيل في التنظيم، تسهيل عمل السفير وتوسيعه، وخصوصاً أن ظروف العمل السري تمنع حرية الحركة والإتصال المباشر بالقواعد الشعبية المنتشرة في مختلف البلدان الإسلامية، فيكون لعمل الوكلاء ونشاطهم أكبر الأثر في إيصال التعاليم والتوجيهات إلى أوسع مقدار ممكن من القواعد الشعبية الموالية.
فضلاً عن ذلك أن فكرة اعتماد نظام الوكلاء في التنظيم الهرمي، تساهم في إضفاء طابع التكتم والسرية على اسم وشخص السفير فالفرد المنتمي للقواعد الشعبية العارف بفكرة السفارة غاية ما يستطيعه هو الإتصال بأحد الوكلاء من دون معرفة اسم السفير أو عمله أو مكانه4.
وكانت الأموال والحقوق الشرعية تصل الإمام عليه السلام ليعاد توزيعها بواسطة السفراء ثم الوكلاء لتصرف في مواضعها.
وهذه الأموال منها ما يصل الإمام عليه السلام مباشرة، ومنها ما يصرفه الوكيل وفقاً للقواعد والأحكام الإسلامية في صرف الحقوق.
ومن مهمة السفراء أيضاً أخذ الأسئلة وإيصالها من وإلى الإمام عليه السلام، تندرج في ذلك الأسئلة الفقهية والعقائدية وغيرها التي كانت توجه للإمام عليه السلام.
كل شيء عن السفراء الأربعة:
السفراء الأربعة هم الذين تولوا الوكالة الخاصة عن الإمام عليه السلام خلال غيبته الصغرى وهم على التوالي وحسب تسلسلهم التاريخي:
1- عثمان بن سعيد العمري. 3- الحسين بن نوح النوبختي
2- محمد بن عثمان العمري. 4- علي بن محمد السّمري5.
وبانتهائهم ينتهي عهد الغيبة الصغرى عام 923 هـ. ويبدأ بعدها عهد الغيبة الكبرى.
وقد اضطلعوا بمهمة قواعد الإمام عليه السلام من الناحية الفكرية والسلوكية، طبقاً لتعليمات الإمام عليه السلام والتوسط بينه وبينها في إيصال التبليغات وإخراج التوقيعات، وحل مشاكلها وتذليل العقبات التي تصادفها.
وقد اعتمدت تحركاتهم ونشاطاتهم السرية التامة دون أن يثيروا السلطات عليهم، ولكي تنفسح لهم أكبر الفرص وأوسع المجالات للعمل تحت قيادة الإمام عليه السلام دون أن يقعوا تحت طائلة المطاردة والتنكيل.
ولعل الدوافع التي دفعت السفراء إلى هذا الأسلوب من العمل هي الأسباب التالية:
1- خوف السلطة من العلويين، ومحاولة مطاردة واضطهاد عدد كبير من قادتهم وكبرائهم، ويكفينا ذلك العدد الضخم من العلويين الذين صرعوا على يد السلطات، وقد ضبط لنا أسماءهم أبو الفرج في المقاتل6. ويقول الطوسي في غيبته: "إن سيف المعتضد كان يقطر دماً"7، وكانت تلك الفترة مليئة بالظلم والجور وسفك الدماء8.
2- الجو القلق والمضطرب الذي عاشته قواعد الإمام الشعبية، والسفراء الأربعة بنحو خاص، إلى درجة أن عثمان بن سعيد السفير الأول للإمام عليه السلام كان ينقل المال في جراب من الدهن، لشعوره بضغط السلطات ومطاردتهم له، ولما ينتظره من العقاب الصارم لو عرفت به الدولة أو حصلت تجاهه على مستمسك خطير.
3- المطاردة الجادة والدائبة للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ومحاولة إلقاء القبض عليه، وحملات التفتيش المنظمة لداره، فإذا كانت الدولة تقف من الإمام عليه السلام هذا الموقف فكيف تقف تجاه قواعده ومواليه؟!.
وكان السفراء هم حلقة الوصل في قبض وتوزيع الأموال التي كان الموالون يحملونها إلى الإمام عليه السلام من أطراف البلاد الإسلامية وكانت الوفود تفد للسفير تحمل معها الأموال والأسئلة، تسلم السفير الأموال وتستسقي منه أجوبة المسائل وحل المشكلات.
وظاهر بعض الروايات، أن الأموال كانت تحمل في السنوات الأولى من الغيبة الصغرى إلى سامراء حيث يكون من يقبضها هناك ويسلمها للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وذلك بدلالة السفير نفسه، كما فعل أبو جعفر العمري مع الدينور9.
ثم انقطع ذلك، واستمر السفير على قبض المال بنفسه مع إعطاء الوصل به10.
وقبض الأموال وتوزيعها كان يقع سراً بعيداً عن أعين الدولة ورقابتها ولا يصرح به إلا نادراً، وكان التوزيع في الأعم الأغلب يأخذ الأسلوب التجاري أي يعطي بصفته دائناً مثلاً، دون أن يثير هذا السلوك شك السلطات.
وكثيراً ما كانوا يواجهون الوشايات بتخطيط رائع ومضاد، ومن ذلك وصول أخبار إلى مسامع عبد الله بن سليمان الوزير بوجود وكلاء للمهدي عليه السلام في بغداد وغيرها من المناطق يعملون لمصالح الإمام عليه السلام وجاء من ينصح الوزير بأن يرسل لكل وكيل شخصاً ويدعي بأن له مالاً يريد أن يدفعه للإمام عليه السلام فمن قبض من الوكلاء شيئاً قامت الحجة عليه، ويؤخذ عند ذلك بالجرم المشهود، وفعلاً قام الوزير بهذه المحاولة لكشف وكلاء الإمام عليه السلام إلا أن تعاليم الإمام كانت قد سبقته إلى الوكلاء، فما كان منهم إلا التنصل من الوكالة وتجاهل أمرها أمام عملاء الدولة وبذلك أحبطت مؤامرة الوزير ونجا الوكلاء من براثن السلطات11.
ومن النشاطات الأخرى التي مارسها السفراء، تصديهم لحل المشاكل العلمية والدخول في المناقشات العقائدية إما توجيهاً لقواعدهم الشعبية أو من أجل الإحتجاج ضد الشبهات والدفاع عن الإسلام12.
أهداف السفارة:
هناك هدفان ترمي إليها السفارة عن الإمام عليه السلام هي:
1- تهيئة أذهان الأمة وتوعيتها لمفهوم الغيبة الكبرى وتعويد الناس تدريجياً على الإحتجاب، وعدم مفاجأتهم بالغيبة دون سابق مقدمات، ولربما أدى الإحتجاب المفاجئ إلى الإنكار المطلق لوجود المهدي عليه السلام.
ومن هنا جاء تخطيط الإمامين الهادي والعسكري عليه السلام بالاختفاء التدريجي عن وسط الأمة، وضاعفه الإمام العسكري على نفسه، كما أن الإمام المهدي نفسه تدرج في عمق الإحتجاب كما بينا، وكانت فترة السفارة أيضاً إحدى الفترات المرحلية لتهيئة الأذهان بشكلها المتدرج.
2- قيام السفارة برعاية شؤون القواعد الشعبية الموالية للإمام والتوسط بينها، لتمضية شؤونها ومصالحها بعد اختفاء الإمام عن مسرح الحياة بغيبته الكبرى .
وقد قام السفراء بمسئوليتهم في هذا الجانب خير قيام حيث اضطلعوا بحفظ مصالح القواعد الشعبية، ومن خلال ظروف اجتماعية وسياسية بالغة التعقيد.
وقد دامت السفارة عن الإمام المهدي تسعاً وستين عاماً وستة أشهر وخمسة عشر يوماً وهي نفس فترة الغيبة الصغرى شغل منها السفير الأول عثمان بن سعيد حوالي خمس سنوات، والسفير الثاني محمد بن عثمان حوالي الأربعين عاماً، والثالث وهو الحسين بن روح إحدى وعشرين عاماً، وخلفه السفير الرابع علي بن محمد السّمري، حيث بقي في السفارة ثلاث سنين. وقد انتهت الغيبة الصغرى عام 923 وعمر الإمام عليه السلام أربع وسبعون عاماً، قضى أربع سنين ونصف منها في حياة أبيه عليه السلام وتسعة وستين عاماً ونصف وخمسة عشر يوماً في الغيبة الصغرى، ثم بدأت الغيبة الكبرى حيث يأذن الله تعالى له بالخروج لكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
* الحياة السياسية لأئمة أهل البيت عليهم السلام، سلسلة المعارف الإسلامية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الغيبة للطوسي، ص941 البحار، ج21، ص8.
2- الخرايج والجرايح، ص76.
3- غيبة الطوسي، ص042 والبحار، ج31، ص89.
4- منتهى المقال، ج1، ص142.
5- راجع تراجم حياتهم في كتاب الغيبة للطوسي.
6- المقاتل للأصفهاني.
7- الغيبة للطوسي، ص971.
8- عقيدة الشيعة، ص752، لرونلدسن.
9- البحار، ج31، ص97.
10- الإرشاد، ص533.
11- أعلام الورى، ص124.
12- غيبة الشيخ الطوسي، ص932 والإحتجاج، ص882.