حياة الامام الصادق عليه السلام-1

وتحمّل الإمام الصادق عليه السلام مسؤولية مواصلة المسيرة في ظروف معقّدة وصعبة للغاية. فالإنتفاضات تنشب في طول البلاد وعرضها، والولاة منهمكون بجمع الأموال والثروات الطائلة1، والطاعون والقحط يضرب مناطق واسعة منها خراسان والعراق، والجهاز الحاكم يبطش دون رحمة، ويخلق حالة من الذلّ والخنوع بين الناس. والمنشغلون بالعلوم الإسلامية من فقه وحديث وتفسير لم يكن خطرهم غالباً يقلّ عن خطر الساسة والحكّام، وهم الذين يُفترض بهم أن يكونوا ملاذ الناس وملجأهم، كثير من هؤلاء يدبّجون الفتاوى ليرضوا السلطان والولاة2. وكثيرٌ منهم كانوا يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بتوافه الأمور ويثيرون النزاعات الكلامية الفارغة التي لا تمتّ بصلة إلى الإسلام وإلى معاناة الجماهير.

مهمة الإمام الصادق عليه السلام في هذه الظروف المظلمة هي ما ذكرناه بشأن مهمة الإمامة، وتتلخص في طرح الفكر الإسلامي الصحيح، أي تبيين الإسلام كما جاء في القران وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مكافحة كل الإنحرافات والتشويهات الجاهلة والمغرضة، وكذلك التخطيط لإقامة نظام العدالة الإسلامية، وصيانة هذا النظام في حالة إقامته.

كلا المهتمين: المهمة الفكرية والمهمة السياسية، تشكلان خطراً كبيراً على النظام الحاكم. ليست المهمة السياسية وحدها تثير سخط السلطة، فالمهمة الفكرية أيضاً تلغي تلك الأفكار والمفاهيم المنحرفة التي قدمها السلطان ووعاظه باسم الدين إلى المجتمع3. من هنا فإن العملية الفكرية لها الأولوية، لأنها تقضي على الزيف الديني الذي يستند إليه الحاكم في مواصلة ظلمه، من جهة أخرى فإن الأوضاع السائدة مستعدة للفكر الشيعي الثوري، والحرب والفقر والإستبداد عوامل تغذّي روح الثورة، أضف إلى ذلك عامل الأجواء التي وفرها نشاط الإمام الباقر عليه السلام في المناطق القريبة والنائية.

إن الإستراتيجية العامة للإمامة هي النهوض بثورة توحيدية علوية، ومتطلباتها هي:
أولاً: إيجاد مجموعة تحمل فكر الإمامة وتهضمه، وتتطلع بشوق إلى تطبيقه.
وثانياً: إيجاد مجموعة منظمة مجاهدة مضحية.

وهذه المتطلبات تستلزم بدورها نشر الدعوة في جميع أرجاء العالم، وإعداد الأرضية النفسية لتقبل الفكر الإسلامي الثائر في جميع الأقطار، وتستلزم أيضاً دعوة أخرى لإعداد أفراد مضحين متفانين يشكلون التنظيم السري للدعوة.

وهذا هو سر صعوبة الدعوة على طريق الإمامة الحقّة. فالدعوة الرسالية التي تستهدف القضاء على الطاغوت، وعلى التفرعن والتجبر والعدوان والظلم في المجتمع، وتلتزم بالمعايير الإسلامية، لا بد أن تستند إلى إرادة الجماهير وقوتها وإيمانها ونضجها. خلافاً لتلك الدعوات التي ترفع شعار محاربة الطغاة، وهي تمارس في الوقت نفسه أعمال الطغاة والظلمة في حركتها، دون أن تتقيّد بمبادئ أخلاقية واجتماعية، فمثل هذه الدعوات لا تواجه صعوبات الدعوات الرسالية الهادفة، وهذا هو سر عدم تحقق أهداف حركة الإمامة على المدى العاجل. وهو أيضاً سرّ الإنتصار السريع للحركات الموازية لحركة الإمامة (مثل حركة العباسيين).

الظروف المساعدة والأرضية المناسبة التي وفرها نشاط الإمام السابق الباقر عليه السلام أدت إلى أن يظهر الإمام الصادق عليه السلام في جو العذاب الطويل الذي عانى منه الشيعة بمظهر الفجر الصادق الذي ينتظره أتباع أهل البيت عليه السلام في سالف أيامهم. والإمام الباقر عليه السلام ذكر بالإشارة والتصريح ما يركز هذا المفهوم.

عن جابر بن يزيد الجعفي سُئِل الإمام الباقر عليه السلام عن القائم فضرب يده على أبي عبد الله عليه السلام وقال: هذا والله ولدي قائم ال بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم4.
والقائم هنا طبعاً غير قائم ال محمد في اخر الزمان، وهو المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي تواترت الروايات لدى كل المسلمين أنه يظهر في اخر الزمان، وأنه الخليفة الثاني عشر من خلفاء رسول الله. القائم هنا بمعناه اللغوي ينطبق على كل من ينهض بوجه الظلم والإستبداد، وهو اصطلاح معروف في مدرسة أهل البيت، ولا يعني ذلك أن يكون القائم بالسيف بالضرورة. بل إنه يقوم بهجوم ثقيل خطير، سواء في أسلوب النشاط الفكري أو التنظيمي أو بأية صورة أخرى تستهدف مقارعة الظالمين ومهاجمتهم. فالإمام الباقر عليه السلام يركّز هنا على مفهوم نهوض الإمام الصادق عليه السلام بمسؤولية كبيرة تجاه السلطة القائمة، ولا يركّز على النتيجة.. بل في رواية أخرى يتحدّث بلغة تكاد تكون يائسة من إمكان انتصار الإمامة على الوضع السياسي القائم.

ومن الروايات التي يرّكز فيها الإمام الباقر عليه السلام على الدور الذي سينهض به الإمام الصادق عليه السلام ما رواه أبو الصباح الكناني قال: "نظر أبو جعفر إلى ابنه أبي عبد الله فقال: ترى هذا؟ هذا من الدين قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾"5.

ولعل تصريحات الإمام هذه هي التي أشاعت فكرة قيام الإمام الصادق وخلافته بين الشيعة، وجعلت أصحاب الباقر والصادق يترقبون ساعة الصفر بين اونة وأخرى.

معالم حياة الإمام الصادق عليه السلام:
والمعالم الهامة البارزة في حياة الإمام الصادق عليه السلام وجدتها من منظار بحثنا تتلخص بما يلي:
1- تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها.
2- بيان الأحكام وتفسير القران وفق ما ورثته مدرسة أهل البيت عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
3- إقامة تنظيم سري إيديولوجي سياسي.

وطريقة بحثنا أن ندرس كل واحد من هذه المعالم، ونضع في النهاية فهرساً لنشاطات الإمام عليه السلام، وأن يكون ذلك قدر المستطاع بأسلوب المؤرخين لا بأسلوب المحدثين.

1- تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها:
هذا الموضوع يشكل أبرز خصائص دعوة أئمة أهل البيت، منذ السنوات الأولى التي أعقبت رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. كانت مسألة إثبات إمامة أهل البيت عليه السلام تشكّل طليعة الدعوة في كل أعصار الإمامة.. هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الحسين بن علي عليه السلام، ونشاهدها بعد ذك أيضاً في ثورات أبناء أئمة أهل البيت، مثل زيد بن علي. ودعوة الإمام الصادق عليه السلام لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً.

ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية، أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الإمام الصادق عليه السلام ادعاءه الإمامة، وكما سنوضح فيما بعد، أن الإمام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكّام زمانه، وأن يعلن نفسه بأنه صاحب الحق الواقعي، وصاحب الولاية والإمامة.

ومثل هذا التصدي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهادية السابقة بنجاح، ولا بدّ أن يكون الوعي السياسي والإجتماعي قد انتشر في قاعدة واسعة، وأن الإستعداد محسوس بالقوة في كل مكان، وأن الأرضية الأيديولوجية قد توفرت في عدد ملحوظ من الأفراد، وأن جمعاً غفيراً امن بضرورة إقامة حكومة الحق والعدل، وأن يكون القائد أخيراً قد اتخذ قراره الحاسم بشأن هذه المواجهة الساخنة. وبدون هذه المقدمات فإن إعلان إمامة شخص معين وقيادته الحقة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولا جدوى منه.

المسألة الأخرى التي لا بدّ من التركيز عليها في هذا المجال، أن الإمام ما كان يكتفي في بعض الموارد بإثبات إمامته وحسب، بل يذكر إلى جانب اسمه أسماء أئمة الحق من أسلافه أيضاً، أي أنه يطرح في الحقيقة سلسلة أئمة أهل البيت بشكل متصل غير قابل للتجزئة والإنفصال.

هذا الموقف يشير إلى ارتباط جهاد أئمة أهل البيت عليه السلام وتواصله من الأزمنة السابقة إلى عصر الإمام الصادق عليه السلام. إن الإمام الصادق عليه السلام يقرر إمامته باعتبارها النتيجة الحتمية المترتبة على إمامة أسلافه، وبذلك يبين جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الإسلامية، وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام.

ولنعرض بعض نماذج دعوة الإمام:
أروع رواية في هذا الباب عن "عمرو بن أبي المقدام"، وفيها تصوير لواقعة عجيبة.
في يوم التاسع من ذي الحجة إذ اجتمع الحجاج في عرفة لأداء منسك الوقوف، وقد توافدوا على هذا الصعيد من كل فج عميق.. من أقصى خراسان حتى سواحل الأطلنطي.. والموقف حساس وخطير، والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الإسلامي.

انضم الإمام عليه السلام إلى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة، ليوصل إليها كلمته، يقول الراوي: رأيت الإمام قد وقف بين الجموع ورفع صوته عالياً ليبلغ أسماع الحاضرين ولينتقل إلى اذان العالمين وهو ينادي: "أيها الناس، إن رسول الله كان الإمام ثم كان علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم.." فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، اثني عشر صوتاً6.

ورواية أخرى عن "أبي الصباح الكناني" أن الإمام الصادق عليه السلام يصف نفسه وأئمة الشيعة بأن لهم "الأنفال" و"صفو المال"..
عن أبي الصباح قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "يا أبا الصباح، نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾"7.

و"صفو المال" هو من الأموال ذات القيمة الرفيعة في غنائم الحرب، وكان لا يقسم كما تقسم الغنائم بين المجاهدين، كي لا يستأثر به أحد دون اخر، ويكون كرامة كاذبة لأحد من الناس، بل إنه يبقى لدى الحاكم الإسلامي يتصرّف به لما يحقق مصلحة عامة المسلمين. وكان الحكّام الظلمة يستأثرون بهذا المال ويجعلونه مختصاً بهم غصباً. والإمام يصرّح بأن "صفو المال" يجب أن يكون لهم، وهكذا الأنفال وهذا يعني أنه يعلن نفسه بصراحة حاكماً شرعياً للمسلمين مسؤولاً عن استثمار هذه الأموال وفق ما يراه تحقيقاً لمصلحة الأمة.

وفي حديث اخر يذكر الإمام الصادق عليه السلام أسماء أسلافه من الأئمة عليه السلام واحداً واحداً، ويشهد بإمامتهم وبوجوب طاعتهم، وحين يصل إلى نفسه يسكت، والمخاطبون يعلمون جيداً أن ميراث العلم والحكم بعد الإمام الباقر عليه السلام وصل إلى الإمام الصادق. وبذلك يعلن الإمام عليه السلام حقه في قيادة الأمة بأسلوب يجعله مرتبطاً بجدّه علي بن أبي طالب عليه السلام8.

وفي أبواب كتاب الحجة من "الكافي" وكذلك في الجزء 74 من "بحار الأنوار" أحاديث كثيرة من هذا القبيل، تتحدث بصراحة أو بكناية عن ادّعاء الإمامة والدعوة إليها.
ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية أمامنا شواهد عن شبكة منظمة لدعوة الإمام عليه السلام في جميع أرجاء العالم الإسلامي، والوثائق الكثيرة المتوفرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمراً حتمياً لا مراء فيه. وهذه الشواهد تبلغ من الكثرة والوقوف بحيث يمكن أن نستدل بها على موضوعنا استدلالاً قاطعاً، ولو لم يتوفر حديث صريح واحد في هذا المجال.

نحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخية ثابتة:
1- ثمة ارتباط منظم فكري ومالي بين الأئمة عليه السلام وأتباعهم، وكانت الأموال تُحمل من أطراف العالم إلى المدينة كذلك والأسئلة الدينية تتقاطر عليها.
2- اتساع الرقعة الموالية لال البيت عليه السلام خاصة في البقاع الحساسة من العالم الإسلامي.
3- تجمّع عدد غفير من المحدثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين حول الإمام عليه السلام.

فهل إن هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟
ولا بد أن نضيف أن هذه الظواهر حدثت في ظل سيطرة سياسية كانت جادّة كل الجدّ في إلغاء حتى اسم علي وال علي عليه السلام، بل وسب علي على المنابر، وتسليط أنواع البطش والإرهاب على أتباعهم، فكيف أمكن في مثل هذا الجو خلق قاعدة شعبية عريضة موالية لال البيت تطوي الاف الأميال للوصول إلى الحجاز والمدينة لتتلمذ على أئمة أهل البيت عليه السلام وتأخذ عنهم فكر الإسلام في الحياة الفردية والإجتماعية، وتتحدث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة على الوضع الفاسد، أو بعبارة الروايات، تتحدث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!!

فلو كان دعاة أهل البيت يقتصرون في حديثهم على علم الأئمة عليه السلام وزهدهم، فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الأتباع دائماً عن الثورة المسلحة؟
ألا يدل كل هذا على وجود شبكة منظمة للدعوة إلى إمامة أهل البيت عليه السلام بالمعنى الكامل للإمامة، أي الفكرية والسياسية؟

ثمة وثائق أخرى تبين محتوى دعوة أئمة أهل البيت عليه السلام وشيعتهم إلى الإمامة، تعرضها المناقشات والمجادلات بينهم وبين خصومهم السياسيين (الأمويين والعباسيين). هذه المنازعات كانت تدور أحياناً بلغة الإستدلال الكلامي والديني، وأحياناً بلغة الأدب الرفيع المتمثل بالشعر، وكان كل الإحتجاج يقوم على أساس إثبات حق الإمامة السياسية والحكم لأئمة أهل البيت عليه السلام، ومقارعة المتربّعين ظلماً وغصباً على كرسي حكومة المسلمين.

إن عصر الإمام الصادق عليه السلام لمعاصرته حركة بني العباس وانتصار هذه الحركة كان مفعماً بهذا اللون من الحجاج.
كان شعراء بني العباس يحاولون إثبات حق الحكم لبني العباس استناداً إلى الأدلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون إلى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم. ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدّلين على زيف الحكم العباسي من منطق إسلامي، يقوم على أساس رفض الظلم والإجرام والخيانة بحق الأمة الإسلامية.

وللحجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض به الشعر انذاك من دور كبير في التعبير عن العواطف والأفكار، ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير. يذكر صاحب كتاب "العباسيون الأوائل" دور الأدب في القرنين الأول والثاني فيقول: "... كان الأدب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم إلى هذه الفئة أو تلك. وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر، يعبّر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو الدليل على صحة دعواه، مفنداً اراء الخصوم بكلام مؤثر وأسلوب بليغ"9.

شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في إثبات حق العباسيين في الخلافة، باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين على ذلك من حقّ العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس:

قال مروان بن أبي حفصة:
أنّى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام‏

وقال أبان بن عبد الحميد اللاحقي:
فأبناء عباس هم يرثونه كما العمُ لابنٍ العم في الإرث قد حجب‏

منطلقين من عاطفة الشعور بالظلم للرد على هذه الأدلة، بالمنطلق نفسه، وأحياناً بمنطق اخر للإستدلال على حق أئمة أهل البيت عليه السلام في الإمامة. من ذلك استدلالهم بحديث غدير خم كقول السيد الحميري: من كنت مولاه فهذا له مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا ويرد محمد بن يحي بن أبي مرة التغلبي على استدلال الشاعر العباسي بشأن وراثة الأعمام فيقول:
لِمَ لا يكون وإن ذاك لكائن لبني البنات وراثة الأعمام‏
للبنت نصف كامل من ماله والعم متروك بغير سهام‏
ما للطليق وللتراث وإنما صلّى الطليق مخافة الصمصام‏

ويرى دعبل أن كل ما حلّ بأهل البيت عليه السلام من مصائب إنما هو لأنهم ورثوا النبي‏ صلى الله عليه وآله وسلم، فتكالب على هذا الإرث الطامعون، وأضروا بمن له الحق في الإمامة:

أضرّ بهم إرث النبي فأصبحوا تساهم فيهم خيفة ومنون
دعتهم ذئاب من أمية وانتحت عليهم دراكاً أزمة وسنون
وعاثت بنو العباس في الدين عيثة تحكّم فيها صالم وخؤون
وسمّوا رشيداً ليس فيهم لرشده وها ذاك مأمون وذاك أمين‏‏‏
فما قبلت بالرشد منهم رعاية ولا للولي بالأمانة دين‏

وليس من العسير على الباحث في العصر العباسي الأول أن يجد مئات النماذج من المحاورات والمناظرات السياسية بلغة الشعر في هذا المجال.
وقبل أن نختم هذا القسم من المناسب أن نشير إلى لغة حجاج أخرى، هي لغة الرسائل. هذه الرسائل الإحتجاجية كانت تتضمن من جهة أهداف الفرقاء بشكل واضح دون لبس، وكانت تجد لها من جهة أخرى صدىً شعبياً بعد انتشار مضمونها. وتأثيراً قوياً على الأنصار والخصوم.

نذكر من ذلك رسالة محمد بن عبد الله بن الحسن ذي النفس الزكية إلى المنصور العباسي، هذا العلوي الثائر يذكر بصراحة ووضوح أنه يطلب نزع الخلافة من خصومه لتكون في أبناء علي عليه السلام، يقول: "وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء"؟!.

ويبدو أن هذا الإستدلال أورده العلوي رداً على استدلال العباسيين في وراثتهم الخلافة، لأن بني العباس لم تكن لهم حجة سوى هذا الإرث المزعوم، فأراد أن يسد عليهم الطريق ويرد عليهم بنفس منطقهم، ويلاحظ في العبارة أن ذا النفس الزكية يركّز على إمامة علي عليه السلام انطلاقاً من فهمه لمعنى الإمامة، ثم يركز على طبيعة دعوة البيت العلوي التي يمثلها هذا الثائر.

* الحياة السياسية لأئمة أهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- خالد في بن عبد الله القسري والي العراق كان عائده السنوي ثلاثة عشر مليوناً. وكتب إليه الخليفة أن لا يبيع غلّته الخيفة. فصعد خالد المنبر، وذكر أن قوماً يتهمونه بالتلاعب بالأسعار، ولعن من يتلاعب بالأسعار (ويقصد بذلك الخليفة وكان عليه واجداً). وامرأة هشام كان لها ثوب خيوطه من الذهب. ومرصع بالمجوهرات القيّمة، وقد ثقل وزنه حتى ما كانت تقدر على أن تمشي به، ولم يستطع أحد أن يضع له قيمة. وهشام نفسه كان له بساط من الحرير والذهب طوله 100 ذراع وعرضه 05 ذراعاً. ابن ايرج، ج‏5، ص‏220، وبين الخفاء، ص‏56 28.
2- من ذلك فتوى الحسن البصري في عدم جواز الخروج على الحجاج بن يوسف، ذلك الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة قائلاً: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم. وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثني عشرية، د. أحمد محمود صبحي، ص‏23.
3- مع كل الإنحرافات التي عصفت بالمجتمع كان الإيمان بالدين يسيطر على الأفكار والقلوب، والظلمة الطغاة استغلوا هذا الإيمان، فقدموا للمجتمع مفاهيم منحرفة باسم الدين تضمن بقاءهم واستمرار ظلمهم وتحكمهم. من ذلك إضفاء صفة القدسية على "البيعة". فكلما تمادى الخليفة في غيّه وظلمه لا تجوز معصيته ولا الثورة عليه لأن له في الأعناق بيعة! وكان لهذا المفهوم دوره الكبير في خلق حالة من الخضوع والخنوع أمام الجهاز الحاكم.
4- بحار الأنوار، ج‏47، ص‏13، باب 3، الرواية 6، ط. بيروت.
5- بحار الأنوار، ج‏47، ص‏13، باب 3، الرواية 4، عن الإرشاد، ص‏289.
6- البحار، ج‏47، ص‏58، ح‏107.
7- البحار، ج‏23، ص‏199، ح‏32، كذلك راجع الرواية 20، من نفس الباب.
8- الكافي، ج 1، ص‏186.
9- د. فاروق عمر، العباسيون الأوائل، ص‏104