الإمام الصادق عليه السلام ودولة العبّاسيّين
تحدّيات السلطة لمرجعيّة الإمام عليه السلام الصادق الدينيّة
اتّجه الناس إلى الإمام الصادق عليه السلام والتفّوا حوله، لا سيّما أثناء وجوده المبارك في "الحيرة"، المدينة القريبة من الكوفة، فاجتمعوا عنده لينهلوا من علومه ويستفيدوا من توصياته وتوجيهاته، حتّى قال محمّد بن معروف الهلاليّ: مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمّد فما كان لي من حيلة من كثرة الناس فلمّا كان اليوم الرابع رآني، فأدناني...
وهذا الحشد الجماهيريّ الكبير الّذي يؤمن بأهليّة الإمام عليه السلام وأعلميّته، والتفافه المستمرّ حول الإمام عليه السلام، قد دفع الحكومة العبّاسيّة إلى أن تحدّ من هذه الظاهرة، لكنّ الإمام عليه السلام انطلاقاً من محافظته على مسيرة الأمّة ودفاعاً عن الإسلام، نجده قد مارس مع السفّاح (الخليفة العبّاسيّ) أسلوباً مرناً.
فعن حذيفة بن منصور، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بالحيرة، فأتاه رسول أبي العبّاس السفّاح الخليفة، يدعوه، فدعا بطمر (ثوب) أحد وجهيه أسود والآخر أبيض، فلبسه، ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: "أما إنّي ألبسه، وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار"1.
واستمرّت إجراءات العبّاسيّين للحدّ من ظاهرة الالتفاف حول الإمام عليه السلام والاستفادة من علومه. فقد روى هارون بن خارجة أنّه كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثاً فسأل أصحابنا، فقالوا: ليس بشيء، فقالت امرأته: لا أرضى حتّى تسأل أبا عبد الله عليه السلام، وكان عليه السلام في الحيرة إذ ذاك، أيّام أبي العبّاس السفّاح. قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على مكالمته، إذ منع الخليفةُ الناسَ من الدخول على أبي عبد الله، وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سواديّ2 عليه جبّة صوف يبيع خياراً، فقلت له: بكم خيارك هذا كلّه؟ قال: بدرهم. فأعطيته درهماً، وقلت له: أعطني جبّتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت: مَنْ يشتري خياراً؟ ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار. فقال عليه السلام لي، لمّا دنوت منه: ما أجود ما احتلت، أيّ شيء حاجتك؟
قلت: إنّي ابتُليت: فطلّقت أهلي ثلاثاً في دفعة، فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشيء، وإنّ المرأة قالت: لا أرضى حتّى تسأل أبا عبد الله، فقال عليه السلام: "ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء"3.
وهكذا انطلق العبّاسيّون من هذه النقطة لمواجهة الإمام الصادق عليه السلام والعمل على تصفيته وتجميد نشاطه لأنّهم كانوا يرون فيه البديل القويّ عنهم لاستلام الحكم على المدى البعيد، بالرغم من عدم ممارسة أيّ نشاط سياسيّ ظاهر له، وانشغاله بالفقه وعلوم الشريعة والتصدّي للتحدّيات الفكريّّة الحضاريّة آنذاك.
لكنّ هذا النشاط بدوره ينتهي إلى المرجعيّة الفكريّّة والعلميّّة وهي مصدر خطر للسياسة لأنّها ـ ترشّح الفرد المرجع إلى مركز الحكم فيكون قويّاً بفكره وبأنصاره، وهو تهديد حقيقيّ للحكم غير المشروع.
الإمام الصادق عليه السلام والمنصور العبّاسيّ
استولى أبو جعفر المنصور على الحكم بعد وفاة أخيه السفّاح سنة 136هـ. وعُرِف المنصور بأنّه كان خدّاعاً لا يتردّد في سفك الدماء، وكان متمادياً في بطشه مستهتراً في فتكه.4 وبمجرّد أن استلم زمام الحكم بادر إلى قتل أبي مسلم الخراسانيّ الّذي يبغضه، على الرغم من كونه القائد الأوّل للانقلاب العبّاسيّ. وكان المنصور قد أعدّ له مكيدةً وأغراه بالمجيء إلى بغداد بعد أن جرّده من كلّ مناصبه العسكريّة.
ولمّا دخل أبو مسلم الخراسانيّ على المنصور قابله بقساوة بالغة، وأخذ يعدّد عليه أعماله وأبو مسلم يعتذر عن ذلك. وهنا صفّق المنصور عالياً، فدخل الحرّاس وبأيديهم السيوف فقال أبو مسلم للمنصور متوسّلاً: استبقني لعدوّك، فصاح له: "وأيّ عدوٍّ أعدى لي منك؟". وبمثل هذا الأسلوب قد غدر بعمّه عبد الله بن عليّ, حيث أرسل إليه بعد أن كان قد أعطاه الأمان، وقتله بعد ذلك5.
وبالرغم من كلّ تحفّظات الإمام الصادق عليه السلام تجاه العبّاسيّين وعدم الدخول في أيّ شأنٍ سياسيّ يختصّ بهم أو يمتّ إليهم بصلة، لم يتركه المنصور العبّاسيّ حرّاً في نشاطه، بل بدأ يخطّط للتآمر على الإمام عليه السلام.
وقد مرّ مخطّط المنصور ضدّ الإمام الصادق عليه السلام ونهضته العلميّّة بشكل عامّ بثلاث مراحل:
الأولى: المرونة والاستفادة من جهد الإمام عليه السلام لاحتوائه ضمن سياسة الخلافة العبّاسيّة، فقد كتب إليه: لِمَ لا تغشانا كسائر الناس؟! فأجابه الإمام عليه السلام: "ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها ولا تراها نقمة فنعزّيك بها". فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا.
فأجابه الإمام عليه السلام: "من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك".
قال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا6.
الثانية: مرحلة المراقبة لحركة الإمام عليه السلام ورصد نشاطاته للحصول على آخر المعلومات عنه ليستطيع أن يأخذ منها دليلاً للنيل من الإمام عليه السلام، والتضييق على حركته الّتي كان يرى فيها المنصور خطراً حقيقيّاً على سلطانه.
وقد اتّخذ لذلك عدّة أساليب منها: أسلوب الدسّ في صفوف العلويّين وإغرائهم وجمع المعلومات عنهم، وأسلوب التضعيف والنيل غير المباشر من مكانة الإمام عليه السلام, فقد حاول المنصور أن يسلّط الضوء على بعض الشخصيّّات ليجعل منها بدائل علميّة تغطّي على الإمام عليه السلام، وتؤيّد سياسته، وتساهم في تضعيف القدسيّة والانجذاب الجماهيريّ نحوهعليه السلام.
ومن ذلك: أنّه طلب إلى أبي حنيفة أن يُهيّئ له عدّة مسائل عويصة وشديدة، وأحضره مع الإمام عليه السلام إلى مجلسه، وطلب من أبي حنيفة (الّذي هيّأ أربعين مسألة) أن يُلقي على الإمام عليه السلام مسائله. قال أبو حنيفة: فجعلت أُلقي عليه فيُجيبني، فيقول: "أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا" فربّما تابعنا، وربّما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً.
حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أضلّ منها شيئاً، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!7.
ومن أساليب المنصور أيضاً التحذير المباشر للإمام عليه السلام لأنّه لم يطمئنّ لسياسته عليه السلام.
الإمام الصادق عليه السلام وثورة صاحب النفس الزكيّة
بعد اختلاس العبّاسيّين للحكم تألّم محمّد بن عبد الله ذو النفس الزكيّة، وأخذ يدعو الناس إلى نفسه، فاستجاب له الناس وبايعوه، وبعد ذلك أعلن ثورته في المدينة وانضمّ إليه أهالي اليمن ومكّة وقام بهم خطيباً ووضّح مظالم العبّاسيّين.
ولمّا علم المنصور بالثورة وجّه جيشاً بأربعة آلاف فارس بقيادة عيسى بن موسى لحرب محمّد بن عبد الله المحض الذي أُصيب على إثر ذلك بجراح أدّت إلى استشهاده وتفرّق عسكره.
وحينما سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن موقفه من محمّد بن عبد الله ودعوته ـ قبل أن يُعلن محمّد ثورته ـ أجاب عليه السلام: "إنّ عندي كتابين فيهما اسم كلّ نبيّ وكلّ ملك يملك، لا والله ما محمّد بن عبد الله في أحدهما"8.
الثالثة: مرحلة الفتك بالإمام عليه السلام واغتياله (كما سيأتي).
إجراءات الإمام الصادق عليه السلام لضمان المسيرة
شدّد المنصور العبّاسيّ من مراقبته للإمام الصادق عليه السلام، وحاول مرّات عديدة اغتياله. وحينما علم الإمام عليه السلام بنوايا المنصور وتصميمه على قتله، اتّخذ مجموعة إجراءات وقام بعدّة أنشطة استهدفت تهيئة الخطّ الشيعيّ لمواصلة الطريق من بعده، وبالتالي ضمان المسيرة واستمراريّتها، ويمكن إيجاز الكلام عن ذلك بما يلي:
النشاط الأوّل: حاول الإمام عليه السلام أن يجعل الصفّ الشيعيّ صفّاً متماسكاً في عمله ونشاطه، وركّز على الإمام الكاظم عليه السلام لقيادة الأمّة من بعده فيما لو تعرّض للقتل، وقطع الطريق أمام المنتفعين والّذين يريدون انتهاز الفرص، لأنّ إسماعيل ابن الإمام الصادق عليه السلام المتوفّى في هذه الفترة، قد قال جماعةٌ بإمامته وإنّه لم يمت ولكنّه غاب وعُرف أتباعه بالإسماعيليّة.
وقد التفت الإمام عليه السلام إلى هذه العقبة وحاول أن يرفعها بأساليب شتّى.
ومن النشاطات الّتي بذلها الإمام لمعالجة هذه المشكلة: التأكيد لصحابته على تحقّق موت ابنه إسماعيل ورفع الشكوك المحتملة حول موته في كلّ فرصة كانت تسنح لذلك.
فقد روى زرارة بن أعين أنّ الإمام الصادق عليه السلام دعا بمجموعة من أصحابه... حتّى صاروا ثلاثين رجلاً، فقال عليه السلام: "يا داوود اكشف عن وجه إسماعيل"، فكشف عن وجهه، فقال: "تأمّله يا داوود، فانظر أحيّ هو أم ميت؟ فقال: بل هو ميت، فجعل يعرضه على رجل رجل حتّى أتى على آخرهم فقال: اللّهم اشهد. ثمّ أمر بغسله وتجهيزه"9.
النشاط الثاني: رغم الحرب الباردة بين المنصور والإمام الصادق عليه السلام إلّا أنّ الإمام عليه السلام مارس بعض الأدوار مع السلطة لغرض الحفاظ على الأمّة وسلامة مسيرتها وإبقاء روح الرفض قائمة في نفوسها، مخافة أن تسبّب ممارسات المنصور حالة من الانكسار للشيعة بسبب الاستجابة لمخطّطاته الخبيثة، ومن ذلك: أنّه ورد أنّ أبا جعفر المنصور قال للإمام عليه السلام: إنّي قد عزمت على أن أضرب المدينة ولا أدع فيها نافخ ضرمة.
فقال عليه السلام: "يا أمير المؤمنين لا أجد بُدّاً من النصاحة لك فاقبلها إن شئت أوْ لا... إنّه قد مضى لك ثلاثة أسلاف: أيّوب عليه السلام ابتُلي فصبر، وسليمان عليه السلام أُعطيَ فشكر، ويوسف عليه السلام قَدَرَ فغفر، فاقتد بأيّهم شئت". قال: قد عفوت10.
النشاط الثالث: ركّز الإمام الصادق عليه السلام على مبادئ إسلاميّة وممارسات إصلاحيّة في نفوس شيعته مثل مبدأ التقيّة، وكتمان السرّ، والعلاقة الفكريّّة والعاطفية بالثورة الحسينيّة لتقي هذه المبادئ والممارسات الوجود الشيعيّ من الضربات والمخطّطات الخارجيّة.
وأغلب الظنّ أنّ هكذا نشاط للإمام الصادق عليه السلام كان قد كثُر في أيّام المنصور لكثرة الجواسيس والعيون الّذين يرصدون حركة الإمام عليه السلام، ممّا دفع بهعليه السلام إلى أن يلجأ إلى عقد جلسات سرّية في بيته لغرض مواصلة دوره الإلهيّ مع الأمّة عن طريق حفظ النخبة الصالحة وتوجيهها وضمان تكامل مسيرتها.
موقف الإمام الصادق عليه السلام من الغلاة
تشتمل عقائد الغلاة على آراء ينسبون بموجبها بعض صفات الله إلى بعض البشر، ويعترفون لهم بنوع من الألوهيّة، فيجعلون منهم آلهة حيناً أو أصحاب صفات إلهيّة حيناً آخر. وبما أنّ الأئمّة كانوا يطرحون أنفسهم بصفتهم منصوبين من قِبَل الله فإنّ ذلك كان يسهّل الأرضية للصق مختلف الصفات الإلهيّة بهم، ويجعلهم غرضاً للحبّ والولاء المتطرّف ويُهيّىء الظروف لمثل تلك الآراء المغالية.
إنّ أهمّ جوانب حياة الإمام الصادق عليه السلام الّتي لها دور كبير في حياة الشيعة هي معارضته وتصدّيه العلنيّ للغلاة ومسألة الغلوّ، والّتي نتج عنها تحجيم الغلاة في شتّى المجالات، وجعلهم خارج دائرة الشيعة.
إنّ كتب الفرق والمذاهب الّتي كُتبت فيما بعد على يد علماء أهل السنّة وبسبب عدم تمييزها بين الشيعة الواقعيّين والغلاة، حرّفت أفكار قُرّائها عن حقيقة الحال وضلّلتهم بحيث إنّه لم يعد هناك تمييز بين الشيعة والغلاة. وعلى هذه الخُطى مشى بعض المستشرقين. بينما تشير الحقائق التاريخيّة إلى التصدّي الكبير من الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام للغلاة، ورفض وجودهم بين أوساط الشيعة. وفي حديث للإمام الصادق عليه السلام قال للمُفضّل بن مَزيد مشيراً في كلامه إلى أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة: "يا مُفضّل لا تقاعدوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا تؤاثروهم"11. وفي رواية عنه عليه السلام يقول: "احذروا على شبابكم الغلاة، لا يفسدوهم، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبيّة لعباده"12.
وكذلك دأب الإمام عليه السلام على رفض واستنكار عقائد الغلاة مستهدفاً بذلك إبعادهم عن المجتمع الشيعيّ، فحدّد عليه السلام كتاب الله باعتباره الميزان الّذي يميّز الحقّ عن الباطل.
ويقول الإمام عليه السلام في الغلاة: "إن أمكنني الله من هؤلاء فلم أسفك دماءهم سفك الله دم وَلدي على يديَّ"13.
وكانت مهدويّة الإمام الباقر عليه السلام من جملة ما تخرّصت الغلاة في عهد الإمام الصادق عليه السلام، وقد استنكرها الإمام بشدّة. وطُرحت قضيّة نبوّة الأئمّة المعصومين من قبل الغلاة أيضاً، وردّ عليها الأئمّة عليهم السلام.
والموقف الأهمّ الّذي استطاع الإمام عليه السلام من خلاله تعيين المسار الّذي ينبغي أن يسلكه الشيعة لإنقاذهم من التلوّث والانحراف هو تكفيره لقادة الغلاة وأتباعهم، وبذلك فصل بين خطّهم وخطّ شيعته.
حصار الإمام الصادق عليه السلام وشهادته
مرّ معنا فيما سبق أنَّ المنصور العبّاسيّ قد تدرّج في مواجهته للإمام عليه السلام في ثلاث مراحل كانت آخرها مرحلة التصفية الجسديّة، حيث صعّد المنصور العبّاسيّ من تضييقه على الإمام الصادق عليه السلام ومهّد لقتله، وقد أرسل عدّة مرّات يستدعي الإمام عليه السلام وفي كلّها كان يريد قتله.
وروى الفضل بن الربيع عن أبيه أنّه قال: دعاني المنصور، ثمّ قال: إنّ جعفر بن محمّد يُلحد في سلطاني، قتلني الله إن لم أقتله.
وقد صرّح بذلك مراراً وتكراراً مفصحاً عن نواياه الخبيثة لقتل الإمام الصادق عليه السلام، حتّى أقدم على الفتك به عليه السلام واغتياله سنة 148هـ بدسّ السمّ إليه على يد عامله في المدينة.
ولمّا علم الإمام عليه السلام أنّ أجله قد حان أوصى بجميع وصاياه إلى ولده الإمام الكاظم عليه السلام، وكان منها تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه، كما أنّه كان قد نصّبه إماماً من بعده لكنّه عهد بأمره أمام الناس إلى خمسة أشخاص، حفاظاً على حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وكان المنصور يراقب الحدث.
يقول أبو أيوب الخوزيّ: بعث إليّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل، ولمّا دخلت عليه قال لي: اكتب إلى والي المدينة، فكتبتُ صدر الكتاب ثمّ قال: اكتب: إن كان قد أوصى إلى رجل بعينه، فقدِّمه واضرب عنقه.
قال: فرجع الجواب إليه أنّه قد أوصى إلى خمسة أحدُهم أبو جعفر المنصور14.
وهكذا انتهت حياة هذا الإمام العظيم الّذي نُسب إليه المذهب الجعفريّ.وقد دلّ على عظمته عظمة التراث الّذي خلّفه لنا حيث يشكّل أغنى تراث يتضمّن تفاصيل مذهب أهل البيت عليهم السلام، وبجهوده أخذ الكيان الشيعيّ يتكامل ويتلألأ في الأُفق يوماً بعد يوم وقرناً بعد قرن، حتّى يتوّج الله ذلك بقيام المهديّ من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخلاصة
- عاصر الإمام الصادق عليه السلام في أواخر حياته المنصور العبّاسيّ المعروف بالخداع وسفك الدماء واستولى على الحكم سنة 136هـ. وبالغدر تخلّص من أبي مسلم الخراسانيّ وعمّه عبد الله بن عليّ.
- لم يمارس الإمام عليه السلام أي نشاط مثير ضد العبّاسيّين، بل كانت مواقفه تجاه الخروج عليهم مصحوبة بالتحذير، ولكنّ هذا لم يمنع المنصور من التعبير عن مكنون حقده على الإمام ضمن ثلاث مراحل: مرحلة المرونة، مرحلة المراقبة، ومرحلة الفتك بالإمام عليه السلام. واتّخذ في المرحلة الثانية عدّة أساليب للوصول إلى هدفه هي:
1- أسلوب الدسّ في صفوف العلويّين وإغرائهم لجمع المعلومات عنهم.
2- أسلوب التضعيف غير المباشر للإمام عليه السلام وإيجاد الفرقة بين تلامذته وأصحابه.
3- أسلوب التحذير والتهديد المباشر للإمام عليه السلام.
- وقف الإمام عليه السلام من الغلاة موقفاً متشدّداً وصل إلى حدّ تكفيرهم، وتحذير أصحابه من معاشرتهم.
- صعّد المنصور العبّاسيّ من حصاره وتضييقه على الإمام الصادق عليه السلام إلى أن اغتاله بالسّمّ سنة 148هـ.
* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الكافي، م.س: 6/449.
2- سواديّ: نسبة إلى العراق الّذي سمّي بأرض السواد أو إلى السواديّة وهي قرية بالكوفة.
3- بحار الأنوار، م.س: 47/171.
4- الكامل في التاريخ، م.س: 4/355.
5- تاريخ الطبري، م.س: 6/266.
6- م.ن: 6/266.
7- سير أعلام النبلاء، م.س: 9/543.
8- بحار الأنوار، م.س: 26/215.
9- م.ن: 47/253.
10- م.ن: 47/245.
11- اختيار معرفة الرجال، الشيخ أبو جعفر الطوسي: 2/586/ح535، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، 1404هـ.
12- الأمالي، الطوسي، م.س: 650.
13- شرح إحقاق الحقّ، السيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ: 12/236.
14- بحار الأنوار، م.س: 47/3.
تحدّيات السلطة لمرجعيّة الإمام عليه السلام الصادق الدينيّة
اتّجه الناس إلى الإمام الصادق عليه السلام والتفّوا حوله، لا سيّما أثناء وجوده المبارك في "الحيرة"، المدينة القريبة من الكوفة، فاجتمعوا عنده لينهلوا من علومه ويستفيدوا من توصياته وتوجيهاته، حتّى قال محمّد بن معروف الهلاليّ: مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمّد فما كان لي من حيلة من كثرة الناس فلمّا كان اليوم الرابع رآني، فأدناني...
وهذا الحشد الجماهيريّ الكبير الّذي يؤمن بأهليّة الإمام عليه السلام وأعلميّته، والتفافه المستمرّ حول الإمام عليه السلام، قد دفع الحكومة العبّاسيّة إلى أن تحدّ من هذه الظاهرة، لكنّ الإمام عليه السلام انطلاقاً من محافظته على مسيرة الأمّة ودفاعاً عن الإسلام، نجده قد مارس مع السفّاح (الخليفة العبّاسيّ) أسلوباً مرناً.
فعن حذيفة بن منصور، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بالحيرة، فأتاه رسول أبي العبّاس السفّاح الخليفة، يدعوه، فدعا بطمر (ثوب) أحد وجهيه أسود والآخر أبيض، فلبسه، ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: "أما إنّي ألبسه، وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار"1.
واستمرّت إجراءات العبّاسيّين للحدّ من ظاهرة الالتفاف حول الإمام عليه السلام والاستفادة من علومه. فقد روى هارون بن خارجة أنّه كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثاً فسأل أصحابنا، فقالوا: ليس بشيء، فقالت امرأته: لا أرضى حتّى تسأل أبا عبد الله عليه السلام، وكان عليه السلام في الحيرة إذ ذاك، أيّام أبي العبّاس السفّاح. قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على مكالمته، إذ منع الخليفةُ الناسَ من الدخول على أبي عبد الله، وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سواديّ2 عليه جبّة صوف يبيع خياراً، فقلت له: بكم خيارك هذا كلّه؟ قال: بدرهم. فأعطيته درهماً، وقلت له: أعطني جبّتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت: مَنْ يشتري خياراً؟ ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار. فقال عليه السلام لي، لمّا دنوت منه: ما أجود ما احتلت، أيّ شيء حاجتك؟
قلت: إنّي ابتُليت: فطلّقت أهلي ثلاثاً في دفعة، فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشيء، وإنّ المرأة قالت: لا أرضى حتّى تسأل أبا عبد الله، فقال عليه السلام: "ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء"3.
وهكذا انطلق العبّاسيّون من هذه النقطة لمواجهة الإمام الصادق عليه السلام والعمل على تصفيته وتجميد نشاطه لأنّهم كانوا يرون فيه البديل القويّ عنهم لاستلام الحكم على المدى البعيد، بالرغم من عدم ممارسة أيّ نشاط سياسيّ ظاهر له، وانشغاله بالفقه وعلوم الشريعة والتصدّي للتحدّيات الفكريّّة الحضاريّة آنذاك.
لكنّ هذا النشاط بدوره ينتهي إلى المرجعيّة الفكريّّة والعلميّّة وهي مصدر خطر للسياسة لأنّها ـ ترشّح الفرد المرجع إلى مركز الحكم فيكون قويّاً بفكره وبأنصاره، وهو تهديد حقيقيّ للحكم غير المشروع.
الإمام الصادق عليه السلام والمنصور العبّاسيّ
استولى أبو جعفر المنصور على الحكم بعد وفاة أخيه السفّاح سنة 136هـ. وعُرِف المنصور بأنّه كان خدّاعاً لا يتردّد في سفك الدماء، وكان متمادياً في بطشه مستهتراً في فتكه.4 وبمجرّد أن استلم زمام الحكم بادر إلى قتل أبي مسلم الخراسانيّ الّذي يبغضه، على الرغم من كونه القائد الأوّل للانقلاب العبّاسيّ. وكان المنصور قد أعدّ له مكيدةً وأغراه بالمجيء إلى بغداد بعد أن جرّده من كلّ مناصبه العسكريّة.
ولمّا دخل أبو مسلم الخراسانيّ على المنصور قابله بقساوة بالغة، وأخذ يعدّد عليه أعماله وأبو مسلم يعتذر عن ذلك. وهنا صفّق المنصور عالياً، فدخل الحرّاس وبأيديهم السيوف فقال أبو مسلم للمنصور متوسّلاً: استبقني لعدوّك، فصاح له: "وأيّ عدوٍّ أعدى لي منك؟". وبمثل هذا الأسلوب قد غدر بعمّه عبد الله بن عليّ, حيث أرسل إليه بعد أن كان قد أعطاه الأمان، وقتله بعد ذلك5.
وبالرغم من كلّ تحفّظات الإمام الصادق عليه السلام تجاه العبّاسيّين وعدم الدخول في أيّ شأنٍ سياسيّ يختصّ بهم أو يمتّ إليهم بصلة، لم يتركه المنصور العبّاسيّ حرّاً في نشاطه، بل بدأ يخطّط للتآمر على الإمام عليه السلام.
وقد مرّ مخطّط المنصور ضدّ الإمام الصادق عليه السلام ونهضته العلميّّة بشكل عامّ بثلاث مراحل:
الأولى: المرونة والاستفادة من جهد الإمام عليه السلام لاحتوائه ضمن سياسة الخلافة العبّاسيّة، فقد كتب إليه: لِمَ لا تغشانا كسائر الناس؟! فأجابه الإمام عليه السلام: "ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها ولا تراها نقمة فنعزّيك بها". فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا.
فأجابه الإمام عليه السلام: "من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك".
قال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا6.
الثانية: مرحلة المراقبة لحركة الإمام عليه السلام ورصد نشاطاته للحصول على آخر المعلومات عنه ليستطيع أن يأخذ منها دليلاً للنيل من الإمام عليه السلام، والتضييق على حركته الّتي كان يرى فيها المنصور خطراً حقيقيّاً على سلطانه.
وقد اتّخذ لذلك عدّة أساليب منها: أسلوب الدسّ في صفوف العلويّين وإغرائهم وجمع المعلومات عنهم، وأسلوب التضعيف والنيل غير المباشر من مكانة الإمام عليه السلام, فقد حاول المنصور أن يسلّط الضوء على بعض الشخصيّّات ليجعل منها بدائل علميّة تغطّي على الإمام عليه السلام، وتؤيّد سياسته، وتساهم في تضعيف القدسيّة والانجذاب الجماهيريّ نحوهعليه السلام.
ومن ذلك: أنّه طلب إلى أبي حنيفة أن يُهيّئ له عدّة مسائل عويصة وشديدة، وأحضره مع الإمام عليه السلام إلى مجلسه، وطلب من أبي حنيفة (الّذي هيّأ أربعين مسألة) أن يُلقي على الإمام عليه السلام مسائله. قال أبو حنيفة: فجعلت أُلقي عليه فيُجيبني، فيقول: "أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا" فربّما تابعنا، وربّما تابعهم، وربّما خالفنا جميعاً.
حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أضلّ منها شيئاً، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!7.
ومن أساليب المنصور أيضاً التحذير المباشر للإمام عليه السلام لأنّه لم يطمئنّ لسياسته عليه السلام.
الإمام الصادق عليه السلام وثورة صاحب النفس الزكيّة
بعد اختلاس العبّاسيّين للحكم تألّم محمّد بن عبد الله ذو النفس الزكيّة، وأخذ يدعو الناس إلى نفسه، فاستجاب له الناس وبايعوه، وبعد ذلك أعلن ثورته في المدينة وانضمّ إليه أهالي اليمن ومكّة وقام بهم خطيباً ووضّح مظالم العبّاسيّين.
ولمّا علم المنصور بالثورة وجّه جيشاً بأربعة آلاف فارس بقيادة عيسى بن موسى لحرب محمّد بن عبد الله المحض الذي أُصيب على إثر ذلك بجراح أدّت إلى استشهاده وتفرّق عسكره.
وحينما سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن موقفه من محمّد بن عبد الله ودعوته ـ قبل أن يُعلن محمّد ثورته ـ أجاب عليه السلام: "إنّ عندي كتابين فيهما اسم كلّ نبيّ وكلّ ملك يملك، لا والله ما محمّد بن عبد الله في أحدهما"8.
الثالثة: مرحلة الفتك بالإمام عليه السلام واغتياله (كما سيأتي).
إجراءات الإمام الصادق عليه السلام لضمان المسيرة
شدّد المنصور العبّاسيّ من مراقبته للإمام الصادق عليه السلام، وحاول مرّات عديدة اغتياله. وحينما علم الإمام عليه السلام بنوايا المنصور وتصميمه على قتله، اتّخذ مجموعة إجراءات وقام بعدّة أنشطة استهدفت تهيئة الخطّ الشيعيّ لمواصلة الطريق من بعده، وبالتالي ضمان المسيرة واستمراريّتها، ويمكن إيجاز الكلام عن ذلك بما يلي:
النشاط الأوّل: حاول الإمام عليه السلام أن يجعل الصفّ الشيعيّ صفّاً متماسكاً في عمله ونشاطه، وركّز على الإمام الكاظم عليه السلام لقيادة الأمّة من بعده فيما لو تعرّض للقتل، وقطع الطريق أمام المنتفعين والّذين يريدون انتهاز الفرص، لأنّ إسماعيل ابن الإمام الصادق عليه السلام المتوفّى في هذه الفترة، قد قال جماعةٌ بإمامته وإنّه لم يمت ولكنّه غاب وعُرف أتباعه بالإسماعيليّة.
وقد التفت الإمام عليه السلام إلى هذه العقبة وحاول أن يرفعها بأساليب شتّى.
ومن النشاطات الّتي بذلها الإمام لمعالجة هذه المشكلة: التأكيد لصحابته على تحقّق موت ابنه إسماعيل ورفع الشكوك المحتملة حول موته في كلّ فرصة كانت تسنح لذلك.
فقد روى زرارة بن أعين أنّ الإمام الصادق عليه السلام دعا بمجموعة من أصحابه... حتّى صاروا ثلاثين رجلاً، فقال عليه السلام: "يا داوود اكشف عن وجه إسماعيل"، فكشف عن وجهه، فقال: "تأمّله يا داوود، فانظر أحيّ هو أم ميت؟ فقال: بل هو ميت، فجعل يعرضه على رجل رجل حتّى أتى على آخرهم فقال: اللّهم اشهد. ثمّ أمر بغسله وتجهيزه"9.
النشاط الثاني: رغم الحرب الباردة بين المنصور والإمام الصادق عليه السلام إلّا أنّ الإمام عليه السلام مارس بعض الأدوار مع السلطة لغرض الحفاظ على الأمّة وسلامة مسيرتها وإبقاء روح الرفض قائمة في نفوسها، مخافة أن تسبّب ممارسات المنصور حالة من الانكسار للشيعة بسبب الاستجابة لمخطّطاته الخبيثة، ومن ذلك: أنّه ورد أنّ أبا جعفر المنصور قال للإمام عليه السلام: إنّي قد عزمت على أن أضرب المدينة ولا أدع فيها نافخ ضرمة.
فقال عليه السلام: "يا أمير المؤمنين لا أجد بُدّاً من النصاحة لك فاقبلها إن شئت أوْ لا... إنّه قد مضى لك ثلاثة أسلاف: أيّوب عليه السلام ابتُلي فصبر، وسليمان عليه السلام أُعطيَ فشكر، ويوسف عليه السلام قَدَرَ فغفر، فاقتد بأيّهم شئت". قال: قد عفوت10.
النشاط الثالث: ركّز الإمام الصادق عليه السلام على مبادئ إسلاميّة وممارسات إصلاحيّة في نفوس شيعته مثل مبدأ التقيّة، وكتمان السرّ، والعلاقة الفكريّّة والعاطفية بالثورة الحسينيّة لتقي هذه المبادئ والممارسات الوجود الشيعيّ من الضربات والمخطّطات الخارجيّة.
وأغلب الظنّ أنّ هكذا نشاط للإمام الصادق عليه السلام كان قد كثُر في أيّام المنصور لكثرة الجواسيس والعيون الّذين يرصدون حركة الإمام عليه السلام، ممّا دفع بهعليه السلام إلى أن يلجأ إلى عقد جلسات سرّية في بيته لغرض مواصلة دوره الإلهيّ مع الأمّة عن طريق حفظ النخبة الصالحة وتوجيهها وضمان تكامل مسيرتها.
موقف الإمام الصادق عليه السلام من الغلاة
تشتمل عقائد الغلاة على آراء ينسبون بموجبها بعض صفات الله إلى بعض البشر، ويعترفون لهم بنوع من الألوهيّة، فيجعلون منهم آلهة حيناً أو أصحاب صفات إلهيّة حيناً آخر. وبما أنّ الأئمّة كانوا يطرحون أنفسهم بصفتهم منصوبين من قِبَل الله فإنّ ذلك كان يسهّل الأرضية للصق مختلف الصفات الإلهيّة بهم، ويجعلهم غرضاً للحبّ والولاء المتطرّف ويُهيّىء الظروف لمثل تلك الآراء المغالية.
إنّ أهمّ جوانب حياة الإمام الصادق عليه السلام الّتي لها دور كبير في حياة الشيعة هي معارضته وتصدّيه العلنيّ للغلاة ومسألة الغلوّ، والّتي نتج عنها تحجيم الغلاة في شتّى المجالات، وجعلهم خارج دائرة الشيعة.
إنّ كتب الفرق والمذاهب الّتي كُتبت فيما بعد على يد علماء أهل السنّة وبسبب عدم تمييزها بين الشيعة الواقعيّين والغلاة، حرّفت أفكار قُرّائها عن حقيقة الحال وضلّلتهم بحيث إنّه لم يعد هناك تمييز بين الشيعة والغلاة. وعلى هذه الخُطى مشى بعض المستشرقين. بينما تشير الحقائق التاريخيّة إلى التصدّي الكبير من الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام للغلاة، ورفض وجودهم بين أوساط الشيعة. وفي حديث للإمام الصادق عليه السلام قال للمُفضّل بن مَزيد مشيراً في كلامه إلى أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة: "يا مُفضّل لا تقاعدوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا تؤاثروهم"11. وفي رواية عنه عليه السلام يقول: "احذروا على شبابكم الغلاة، لا يفسدوهم، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبيّة لعباده"12.
وكذلك دأب الإمام عليه السلام على رفض واستنكار عقائد الغلاة مستهدفاً بذلك إبعادهم عن المجتمع الشيعيّ، فحدّد عليه السلام كتاب الله باعتباره الميزان الّذي يميّز الحقّ عن الباطل.
ويقول الإمام عليه السلام في الغلاة: "إن أمكنني الله من هؤلاء فلم أسفك دماءهم سفك الله دم وَلدي على يديَّ"13.
وكانت مهدويّة الإمام الباقر عليه السلام من جملة ما تخرّصت الغلاة في عهد الإمام الصادق عليه السلام، وقد استنكرها الإمام بشدّة. وطُرحت قضيّة نبوّة الأئمّة المعصومين من قبل الغلاة أيضاً، وردّ عليها الأئمّة عليهم السلام.
والموقف الأهمّ الّذي استطاع الإمام عليه السلام من خلاله تعيين المسار الّذي ينبغي أن يسلكه الشيعة لإنقاذهم من التلوّث والانحراف هو تكفيره لقادة الغلاة وأتباعهم، وبذلك فصل بين خطّهم وخطّ شيعته.
حصار الإمام الصادق عليه السلام وشهادته
مرّ معنا فيما سبق أنَّ المنصور العبّاسيّ قد تدرّج في مواجهته للإمام عليه السلام في ثلاث مراحل كانت آخرها مرحلة التصفية الجسديّة، حيث صعّد المنصور العبّاسيّ من تضييقه على الإمام الصادق عليه السلام ومهّد لقتله، وقد أرسل عدّة مرّات يستدعي الإمام عليه السلام وفي كلّها كان يريد قتله.
وروى الفضل بن الربيع عن أبيه أنّه قال: دعاني المنصور، ثمّ قال: إنّ جعفر بن محمّد يُلحد في سلطاني، قتلني الله إن لم أقتله.
وقد صرّح بذلك مراراً وتكراراً مفصحاً عن نواياه الخبيثة لقتل الإمام الصادق عليه السلام، حتّى أقدم على الفتك به عليه السلام واغتياله سنة 148هـ بدسّ السمّ إليه على يد عامله في المدينة.
ولمّا علم الإمام عليه السلام أنّ أجله قد حان أوصى بجميع وصاياه إلى ولده الإمام الكاظم عليه السلام، وكان منها تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه، كما أنّه كان قد نصّبه إماماً من بعده لكنّه عهد بأمره أمام الناس إلى خمسة أشخاص، حفاظاً على حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وكان المنصور يراقب الحدث.
يقول أبو أيوب الخوزيّ: بعث إليّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل، ولمّا دخلت عليه قال لي: اكتب إلى والي المدينة، فكتبتُ صدر الكتاب ثمّ قال: اكتب: إن كان قد أوصى إلى رجل بعينه، فقدِّمه واضرب عنقه.
قال: فرجع الجواب إليه أنّه قد أوصى إلى خمسة أحدُهم أبو جعفر المنصور14.
وهكذا انتهت حياة هذا الإمام العظيم الّذي نُسب إليه المذهب الجعفريّ.وقد دلّ على عظمته عظمة التراث الّذي خلّفه لنا حيث يشكّل أغنى تراث يتضمّن تفاصيل مذهب أهل البيت عليهم السلام، وبجهوده أخذ الكيان الشيعيّ يتكامل ويتلألأ في الأُفق يوماً بعد يوم وقرناً بعد قرن، حتّى يتوّج الله ذلك بقيام المهديّ من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخلاصة
- عاصر الإمام الصادق عليه السلام في أواخر حياته المنصور العبّاسيّ المعروف بالخداع وسفك الدماء واستولى على الحكم سنة 136هـ. وبالغدر تخلّص من أبي مسلم الخراسانيّ وعمّه عبد الله بن عليّ.
- لم يمارس الإمام عليه السلام أي نشاط مثير ضد العبّاسيّين، بل كانت مواقفه تجاه الخروج عليهم مصحوبة بالتحذير، ولكنّ هذا لم يمنع المنصور من التعبير عن مكنون حقده على الإمام ضمن ثلاث مراحل: مرحلة المرونة، مرحلة المراقبة، ومرحلة الفتك بالإمام عليه السلام. واتّخذ في المرحلة الثانية عدّة أساليب للوصول إلى هدفه هي:
1- أسلوب الدسّ في صفوف العلويّين وإغرائهم لجمع المعلومات عنهم.
2- أسلوب التضعيف غير المباشر للإمام عليه السلام وإيجاد الفرقة بين تلامذته وأصحابه.
3- أسلوب التحذير والتهديد المباشر للإمام عليه السلام.
- وقف الإمام عليه السلام من الغلاة موقفاً متشدّداً وصل إلى حدّ تكفيرهم، وتحذير أصحابه من معاشرتهم.
- صعّد المنصور العبّاسيّ من حصاره وتضييقه على الإمام الصادق عليه السلام إلى أن اغتاله بالسّمّ سنة 148هـ.
* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الكافي، م.س: 6/449.
2- سواديّ: نسبة إلى العراق الّذي سمّي بأرض السواد أو إلى السواديّة وهي قرية بالكوفة.
3- بحار الأنوار، م.س: 47/171.
4- الكامل في التاريخ، م.س: 4/355.
5- تاريخ الطبري، م.س: 6/266.
6- م.ن: 6/266.
7- سير أعلام النبلاء، م.س: 9/543.
8- بحار الأنوار، م.س: 26/215.
9- م.ن: 47/253.
10- م.ن: 47/245.
11- اختيار معرفة الرجال، الشيخ أبو جعفر الطوسي: 2/586/ح535، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، 1404هـ.
12- الأمالي، الطوسي، م.س: 650.
13- شرح إحقاق الحقّ، السيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ: 12/236.
14- بحار الأنوار، م.س: 47/3.