مع أهل زمانه وحكّام عصره
عاصر الإمام الصادق عليه السلام نهاية العهد الأمويّ وبداية العهد العبّاسيّ, فكان شاهداً على كلا الدولتين.
أمّا حكّام بني أميّة الذين عاصرهم الإمام فهم:
1- هشام بن عبد الملك:
وقد تقدّم في كتاب "باقر العلوم" شيء من الكلام حول بعض ما جرى للإمام وأبيه الإمام الباقر عليه السلام مع هذا الطاغية.
وفي أيّامه استشهد زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام.. وقد حزن عليه الإمام الصادق عليه السلام أشدّ الحزن, فعن حمزة بن حمران، قال: دخلت إلى الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال لي: "يا حمزة، من أين أقبلت؟" قلت له: من الكوفة. قال: فبكى عليه السلام حتّى بلّت دموعه لحيته، فقلت له: يا بن رسول الله، ما لك أكثرت البكاء؟ فقال: "ذكرت عمّي زيداً وما صنع به فبكيت". فقلت له: وما الذي ذكرت منه؟ فقال: "ذكرت مقتله، وقد أصاب جبينه سهم، فجاءه ابنه يحيى فانكبّ عليه، وقال له: أبشر يا أبتاه، فإنّك ترد على رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم. قال: أجل يا بني، ثمّ دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجيء به إلى ساقية تجري عند بستان زائدة، فحفر له فيها ودفن، وأجرى عليه الماء وكان معهم غلام سنديّ لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد فأخبره بدفنهم إيّاه، فأخرجه يوسف بن عمر1 فصلبه في الكناسة أربع سنين، ثمّ أمر به فأحرق بالنّار، وذرّي في الرياح، فلعن الله قاتله وخاذله، وإلى الله جلّ اسمه أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيّه بعد موته، وبه نستعين على عدوّنا، وهو خير مستعان"2 .
وكانت أيّام هشام شديدة الصعوبة على الناس حتّى قيل: لم يُرَ زمان أصعب من زمانه3 .
2- الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
الخليفة الفاسق- كما يسمّيه السيوطيّ- كان فاسقاً, شرِّيباً للخمر, منتهكاً حرمات الله, أراد الحجّ ليشرب فوق ظهر الكعبة4 , وكان صاحب لهو وطرب وسماع للغناء, وهو أوّل من حمل المغنّين من البلدان إليه, وجالس الملهين, وأظهر الشرب والملاهي والعزف5 .. فمقته الناس لفسقه, وخرجوا عليه (مع يزيد الناقص كما سيأتي)..ولمّا حوصر قال: ألم أزد في أعطيتكم؟ ألم أرفع عنكم المؤن؟ ألم أعطِ فقراءكم؟ فقالوا: ما ننقم عليك في أنفسنا, لكن ننقم عليك انتهاك ما حرّم الله, وشرب الخمر, ونكاح أمّهات أولاد أبيك, واستخفافك بأمر الله. ولمّا قتل وقطع رأسه وجيء به يزيدَ الناقص نصبه على رمح, فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد, فقال: بُعداً له! أشهد أنّه كان شروباً للخمر, ماجناً, فاسقاً, ولقد راودني على نفسي!6 .
وقرأ ذات يوم: ﴿وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيد﴾ٍ فدعا بالمصحف فنصبه غَرَضاً للنشّاب, وأقبل يرميه وهو يقول:
تَوَعَّدَ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ
إِذَا مَا جِئْتَ رَبَّكَ يَوْمَ حَشْرٍ
فَهَا أَنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ
فَقُلْ يَا رَبِّ خَرَّقَنِي الوَلِيدُ
وعن المبرِّد النحويّ أنّ الوليد أَلحد في شِعرٍ له ذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, وأنّ الوحي لم يأته من ربّه, كذب أخزاه الله!! من ذلك الشعر:
تَلَعَّبَ بالخلافة هاشميٌّ
فَقُلْ لِلَّهِ يَمْنَعُنِي طَعَامِي
بِلَا وَحْيٍ أَتَاهُ وَلَا كِتَابِ
وَقُلْ لِلَّهِ يَمْنَعُنِي شَرَابِي!
فلم يمهل بعد قوله هذا إلّا أيّاماً حتّى قتل7 .
وفي أيّامه ظهر يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام بالجوزجان من بلاد خراسان, منكراً للظلم وما عمَّ الناس من الجور, فسار إليه نصرُ بن سيّار في جيش ضخم, والتحم الفريقان, واستشهد يحيى في هذه المعركة سنة 125هـ 8.
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ آل أبي سفيان قتلوا الحسين بن عليّ عليهما السلام فنزع الله ملكهم, وقتل هشام زيد بن عليّ فنزع الله ملكه, وقتل الوليد يحيى بن زيد فنزع الله ملكه على قتله ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"9 .
3- يزيد بن الوليد بن عبد الملك:
وهو المعروف بيزيد الناقص, لأنّه نقص الجند من أعطيتهم. وكان قد وثب على الخلافة وقتل ابن عمّه الوليد وتملّك, ولم يمتَّع بالخلافة بل مات في عامه, لأشهر مضت من خلافته10 .
4- إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك:
وهو أخو يزيد الناقص, قام بالأمر من بعده, فبايعه الناس أربعة أشهر, وقيل: شهران, ثمّ خُلع, وكانت أيّامه عجيبة الشأن من كثرة الهرج والاختلاط, واختلاف الكلمة, وسقوط الهيبة11
خرج عليه مروان بن محمّد بن مروان, فهرب إبراهيم من دمشق, ثمّ ظفر به مروان فقتله وصلبه, وقتل من مالأه ووالاه, وبدأ أمر بني أميّة يؤول إلى ضعف12 .
5- مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم:
آخر خلفاء بني أميّة, أبو عبد الملك, المعروف بمروان الحمار, قيل: لأنّه كان لا يجفّ له لبد13 في محاربة الخارجين عليه, كان يصل السير بالسير, ويصبر على مكاره الحرب, ويقال في المثل: فلان أصبر من حمار في الحروب, فلذلك لقّب به. وقيل: لأنّ العرب تسمّي كلّ مائة سنة حماراً, فلمّا قارب ملك بني أميّة مائة سنة لقّبوا مروان بالحمار لذلك14 .
ولم يتهنَّ بالخلافة لكثرة من خرج عليه من كلّ جانب إلى أن خرج عليه بنو العبّاس وعليهم عبد الله بن عليّ عمُّ السفّاح, وسار لحربه فالتقى الجمعان في الموصل, فانكسر مروان, فرجع إلى الشام, فتبعه عبد الله, ففرّ مروان إلى مصر, فتبعه أخوه صالح فالتقيا بقرية بُوصِير, فقتل مروان بها وقطع رأسه ووجه به إلى عبد الله بن عليّ15 .
بداية العهد العبّاسيّ:
وبهذا أسدل الستار على الحكم الأمويّ الذي دام ألف شهر16 , لتنتهي بذلك حقبة مظلمة من تاريخ هذه الأمّة, سوّدت وجه التاريخ ظلماً وقتلاً وتشريداً وقهراً, ممّا يطول تعداده وحصره.
ليبدأ ثمّة حكم جديد يتزعّمه بنو العبّاس الذين خرجوا يستنهضون الأمّة بشعار الرضا من آل محمّد, يعاونهم العلويّون في شتّى الأقطار والولايات حتّى استتبّ لهم الملك..
فما لبثوا أن انقلبوا على العلويّين يوسعونهم قتلاً، وعسفاً وتشريداً، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب، التي لم تكن لتخطر على قلب بشر، بهدف استئصالهم من الوجود، ومحو آثارهم، ليصفو لهم الجوّ، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم, أو بالأحرى حتّى لا يبقى مَن مِن شأنه ذلك. حتّى لقد نسي الناس فعال بني أميّة معهم، عندما رأوا فعال بني العبّاس بهم. وحتّى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول:
تَاللهِ مَا فَعَلَتْ أُمَيَّةُ فِيهِمُ مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بَنُو العَبَّاسِ
وقال آخر في زمن السفّاح:
يَا لَيْتَ جَوْرَ بَنِي مَرْوَانَ دَامَ لَنَا وَلَيْتَ عَدْلَ بَنِي العَبَّاسِ في النَّارِ 17
وقد كان الإمام الصادق عليه السلام على علمٍ بما ستؤول إليه الأمور, وما تستتر خلفه هذه الشعارات واللافتات من نيَّات وأهداف خدعوا بها هذه الأمّة, ومن هنا لم يستدرج الإمام عليه السلام إلى مثل هذه الدعوات, بل كان يحذّر منها أيضاً, لكنّه أعطى ملامح الخطّ السياسيّ الذي كان ينسجم مع تلك المرحلة, دون أن يكون ذلك على حساب الجهاد ضدّ الأمويّين, والإطاحة بملكهم وسلطانهم18 .
ولهذا نجد أنّ الإمام كان يحذّر بني عمّه الإمام الحسن عليه السلام أن يغترّوا ببعض هذه الدعوات الكاذبة والخادعة, فقد روى الشيخ المفيد رحمه الله: أنّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء19 ، وفيهم إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن عليّ، وعبد الله بن الحسن، وابناه محمّد وإبراهيم، ومحمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان, فقال صالح بن عليّ: قد علمتم أنّكم الذين يمدّ الناس إليهم أعينهم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إيّاها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتّى يفتح الله وهو خير الفاتحين. فحمد الله عبد الله بن الحسن وأثنى عليه ثمّ قال: قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهديّ، فهلمّ فلنبايعه. قال أبو جعفر: لأيّ شيء تخدعون أنفسكم؟ والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور20 أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى- يريد به محمّد بن عبد الله-.
قالوا: قد- والله- صدقت، إنّ هذا الذي نعلم. فبايعوا محمّداً جميعاً ومسحوا على يده. قال عيسى: وجاء رسول عبد الله بن حسن إلى أبي: أن ائتنا فإنّا مجتمعون لأمر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام. وقال غير عيسى: إنّ عبد الله بن الحسن قال لمن حضر: لا تريدوا جعفراً، فإنّا نخاف أن يفسد عليكم أمركم. قال عيسى بن عبد الله بن محمّد: (فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له، فجئتهم) ومحمّد بن عبد الله يصلّي على طنفسة رحل مثنيّة فقلت لهم: أرسلني أبي إليكم أسألكم لأيّ شيء اجتمعتم؟ فقال عبد الله: اجتمعنا لنبايع المهديّ محمّد بن عبد الله.
قال: وجاء جعفر بن محمّد فأوسع له عبد الله بن حسن إلى جنبه، فتكلّم بمثل كلامه.
فقال جعفر: "لا تفعلوا، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد، إن كنت ترى- يعني عبد الله- أنّ ابنك هذا هو المهديّ، فليس به ولا هذا أوانه، وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنّا والله لا ندعك - وأنت شيخنا - ونبايع ابنك في هذا الأمر". فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ووالله ما أطلعك الله على غيبه، ولكنّه يحملك على هذا الحسد لابني. فقال: "والله ما ذاك يحملني، ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم", وضرب بيده على ظهر (أبي العبّاس) ثمّ ضرب بيده على كتف عبد الله بن حسن وقال: "إنّها - والله - ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم، وإنّ ابنيك لمقتولان", ثمّ نهض وتوكّأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهريّ فقال: " أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟" يعني (أبا جعفر) فقال له: نعم، فقال: "إنّا والله نجده يقتله", قال له عبد العزيز: أيقتل محمّداً؟ قال: "نعم".
فقلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة! قال: ثمّ والله ما خرجت من الدنيا حتّى رأيته قتلهما. قال: فلمّا قال جعفر ذلك ونهض القوم وافترقوا، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد الله أتقول هذا؟ قال: "نعم، أقوله- والله- وأعلمه"..
وكان جعفر بن محمّد عليهما السلام إذا رأى محمّد بن عبد الله بن حسن تغرغرت عيناه، ثمّ يقول: "بنفسي هو، إنّ الناس ليقولون فيه، وإنّه لمقتول، ليس هو في كتاب عليّ من خلفاء هذه الأمّة"21 .
كما أنّ الإمام الصادق عليه السلام رفض العروض الكثيرة التي كانت تعرض عليه, من ذلك عرض أبي سلمة الخلّال22 الذي أرسل إليه كتاباً, فقرأه الإمام عليه السلام ثمّ وضعه على المصباح فحرقه, فقال له الرسول- وظنّ أن حرقه له تغطية وستر وصيانة للأمر- : هل من جواب؟ فقال عليه السلام: "الجواب ما قد رأيت"23.
وفيه يقول أبو هريرة الآبار صاحب الصادق عليه السلام:
لِيَثْنِي عَلَيْهِ عَزْمَهُ بِصَوَابِ
بِحَرْقِ كِتَابٍ دُونَ رَدِّ جَوَابِ
وَلَا مُلْبِساً مِنْهَا الرَّدَى بِثَوَابِ
دَلِيلٌ إِلَى خَيْرٍ وَحُسْنِ مَآبِ
وَلَمَّا دَعَا الدَّاعُونَ مَوْلَايَ لَمْ يَكُنْ
وَلَمَّا دَعَوْهُ بِالكِتَابِ أَجَابَهُمْ
وَمَا كَانَ مَوْلَايَ كَمُشْرِي ضَلَالَةٍ
وََلكِنَّهُ لِلَّهِ في الأَرْضِ حُجَّةٌ
وقد كان أبو سلمة لمّا قتل إبراهيم (المعروف بالإمام) خاف انتقاض الأمر وفساده عليه, فبعث بمحمّد بن عبد الرحمن بن أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد الله جعفر الصادق وإلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ يدعو كلّ واحد منهما إلى الشخوص إليه, فأمّا الصادق عليه السلام فلقيه الرسول ليلاً فأعلمه أنّه رسول أبي سلمة ودفع إليه كتابه فقال له أبو عبد الله: "وما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري؟!" فقال له: إنّي رسول فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت, فوضع كتاب أبي سلمة على السراج حتّى احترق, وقال: "عرّف صاحبك بما رأيت", وتمثّل بقول الكميت:
فَيَا مُوقِداً نَاراً لِغَيْرِكَ ضَوْؤُهَا وَيَا حَاطِباً في غَيْرِ حَبْلِكَ تَحْطِبُ
فخرج الرسول من عنده وأتى عبد الله بن الحسن فقرأ الكتاب وابتهج, وجاء في غد ذلك اليوم إلى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق وكان أبو عبد الله أسنّ من عبد الله, فقال: "يا أبا محمّد أمرٌ ما أتى بك", قال: نعم وهو أجلّ من أن يوصف, هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما قبله, وقد تقدّمت عليه شيعتنا من أهل خراسان, فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "يا أبا محمّد, ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟ أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟ وأنت أمرته بلبس السواد؟ وهؤلاء الذين قدموا العراق, أنت كنت سبب قدومهم أو وجَّهت فيهم؟ وهل تعرف أحداً منهم؟" فنازعه عبد الله الكلام إلى أن قال: إنّما يريد القوم ابني محمّداً لأنّه مهديّ هذه الأمّة, فقال أبو عبد الله: "والله ما هو مهديّ هذه الأمّة, ولئن شهر نفسه ليقتلن", فنازعه عبد الله القول حتّى قال له: والله ما يمنعك من ذلك إلّا الحسد, فقال أبو عبد الله: "والله ما هذا إلّا نصح منّي لك, ولقد كتبإليّ أبو سلمة بمثل ما كتب به إليك فلم يجد عندي رسوله ما وجد عندك, ولقد أحرقت كتابه من قبل أن أقرأه". وفي نصٍ آخر عن الصادق عليه السلام: أنّه قال له: "قد علم الله أنّي أوجب النصيحة على نفسي لكلّ مسلم, فكيف أدّخره عنك, فلا تمنّ نفسك بالأباطيل, فإنّ الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد جاءني مثل الكتاب الذي جاءك"24 , فانصرف عبد الله مغضباً ولم يصل رسول أبي سلمة إليه حتّى بويع السفّاح بالخلافة.. .25
مع بني العبّاس:
1- أبو العبّاس عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس:
المعروف بالسفّاح- لكثرة ما سفك من الدماء- وهو أوّل خلفاء بني العبّاس وملوكهم, وكان أصغر من أخيه المنصور. وإنّما آلت إليه الخلافة, لأنّ أباه محمّد بن عليّ كان قد بدأ دعوة بني العبّاس من خراسان عندما أرسل رجلاً إليها وأمره أن يدعو إلى الرضا من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسمّي أحداً باسمه, ثمّ وجّه أبا مسلم الخراسانيّ وغيره وكتب إلى النقباء فقبلوا كتبه, ثمّ لم ينشب أن مات محمّد, فعهد إلى ابنه إبراهيم, فبلغ خبره مروان (الحمار) فسجنه, ثمّ قتله, فعهد إلى أخيه عبد الله وهو السفّاح, ثمّ كان من أمره وقتله لمروان ما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً26 .
وقتل في مبايعة السفّاح من بني أميّة وجندهم ما لا يحصى من الخلائق, وتوطَّدت له الممالك إلى أقصى المغرب. قالوا: وكان السفّاح سريعاً إلى سفك الدماء, فأتبعه عمّاله في المشرق والمغرب27 .
وكانت أيّام السفّاح أربع سنين, ولم يشغله تطهير الأرض من بني أميّة عن الإمام الصادق عليه السلام, لعلمه بما له من المنزلة والمقام, وحذراً من أن يتّجه الناس إليه فأرسل عليه من المدينة إلى الحيرة ليفتك به, لكنّ الله تعالى حفظه وأنجاه28 .
2- أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس:
المعروف بالمنصور, والدوانيقيّ, وكان في غاية الحرص والبخل فلقّب "أبو الدوانيق" لمحاسبته العمّال والصنّاع على الدوانيق والحبّات.
تولّى الخلافة في أوّل سنة 137 للهجرة, فأوّل ما فعله أن قتل أبا مسلم الخراسانيّ صاحب دعوتهم وممهِّد دولتهم29 . قتل خلقاً كثيراً حتّى استقام ملكه, وهو الذي ضرب أبا حنيفة على القضاء ثمّ سجنه فمات بعد أيّام, وقيل: إنّه قتله بالسمّ لكونه أفتى بالخروج عليه, وآذى خلقاً كثيراً من العلماء قتلاً وضرباً, وأخذ يتتبّع آل أبي طالب ويقتلهم شرَّ قتلة30 , بما لا يسع المجال لذكره.
وقد كان للإمام الصادق عليه السلام مع المنصور وولاته مواقف عديدة نشير لبعضها:
روي أنّ المنصور كتب إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه: "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟!", قال: فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا فأجابه: "من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك"، فقال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا 31.
وعن الربيع صاحب المنصور قال: قال المنصور يوماً لأبي عبد الله عليه السلام وقد وقع على المنصور ذباب فذبّه عنه ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، فقال: يا أبا عبد الله لأيّ شيء خلق الله تعالى الذباب؟ قال: "ليذلّ به الجبّارين"32 .
وعن عبد الله بن سليمان التميميّ، قال: لمّا قتل محمّد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن صار إلى المدينة رجل يقال له "شبّة بن عقال" ولّاه المنصور على أهلها، فلمّا قدمها وحضرت الجمعة صار إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، إنّ عليّ بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين، وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه من أهله، فحرمه الله أمنيته وأماته بغصّته، وهؤلاء ولده يتّبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له، فهم في نواحي الأرض مقتّلون وبالدماء مضرّجون. قال: فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف، فقام إليه رجل عليه إزار قومسيّ سحق33 فقال: "فنحن نحمد الله ونصلّي على محمّد خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى وأحرى، يا من ركب غير راحلته، وأكل غير زاده ارجع مأزوراً، ثمّ أقبل على الناس فقال: ألا أنبّئكم بأخفّ الناس يوم القيامة ميزاناً، وأبينهم خسراناً؟ من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا الفاسق". فأسكت الناس، وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف، فسألت عن الرجل فقيل لي: هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم 34.
محنة الإمام عليه السلام مع المنصور:
وكان بين ولاية المنصور وشهادة الإمام الصادق عليه السلام اثنتا عشرة سنة, لم يجد فيها الإمام راحة ولا هدوءاً على ما بينهما من البُعد الشاسع, فالإمام في الحجاز والمنصور في العراق, ومع ذلك فقد كان يتعاهده بالأذى. يقول السيّد ابن طاووس رحمه الله: إنّ المنصور دعا الصادق عليه السلام سبع مرّات, كان بعضها في المدينة والربذة حين حجَّ المنصور, وبعضها يرسل إليه إلى الكوفة, وبعضها إلى بغداد, وما كان يرسل عليه مرّة إلّا ويريد فيها قتله! هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول35 .
ونحن لا يسعنا ذكر هذه الأمور بالتفصيل لكن نشير إلى بعض ما لاقاه الإمام من هذه المحن والمصائب:
فعن المفضّل بن عمر قال: وجّه أبو جعفر المنصور إلى الحسن بن زيد وهو واليه على الحرمين أن أحرق على جعفر بن محمّد داره، فألقى النّار في دار أبي عبد الله فأخذت النّار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله عليه السلام يتخطّى النّار ويمشي فيها ويقول: أنا ابن أعراق الثرى36 أنا ابن إبراهيم خليل الله عليه السلام37 .
وروي عن الرضا، عن أبيه عليهما السلام قال: جاء رجل إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام فقال: انج بنفسك، فهذا فلان بن فلان قد وشى بك إلى المنصور وذكر أنّك تأخذ البيعة لنفسك على الناس، لتخرج عليهم. فتبسّم وقال: "يا عبد الله لا تُرَعْ، فإنّ الله إذا أراد إظهار فضيلة كتمت أو جحدت أثار عليها حاسداً باغياً يحرّكها حتّى يبيّنها، اقعد معي حتّى يأتي الطلب فتمضي معي إلى هناك، حتّى تشاهد ما يجري من قدرة الله التي لا معدل لها عن مؤمن". فجاء الرسول وقال: أجب أمير المؤمنين. فخرج الصادق عليه السلام ودخل، وقد امتلأ المنصور غيظاً وغضباً، فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك على المسلمين تريد أن تفرّق جماعتهم، وتسعى في هلكتهم، وتفسد ذات بينهم؟
فقال الصادق عليه السلام: "ما فعلت شيئاً من هذا", قال المنصور: فهذا فلان يذكر أنّك فعلت كذا، وأنّه أحد من دعوته إليك. فقال: "إنّه لكاذب". قال المنصور: إنّي أحلفه، فإن حلف كفيت نفسي مؤنتك. فقال الصادق عليه السلام: "إنّه إذا حلف كاذباً باء بإثم". فقال المنصور لحاجبه: حلّف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا- يعني الصادق عليه السلام-. فقال له الحاجب: قل: والله الذي لا إله إلّا هو، وجعل يغلظ عليه اليمين. فقال الصادق عليه السلام: "لا تحلّفه هكذا، فإنّي سمعت أبي يذكر عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إنّ من الناس من يحلف كاذباً فيعظِّم الله في يمينه، ويصفه بصفاته الحسنى، فيأتي تعظيمه لله على إثمّ كذبه ويمينه (فيؤخّر عنه البلاء)، ولكن دعني أحلّفه باليمين التي حدّثني بها أبي، عن جدّي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لا يحلف بها حالف إلّا باء بإثمه". فقال المنصور: فحلّفه إذاً يا جعفر!
فقال الصادق عليه السلام للرجل: "قل إن كنت كاذباً عليك فقد برئت من حول الله وقوّته ولجأت إلى حولي وقوّتي". فقالها الرجل. فقال الصادق عليه السلام: "أللهمّ إن كان كاذباً فأمته". فما استتمّ كلامه حتّى سقط الرجل ميّتاً، واحتمل، ومضي به، وسري عن المنصور، وسأله عن حوائجه. فقال عليه السلام: "ليس لي حاجة إلّا إلى الله، والإسراع إلى أهلي، فإنّ قلوبهم بي متعلّقة". فقال المنصور: ذلك إليك، فافعل منه ما بدا لك. فخرج من عنده مكرّماً، قد تحيّر فيه المنصور ومن يليه.. .38
وعن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السلام قال: "أرسل أبو جعفر الدوانيقيّ إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام ليقتله وطرح له سيفاً ونطعا ً 39 وقال للربيع: إذا أنا كلّمته ثمّ ضربت بإحدى يديّ على الأخرى فاضرب عنقه, فلمّا دخل جعفر بن محمّد عليه السلام ونظر إليه من بعيد يحرّك شفتيه وأبو جعفر على فراشه وقال: مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد الله ما أرسلنا إليك إلّا رجاء أن نقضي دينك ونقضي ذمامك ثمّ ساءله مساءلة لطيفة عن أهل بيته, وقال: قد قضى الله دينك وأخرج جائزتك يا ربيع لا تمضينَّ ثالثة حتّى يرجع جعفر إلى أهله فلمّا خرج قال له الربيع: يا أبا عبد الله أرأيت السيف إنّما كان وضع لك والنطع فأيّ شيء رأيتك تحرّك به شفتيك؟ قال جعفر عليه السلام: نعم يا ربيع لمّا رأيت الشرّ في وجهه قلت: حسبي الربّ من المربوبين وحسبي الخالق من المخلوقين وحسبي الرازق من المرزوقين وحسبي الله ربّ العالمين حسبي من هو حسبي, حسبي من لم يزل حسبي, حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم"40 .
*صادق العترة, سلسلة مجالس العترة, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- والي العراق آنذاك.
2- الصدوق: الأمالي ص 477, والحديث عن زيد وثورته طويل لا يسعه هذا المختصر.
3- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الإثنا عشر سيرة وتاريخ ج 1 ص 601.
4- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 250.
5- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 237.
6- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 250- 251.
7- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 240- 241.
8- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: سيرة الأئمّة الإثني عشر سيرة وتاريخ ج 1 ص 601.
9- الصدوق: ثواب الأعمال ص 261.
10- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 252- 253.
11- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 244.
12- المصدر السابق ج 3 ص 251.
13- اللبد: بساط من صوف أو غيره يجعل على ظهر الفرس.
14- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 254- 255.
15- المصدر السابق ص 257.
16- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 259.
17- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 95- 96.
18- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام: أعلام الهداية, الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام, ج 8 ص 84.
19- منطقة بين مكّة والمدينة.
20- الصَّوَر: الميل.
21- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 190- 193. ولاحظ: الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 184 وما بعدها.
22- وهو حفص بن سليمان, أوّل من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العبّاس, فكان يدعى وزير آل محمّد, وهو غير أبو مسلم الخراسانيّ الذي كان يدعى بأمين آل محمّد, وكان في نفس أبي العبّاس منه شء, لأنّه كان قد حاول في ردّ الأمر إلى غيرهم, فقتل غيلة في ليلة من الليالي عند منصرفه من مجلس أبي العبّاس. (أنظر: المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 298- 299). ولعلّ هذه الرسالة وغيرها كانت من أسباب قتل العبّاسيّين له, وهو صاحب دعوتهم.
23- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 229-230, وفيه مسلم بدل سلمة وهو سهو, فإنّ المعروف بالخلال هو أبو سلمة, وإنّما سمّي بذلك لأنه يسكن درب الخلالين بالكوفة.
24- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام: أعلام الهداية, الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام, ج 8 ص 183.
25- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 6 ص 202- 203, عن المسعوديّ في مروج الذهب ج 3 ص 280- 281 بتصرّف.
26- السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 257.
27- المصدر السابق ص 257- 259.
28- المظفّر الشيخ محمّد الحسين: الإمام الصادق عليه السلام ص 93.
29- المصدر السابق ص 260.
30- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 259.
31- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 184.
32- الصدوق: علل الشرائع ج2 ص 209.
33- القومسيّ لعلّه نسبة إلى موضع, والسحق من الثياب البالي.
34- الطوسيّ: الأمالي ص 50.
35- المظفّر الشيخ محمّد الحسين: الإمام الصادق عليه السلام ص 94. وكان من آثار مجيء الصادق عليه السلام إلى العراق إشادته لموضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام ودلالته خواصّ الشيعة عليه, وهناك آثار كثيرة له عليه السلام في العراق, راجع ص 123 تحت عنوان "الصادق في العراق".
36- في الحاشية على أصول الكافي للسيّد بدر الدّين بن أحمد الحسينيّ العامليّ ص 274: "الأعراق" جمع عرق، وهو الأصل، و "الثرى": الشراب النديّ الذي يخمد النّار لنداوته، فقوله: "أنا ابن أعراق الثرى" معناه أنا ابن من لا تؤثّر فيهم النّار، كما لا تؤثّر في الثرى، على الاستعارة المصرّحة ثمّ أردف ذلك بما لا سبيل إلى إنكاره وهو قوله: "أنا ابن إبراهيم خليل الله".
37- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 473.
38- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 2 ص 763, عنه المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 172- 173.
39- النطع: بساط من الأدم وهو الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب.
40- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 273, عنه المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 162- 163.
عاصر الإمام الصادق عليه السلام نهاية العهد الأمويّ وبداية العهد العبّاسيّ, فكان شاهداً على كلا الدولتين.
أمّا حكّام بني أميّة الذين عاصرهم الإمام فهم:
1- هشام بن عبد الملك:
وقد تقدّم في كتاب "باقر العلوم" شيء من الكلام حول بعض ما جرى للإمام وأبيه الإمام الباقر عليه السلام مع هذا الطاغية.
وفي أيّامه استشهد زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام.. وقد حزن عليه الإمام الصادق عليه السلام أشدّ الحزن, فعن حمزة بن حمران، قال: دخلت إلى الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال لي: "يا حمزة، من أين أقبلت؟" قلت له: من الكوفة. قال: فبكى عليه السلام حتّى بلّت دموعه لحيته، فقلت له: يا بن رسول الله، ما لك أكثرت البكاء؟ فقال: "ذكرت عمّي زيداً وما صنع به فبكيت". فقلت له: وما الذي ذكرت منه؟ فقال: "ذكرت مقتله، وقد أصاب جبينه سهم، فجاءه ابنه يحيى فانكبّ عليه، وقال له: أبشر يا أبتاه، فإنّك ترد على رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم. قال: أجل يا بني، ثمّ دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجيء به إلى ساقية تجري عند بستان زائدة، فحفر له فيها ودفن، وأجرى عليه الماء وكان معهم غلام سنديّ لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد فأخبره بدفنهم إيّاه، فأخرجه يوسف بن عمر1 فصلبه في الكناسة أربع سنين، ثمّ أمر به فأحرق بالنّار، وذرّي في الرياح، فلعن الله قاتله وخاذله، وإلى الله جلّ اسمه أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيّه بعد موته، وبه نستعين على عدوّنا، وهو خير مستعان"2 .
وكانت أيّام هشام شديدة الصعوبة على الناس حتّى قيل: لم يُرَ زمان أصعب من زمانه3 .
2- الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
الخليفة الفاسق- كما يسمّيه السيوطيّ- كان فاسقاً, شرِّيباً للخمر, منتهكاً حرمات الله, أراد الحجّ ليشرب فوق ظهر الكعبة4 , وكان صاحب لهو وطرب وسماع للغناء, وهو أوّل من حمل المغنّين من البلدان إليه, وجالس الملهين, وأظهر الشرب والملاهي والعزف5 .. فمقته الناس لفسقه, وخرجوا عليه (مع يزيد الناقص كما سيأتي)..ولمّا حوصر قال: ألم أزد في أعطيتكم؟ ألم أرفع عنكم المؤن؟ ألم أعطِ فقراءكم؟ فقالوا: ما ننقم عليك في أنفسنا, لكن ننقم عليك انتهاك ما حرّم الله, وشرب الخمر, ونكاح أمّهات أولاد أبيك, واستخفافك بأمر الله. ولمّا قتل وقطع رأسه وجيء به يزيدَ الناقص نصبه على رمح, فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد, فقال: بُعداً له! أشهد أنّه كان شروباً للخمر, ماجناً, فاسقاً, ولقد راودني على نفسي!6 .
وقرأ ذات يوم: ﴿وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيد﴾ٍ فدعا بالمصحف فنصبه غَرَضاً للنشّاب, وأقبل يرميه وهو يقول:
تَوَعَّدَ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ
إِذَا مَا جِئْتَ رَبَّكَ يَوْمَ حَشْرٍ
فَهَا أَنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ
فَقُلْ يَا رَبِّ خَرَّقَنِي الوَلِيدُ
وعن المبرِّد النحويّ أنّ الوليد أَلحد في شِعرٍ له ذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, وأنّ الوحي لم يأته من ربّه, كذب أخزاه الله!! من ذلك الشعر:
تَلَعَّبَ بالخلافة هاشميٌّ
فَقُلْ لِلَّهِ يَمْنَعُنِي طَعَامِي
بِلَا وَحْيٍ أَتَاهُ وَلَا كِتَابِ
وَقُلْ لِلَّهِ يَمْنَعُنِي شَرَابِي!
فلم يمهل بعد قوله هذا إلّا أيّاماً حتّى قتل7 .
وفي أيّامه ظهر يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام بالجوزجان من بلاد خراسان, منكراً للظلم وما عمَّ الناس من الجور, فسار إليه نصرُ بن سيّار في جيش ضخم, والتحم الفريقان, واستشهد يحيى في هذه المعركة سنة 125هـ 8.
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ آل أبي سفيان قتلوا الحسين بن عليّ عليهما السلام فنزع الله ملكهم, وقتل هشام زيد بن عليّ فنزع الله ملكه, وقتل الوليد يحيى بن زيد فنزع الله ملكه على قتله ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"9 .
3- يزيد بن الوليد بن عبد الملك:
وهو المعروف بيزيد الناقص, لأنّه نقص الجند من أعطيتهم. وكان قد وثب على الخلافة وقتل ابن عمّه الوليد وتملّك, ولم يمتَّع بالخلافة بل مات في عامه, لأشهر مضت من خلافته10 .
4- إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك:
وهو أخو يزيد الناقص, قام بالأمر من بعده, فبايعه الناس أربعة أشهر, وقيل: شهران, ثمّ خُلع, وكانت أيّامه عجيبة الشأن من كثرة الهرج والاختلاط, واختلاف الكلمة, وسقوط الهيبة11
خرج عليه مروان بن محمّد بن مروان, فهرب إبراهيم من دمشق, ثمّ ظفر به مروان فقتله وصلبه, وقتل من مالأه ووالاه, وبدأ أمر بني أميّة يؤول إلى ضعف12 .
5- مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم:
آخر خلفاء بني أميّة, أبو عبد الملك, المعروف بمروان الحمار, قيل: لأنّه كان لا يجفّ له لبد13 في محاربة الخارجين عليه, كان يصل السير بالسير, ويصبر على مكاره الحرب, ويقال في المثل: فلان أصبر من حمار في الحروب, فلذلك لقّب به. وقيل: لأنّ العرب تسمّي كلّ مائة سنة حماراً, فلمّا قارب ملك بني أميّة مائة سنة لقّبوا مروان بالحمار لذلك14 .
ولم يتهنَّ بالخلافة لكثرة من خرج عليه من كلّ جانب إلى أن خرج عليه بنو العبّاس وعليهم عبد الله بن عليّ عمُّ السفّاح, وسار لحربه فالتقى الجمعان في الموصل, فانكسر مروان, فرجع إلى الشام, فتبعه عبد الله, ففرّ مروان إلى مصر, فتبعه أخوه صالح فالتقيا بقرية بُوصِير, فقتل مروان بها وقطع رأسه ووجه به إلى عبد الله بن عليّ15 .
بداية العهد العبّاسيّ:
وبهذا أسدل الستار على الحكم الأمويّ الذي دام ألف شهر16 , لتنتهي بذلك حقبة مظلمة من تاريخ هذه الأمّة, سوّدت وجه التاريخ ظلماً وقتلاً وتشريداً وقهراً, ممّا يطول تعداده وحصره.
ليبدأ ثمّة حكم جديد يتزعّمه بنو العبّاس الذين خرجوا يستنهضون الأمّة بشعار الرضا من آل محمّد, يعاونهم العلويّون في شتّى الأقطار والولايات حتّى استتبّ لهم الملك..
فما لبثوا أن انقلبوا على العلويّين يوسعونهم قتلاً، وعسفاً وتشريداً، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب، التي لم تكن لتخطر على قلب بشر، بهدف استئصالهم من الوجود، ومحو آثارهم، ليصفو لهم الجوّ، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم, أو بالأحرى حتّى لا يبقى مَن مِن شأنه ذلك. حتّى لقد نسي الناس فعال بني أميّة معهم، عندما رأوا فعال بني العبّاس بهم. وحتّى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول:
تَاللهِ مَا فَعَلَتْ أُمَيَّةُ فِيهِمُ مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بَنُو العَبَّاسِ
وقال آخر في زمن السفّاح:
يَا لَيْتَ جَوْرَ بَنِي مَرْوَانَ دَامَ لَنَا وَلَيْتَ عَدْلَ بَنِي العَبَّاسِ في النَّارِ 17
وقد كان الإمام الصادق عليه السلام على علمٍ بما ستؤول إليه الأمور, وما تستتر خلفه هذه الشعارات واللافتات من نيَّات وأهداف خدعوا بها هذه الأمّة, ومن هنا لم يستدرج الإمام عليه السلام إلى مثل هذه الدعوات, بل كان يحذّر منها أيضاً, لكنّه أعطى ملامح الخطّ السياسيّ الذي كان ينسجم مع تلك المرحلة, دون أن يكون ذلك على حساب الجهاد ضدّ الأمويّين, والإطاحة بملكهم وسلطانهم18 .
ولهذا نجد أنّ الإمام كان يحذّر بني عمّه الإمام الحسن عليه السلام أن يغترّوا ببعض هذه الدعوات الكاذبة والخادعة, فقد روى الشيخ المفيد رحمه الله: أنّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء19 ، وفيهم إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن عليّ، وعبد الله بن الحسن، وابناه محمّد وإبراهيم، ومحمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان, فقال صالح بن عليّ: قد علمتم أنّكم الذين يمدّ الناس إليهم أعينهم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إيّاها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتّى يفتح الله وهو خير الفاتحين. فحمد الله عبد الله بن الحسن وأثنى عليه ثمّ قال: قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهديّ، فهلمّ فلنبايعه. قال أبو جعفر: لأيّ شيء تخدعون أنفسكم؟ والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور20 أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى- يريد به محمّد بن عبد الله-.
قالوا: قد- والله- صدقت، إنّ هذا الذي نعلم. فبايعوا محمّداً جميعاً ومسحوا على يده. قال عيسى: وجاء رسول عبد الله بن حسن إلى أبي: أن ائتنا فإنّا مجتمعون لأمر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام. وقال غير عيسى: إنّ عبد الله بن الحسن قال لمن حضر: لا تريدوا جعفراً، فإنّا نخاف أن يفسد عليكم أمركم. قال عيسى بن عبد الله بن محمّد: (فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له، فجئتهم) ومحمّد بن عبد الله يصلّي على طنفسة رحل مثنيّة فقلت لهم: أرسلني أبي إليكم أسألكم لأيّ شيء اجتمعتم؟ فقال عبد الله: اجتمعنا لنبايع المهديّ محمّد بن عبد الله.
قال: وجاء جعفر بن محمّد فأوسع له عبد الله بن حسن إلى جنبه، فتكلّم بمثل كلامه.
فقال جعفر: "لا تفعلوا، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد، إن كنت ترى- يعني عبد الله- أنّ ابنك هذا هو المهديّ، فليس به ولا هذا أوانه، وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنّا والله لا ندعك - وأنت شيخنا - ونبايع ابنك في هذا الأمر". فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ووالله ما أطلعك الله على غيبه، ولكنّه يحملك على هذا الحسد لابني. فقال: "والله ما ذاك يحملني، ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم", وضرب بيده على ظهر (أبي العبّاس) ثمّ ضرب بيده على كتف عبد الله بن حسن وقال: "إنّها - والله - ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم، وإنّ ابنيك لمقتولان", ثمّ نهض وتوكّأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهريّ فقال: " أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟" يعني (أبا جعفر) فقال له: نعم، فقال: "إنّا والله نجده يقتله", قال له عبد العزيز: أيقتل محمّداً؟ قال: "نعم".
فقلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة! قال: ثمّ والله ما خرجت من الدنيا حتّى رأيته قتلهما. قال: فلمّا قال جعفر ذلك ونهض القوم وافترقوا، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد الله أتقول هذا؟ قال: "نعم، أقوله- والله- وأعلمه"..
وكان جعفر بن محمّد عليهما السلام إذا رأى محمّد بن عبد الله بن حسن تغرغرت عيناه، ثمّ يقول: "بنفسي هو، إنّ الناس ليقولون فيه، وإنّه لمقتول، ليس هو في كتاب عليّ من خلفاء هذه الأمّة"21 .
كما أنّ الإمام الصادق عليه السلام رفض العروض الكثيرة التي كانت تعرض عليه, من ذلك عرض أبي سلمة الخلّال22 الذي أرسل إليه كتاباً, فقرأه الإمام عليه السلام ثمّ وضعه على المصباح فحرقه, فقال له الرسول- وظنّ أن حرقه له تغطية وستر وصيانة للأمر- : هل من جواب؟ فقال عليه السلام: "الجواب ما قد رأيت"23.
وفيه يقول أبو هريرة الآبار صاحب الصادق عليه السلام:
لِيَثْنِي عَلَيْهِ عَزْمَهُ بِصَوَابِ
بِحَرْقِ كِتَابٍ دُونَ رَدِّ جَوَابِ
وَلَا مُلْبِساً مِنْهَا الرَّدَى بِثَوَابِ
دَلِيلٌ إِلَى خَيْرٍ وَحُسْنِ مَآبِ
وَلَمَّا دَعَا الدَّاعُونَ مَوْلَايَ لَمْ يَكُنْ
وَلَمَّا دَعَوْهُ بِالكِتَابِ أَجَابَهُمْ
وَمَا كَانَ مَوْلَايَ كَمُشْرِي ضَلَالَةٍ
وََلكِنَّهُ لِلَّهِ في الأَرْضِ حُجَّةٌ
وقد كان أبو سلمة لمّا قتل إبراهيم (المعروف بالإمام) خاف انتقاض الأمر وفساده عليه, فبعث بمحمّد بن عبد الرحمن بن أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وكتب معه كتابين على نسخة واحدة إلى أبي عبد الله جعفر الصادق وإلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ يدعو كلّ واحد منهما إلى الشخوص إليه, فأمّا الصادق عليه السلام فلقيه الرسول ليلاً فأعلمه أنّه رسول أبي سلمة ودفع إليه كتابه فقال له أبو عبد الله: "وما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري؟!" فقال له: إنّي رسول فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت, فوضع كتاب أبي سلمة على السراج حتّى احترق, وقال: "عرّف صاحبك بما رأيت", وتمثّل بقول الكميت:
فَيَا مُوقِداً نَاراً لِغَيْرِكَ ضَوْؤُهَا وَيَا حَاطِباً في غَيْرِ حَبْلِكَ تَحْطِبُ
فخرج الرسول من عنده وأتى عبد الله بن الحسن فقرأ الكتاب وابتهج, وجاء في غد ذلك اليوم إلى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق وكان أبو عبد الله أسنّ من عبد الله, فقال: "يا أبا محمّد أمرٌ ما أتى بك", قال: نعم وهو أجلّ من أن يوصف, هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما قبله, وقد تقدّمت عليه شيعتنا من أهل خراسان, فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "يا أبا محمّد, ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟ أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟ وأنت أمرته بلبس السواد؟ وهؤلاء الذين قدموا العراق, أنت كنت سبب قدومهم أو وجَّهت فيهم؟ وهل تعرف أحداً منهم؟" فنازعه عبد الله الكلام إلى أن قال: إنّما يريد القوم ابني محمّداً لأنّه مهديّ هذه الأمّة, فقال أبو عبد الله: "والله ما هو مهديّ هذه الأمّة, ولئن شهر نفسه ليقتلن", فنازعه عبد الله القول حتّى قال له: والله ما يمنعك من ذلك إلّا الحسد, فقال أبو عبد الله: "والله ما هذا إلّا نصح منّي لك, ولقد كتبإليّ أبو سلمة بمثل ما كتب به إليك فلم يجد عندي رسوله ما وجد عندك, ولقد أحرقت كتابه من قبل أن أقرأه". وفي نصٍ آخر عن الصادق عليه السلام: أنّه قال له: "قد علم الله أنّي أوجب النصيحة على نفسي لكلّ مسلم, فكيف أدّخره عنك, فلا تمنّ نفسك بالأباطيل, فإنّ الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد جاءني مثل الكتاب الذي جاءك"24 , فانصرف عبد الله مغضباً ولم يصل رسول أبي سلمة إليه حتّى بويع السفّاح بالخلافة.. .25
مع بني العبّاس:
1- أبو العبّاس عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس:
المعروف بالسفّاح- لكثرة ما سفك من الدماء- وهو أوّل خلفاء بني العبّاس وملوكهم, وكان أصغر من أخيه المنصور. وإنّما آلت إليه الخلافة, لأنّ أباه محمّد بن عليّ كان قد بدأ دعوة بني العبّاس من خراسان عندما أرسل رجلاً إليها وأمره أن يدعو إلى الرضا من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسمّي أحداً باسمه, ثمّ وجّه أبا مسلم الخراسانيّ وغيره وكتب إلى النقباء فقبلوا كتبه, ثمّ لم ينشب أن مات محمّد, فعهد إلى ابنه إبراهيم, فبلغ خبره مروان (الحمار) فسجنه, ثمّ قتله, فعهد إلى أخيه عبد الله وهو السفّاح, ثمّ كان من أمره وقتله لمروان ما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً26 .
وقتل في مبايعة السفّاح من بني أميّة وجندهم ما لا يحصى من الخلائق, وتوطَّدت له الممالك إلى أقصى المغرب. قالوا: وكان السفّاح سريعاً إلى سفك الدماء, فأتبعه عمّاله في المشرق والمغرب27 .
وكانت أيّام السفّاح أربع سنين, ولم يشغله تطهير الأرض من بني أميّة عن الإمام الصادق عليه السلام, لعلمه بما له من المنزلة والمقام, وحذراً من أن يتّجه الناس إليه فأرسل عليه من المدينة إلى الحيرة ليفتك به, لكنّ الله تعالى حفظه وأنجاه28 .
2- أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس:
المعروف بالمنصور, والدوانيقيّ, وكان في غاية الحرص والبخل فلقّب "أبو الدوانيق" لمحاسبته العمّال والصنّاع على الدوانيق والحبّات.
تولّى الخلافة في أوّل سنة 137 للهجرة, فأوّل ما فعله أن قتل أبا مسلم الخراسانيّ صاحب دعوتهم وممهِّد دولتهم29 . قتل خلقاً كثيراً حتّى استقام ملكه, وهو الذي ضرب أبا حنيفة على القضاء ثمّ سجنه فمات بعد أيّام, وقيل: إنّه قتله بالسمّ لكونه أفتى بالخروج عليه, وآذى خلقاً كثيراً من العلماء قتلاً وضرباً, وأخذ يتتبّع آل أبي طالب ويقتلهم شرَّ قتلة30 , بما لا يسع المجال لذكره.
وقد كان للإمام الصادق عليه السلام مع المنصور وولاته مواقف عديدة نشير لبعضها:
روي أنّ المنصور كتب إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه: "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟!", قال: فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا فأجابه: "من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك"، فقال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا 31.
وعن الربيع صاحب المنصور قال: قال المنصور يوماً لأبي عبد الله عليه السلام وقد وقع على المنصور ذباب فذبّه عنه ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه، فقال: يا أبا عبد الله لأيّ شيء خلق الله تعالى الذباب؟ قال: "ليذلّ به الجبّارين"32 .
وعن عبد الله بن سليمان التميميّ، قال: لمّا قتل محمّد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن صار إلى المدينة رجل يقال له "شبّة بن عقال" ولّاه المنصور على أهلها، فلمّا قدمها وحضرت الجمعة صار إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، إنّ عليّ بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين، وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه من أهله، فحرمه الله أمنيته وأماته بغصّته، وهؤلاء ولده يتّبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له، فهم في نواحي الأرض مقتّلون وبالدماء مضرّجون. قال: فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف، فقام إليه رجل عليه إزار قومسيّ سحق33 فقال: "فنحن نحمد الله ونصلّي على محمّد خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى وأحرى، يا من ركب غير راحلته، وأكل غير زاده ارجع مأزوراً، ثمّ أقبل على الناس فقال: ألا أنبّئكم بأخفّ الناس يوم القيامة ميزاناً، وأبينهم خسراناً؟ من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا الفاسق". فأسكت الناس، وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف، فسألت عن الرجل فقيل لي: هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم 34.
محنة الإمام عليه السلام مع المنصور:
وكان بين ولاية المنصور وشهادة الإمام الصادق عليه السلام اثنتا عشرة سنة, لم يجد فيها الإمام راحة ولا هدوءاً على ما بينهما من البُعد الشاسع, فالإمام في الحجاز والمنصور في العراق, ومع ذلك فقد كان يتعاهده بالأذى. يقول السيّد ابن طاووس رحمه الله: إنّ المنصور دعا الصادق عليه السلام سبع مرّات, كان بعضها في المدينة والربذة حين حجَّ المنصور, وبعضها يرسل إليه إلى الكوفة, وبعضها إلى بغداد, وما كان يرسل عليه مرّة إلّا ويريد فيها قتله! هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول35 .
ونحن لا يسعنا ذكر هذه الأمور بالتفصيل لكن نشير إلى بعض ما لاقاه الإمام من هذه المحن والمصائب:
فعن المفضّل بن عمر قال: وجّه أبو جعفر المنصور إلى الحسن بن زيد وهو واليه على الحرمين أن أحرق على جعفر بن محمّد داره، فألقى النّار في دار أبي عبد الله فأخذت النّار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله عليه السلام يتخطّى النّار ويمشي فيها ويقول: أنا ابن أعراق الثرى36 أنا ابن إبراهيم خليل الله عليه السلام37 .
وروي عن الرضا، عن أبيه عليهما السلام قال: جاء رجل إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام فقال: انج بنفسك، فهذا فلان بن فلان قد وشى بك إلى المنصور وذكر أنّك تأخذ البيعة لنفسك على الناس، لتخرج عليهم. فتبسّم وقال: "يا عبد الله لا تُرَعْ، فإنّ الله إذا أراد إظهار فضيلة كتمت أو جحدت أثار عليها حاسداً باغياً يحرّكها حتّى يبيّنها، اقعد معي حتّى يأتي الطلب فتمضي معي إلى هناك، حتّى تشاهد ما يجري من قدرة الله التي لا معدل لها عن مؤمن". فجاء الرسول وقال: أجب أمير المؤمنين. فخرج الصادق عليه السلام ودخل، وقد امتلأ المنصور غيظاً وغضباً، فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك على المسلمين تريد أن تفرّق جماعتهم، وتسعى في هلكتهم، وتفسد ذات بينهم؟
فقال الصادق عليه السلام: "ما فعلت شيئاً من هذا", قال المنصور: فهذا فلان يذكر أنّك فعلت كذا، وأنّه أحد من دعوته إليك. فقال: "إنّه لكاذب". قال المنصور: إنّي أحلفه، فإن حلف كفيت نفسي مؤنتك. فقال الصادق عليه السلام: "إنّه إذا حلف كاذباً باء بإثم". فقال المنصور لحاجبه: حلّف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا- يعني الصادق عليه السلام-. فقال له الحاجب: قل: والله الذي لا إله إلّا هو، وجعل يغلظ عليه اليمين. فقال الصادق عليه السلام: "لا تحلّفه هكذا، فإنّي سمعت أبي يذكر عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إنّ من الناس من يحلف كاذباً فيعظِّم الله في يمينه، ويصفه بصفاته الحسنى، فيأتي تعظيمه لله على إثمّ كذبه ويمينه (فيؤخّر عنه البلاء)، ولكن دعني أحلّفه باليمين التي حدّثني بها أبي، عن جدّي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لا يحلف بها حالف إلّا باء بإثمه". فقال المنصور: فحلّفه إذاً يا جعفر!
فقال الصادق عليه السلام للرجل: "قل إن كنت كاذباً عليك فقد برئت من حول الله وقوّته ولجأت إلى حولي وقوّتي". فقالها الرجل. فقال الصادق عليه السلام: "أللهمّ إن كان كاذباً فأمته". فما استتمّ كلامه حتّى سقط الرجل ميّتاً، واحتمل، ومضي به، وسري عن المنصور، وسأله عن حوائجه. فقال عليه السلام: "ليس لي حاجة إلّا إلى الله، والإسراع إلى أهلي، فإنّ قلوبهم بي متعلّقة". فقال المنصور: ذلك إليك، فافعل منه ما بدا لك. فخرج من عنده مكرّماً، قد تحيّر فيه المنصور ومن يليه.. .38
وعن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السلام قال: "أرسل أبو جعفر الدوانيقيّ إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام ليقتله وطرح له سيفاً ونطعا ً 39 وقال للربيع: إذا أنا كلّمته ثمّ ضربت بإحدى يديّ على الأخرى فاضرب عنقه, فلمّا دخل جعفر بن محمّد عليه السلام ونظر إليه من بعيد يحرّك شفتيه وأبو جعفر على فراشه وقال: مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد الله ما أرسلنا إليك إلّا رجاء أن نقضي دينك ونقضي ذمامك ثمّ ساءله مساءلة لطيفة عن أهل بيته, وقال: قد قضى الله دينك وأخرج جائزتك يا ربيع لا تمضينَّ ثالثة حتّى يرجع جعفر إلى أهله فلمّا خرج قال له الربيع: يا أبا عبد الله أرأيت السيف إنّما كان وضع لك والنطع فأيّ شيء رأيتك تحرّك به شفتيك؟ قال جعفر عليه السلام: نعم يا ربيع لمّا رأيت الشرّ في وجهه قلت: حسبي الربّ من المربوبين وحسبي الخالق من المخلوقين وحسبي الرازق من المرزوقين وحسبي الله ربّ العالمين حسبي من هو حسبي, حسبي من لم يزل حسبي, حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم"40 .
*صادق العترة, سلسلة مجالس العترة, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- والي العراق آنذاك.
2- الصدوق: الأمالي ص 477, والحديث عن زيد وثورته طويل لا يسعه هذا المختصر.
3- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الإثنا عشر سيرة وتاريخ ج 1 ص 601.
4- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 250.
5- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 237.
6- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 250- 251.
7- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 240- 241.
8- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: سيرة الأئمّة الإثني عشر سيرة وتاريخ ج 1 ص 601.
9- الصدوق: ثواب الأعمال ص 261.
10- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 252- 253.
11- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 244.
12- المصدر السابق ج 3 ص 251.
13- اللبد: بساط من صوف أو غيره يجعل على ظهر الفرس.
14- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 254- 255.
15- المصدر السابق ص 257.
16- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 259.
17- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 95- 96.
18- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام: أعلام الهداية, الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام, ج 8 ص 84.
19- منطقة بين مكّة والمدينة.
20- الصَّوَر: الميل.
21- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 190- 193. ولاحظ: الأصفهانيّ أبو الفرج: مقاتل الطالبيّين ص 184 وما بعدها.
22- وهو حفص بن سليمان, أوّل من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العبّاس, فكان يدعى وزير آل محمّد, وهو غير أبو مسلم الخراسانيّ الذي كان يدعى بأمين آل محمّد, وكان في نفس أبي العبّاس منه شء, لأنّه كان قد حاول في ردّ الأمر إلى غيرهم, فقتل غيلة في ليلة من الليالي عند منصرفه من مجلس أبي العبّاس. (أنظر: المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 298- 299). ولعلّ هذه الرسالة وغيرها كانت من أسباب قتل العبّاسيّين له, وهو صاحب دعوتهم.
23- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 229-230, وفيه مسلم بدل سلمة وهو سهو, فإنّ المعروف بالخلال هو أبو سلمة, وإنّما سمّي بذلك لأنه يسكن درب الخلالين بالكوفة.
24- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام: أعلام الهداية, الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام, ج 8 ص 183.
25- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 6 ص 202- 203, عن المسعوديّ في مروج الذهب ج 3 ص 280- 281 بتصرّف.
26- السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 257.
27- المصدر السابق ص 257- 259.
28- المظفّر الشيخ محمّد الحسين: الإمام الصادق عليه السلام ص 93.
29- المصدر السابق ص 260.
30- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 259.
31- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 184.
32- الصدوق: علل الشرائع ج2 ص 209.
33- القومسيّ لعلّه نسبة إلى موضع, والسحق من الثياب البالي.
34- الطوسيّ: الأمالي ص 50.
35- المظفّر الشيخ محمّد الحسين: الإمام الصادق عليه السلام ص 94. وكان من آثار مجيء الصادق عليه السلام إلى العراق إشادته لموضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام ودلالته خواصّ الشيعة عليه, وهناك آثار كثيرة له عليه السلام في العراق, راجع ص 123 تحت عنوان "الصادق في العراق".
36- في الحاشية على أصول الكافي للسيّد بدر الدّين بن أحمد الحسينيّ العامليّ ص 274: "الأعراق" جمع عرق، وهو الأصل، و "الثرى": الشراب النديّ الذي يخمد النّار لنداوته، فقوله: "أنا ابن أعراق الثرى" معناه أنا ابن من لا تؤثّر فيهم النّار، كما لا تؤثّر في الثرى، على الاستعارة المصرّحة ثمّ أردف ذلك بما لا سبيل إلى إنكاره وهو قوله: "أنا ابن إبراهيم خليل الله".
37- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 473.
38- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 2 ص 763, عنه المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 172- 173.
39- النطع: بساط من الأدم وهو الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب.
40- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 273, عنه المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 162- 163.