مع حكام عصره
عاصر الإمام الكاظم عليه السلام العديد من الحكّام العبّاسيّين الطغاة، خلال فترة إمامته التي امتدّت حوالى خمس وثلاثين سنة، وهم على الشكل التالي:
أبو جعفر المنصور.
محمّد المهديّ.
موسى الهادي.
هارون الرشيد.
وبالرغم من تفاوت أذواق هؤلاء وأساليبهم في العمل، فقد كانوا متّفقين على عداء الطالبيّين ومعاملتهم بالقسوة والغلظة، ومطاردتهم في كلّ حدب وصوب1.
ونحن نشير ها هنا إلى بعض ما روي من أحداث جرت بين الإمام عليه السلام وحكّام عصره:
مع أبي جعفر المنصور:
وقد تناولنا في كتابنا "صادق العترة" شيئاً عن حياته وعن معاناة الإمام الصادق عليه السلام معه، ولكنّه لم يتعرّض ظاهراً للإمام الكاظم عليه السلام 2، ولعلّ ذلك يعود إلى بعض الأسباب التي انتهجها الأئمّة عليهم السلام في التعاطي مع أمثال هذه الظروف القاسية:
منها: أسلوب النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام: فلقد كان الإمام الصادق عليه السلام لا سيّما في أواخر عمره الشريف يتحاشى الصراحة في النص على إمامة ولده الكاظم عليه السلام إلّا لخواصّ أصحابه، وذلك خوفاً من السلطات الحاكمة التي كانت تراقبه أشدّ المراقبة في السنين الأخيرة من حياته المباركة، كما تؤكّد ذلك مواقف المنصور معه واهتمامه بمعرفة وصيّه عندما بلغه نبأ وفاته عليه السلام، فقد دعا أبو جعفر المنصور في جوف الليل أبا أيوب الخوزيّ، فلمّا أتاه رمى كتاباً إليه، وقال: هذا كتاب محمّد بن سليمان يخبرنا بأنّ جعفر بن محمّد قد مات، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وأين مثل جعفر! ثمّ قال له: اكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدّمه واضرب عنقه، فكتب وعاد الجواب: قد أوصى إلى خمسة أحدهم أبو جعفر المنصور، ومحمّد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، وحميدة. قال المنصور: ما إلى قتل هؤلاء سبيل.
وفي رواية (أخرى): أوّلهم أبو جعفر المنصور، ثمّ عبد الله، وموسى، ومحمّد بن جعفر، ومولى لأبي عبد الله.
ويبدو من وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لهؤلاء الخمسة أنّه كان يقدّر حراجة الموقف ويخاف على خليفته من أولئك الطغاة، فصاغ وصيّته على هذا النحو، وأخبر ثقات أصحابه بخليفته الشرعيّ، وأوصاهم بالكتمان حتّى عن عامّة الشيعة ريثما يتهيّأ الجوّ المناسب لذلك3.
ولم يكن أسلوب الإمام الصادق عليه السلام في النص على ولده الكاظم عليه السلام ليخفى على النابهين والواعين من أصحابه، فقد ورد عن داود بن كثير الرقّي أنّه قال: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر واجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً و مسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة فنزل وزار أمير المؤمنين عليه السلام ورأى في ناحية رجلاً وحوله جماعة، فلمّا فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء ويسمعون من الشيخ فسألهم عنه، فقالوا: هو أبو حمزة الثماليّ، قال: فبينا نحن جلوس إذ أقبل أعرابيّ، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمّد عليهما السلام، فشهق أبو حمزة وضرب بيده الأرض، ثمّ سأل الأعرابيّ: هل سمعت له بوصيّة؟ قال: أوصى إلى ابنه عبد الله، وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور، فقال أبو حمزة: الحمد لله الذي لم يضلّنا، دلّ على الصغير، ومنَّ على الكبير وستر الأمر العظيم، ووثب إلى قبر أمير المؤمنين فصلّى وصلّين، ثمّ أقبلت عليه وقلت له: فسِّر لي ما قلته؟ فقال: بيَّن أنّ الكبير ذو عاهة، ودلَّ على الصغير بأن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر بالمنصور، حتّى إذا سأل المنصور من وصيّه؟ قيل أنت4.
ومنها: أسلوب التقيّة الذي اتّبعه الإمام الكاظم عليه السلام وأصحابه معه، حيث نجدهم يكنّون عن الإمام في رواياتهم بقولهم، قال العبد الصالح، أو قال السيّد، أو قال العالم، أو قال أبو الحسن5 ، ونحو ذلك من التعابير التي توحي بالجوّ الخانق الذي كان يحيط بالإمام عليه السلام، خصوصاً في عصر هذا الطاغية المنصور، فإنّه بعد قتله للإمام الصادق عليه السلام بالسمّ، وقضائه على الثورات العلويّة في زمانه، لم يغيّر من سياسته ضدّ العلويّين، بل بقي هاجس القلق والخوف يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمرّ في اضطهادهم، فزجّ الأبرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض أحياء في أسطوانات البناء، وبثَّ الجواسيس، لأجل أن يحيط علماً بكلّ نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كلّ حركة، كما سمح للتيّارات الإلحاديّة كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامّة الناس لإضلالهم، واستغلّ بعض العلماء لتأييد سياسته وإسباغ الطابع الشرعيّ على حكمه6.
وبالرغم من عدم تعرّض المنصور للإمام عليه السلام ظاهراً فقد حكي- في موقف نادر- : أنّ المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر عليه السلام بالجلوس للتهنئة في بعض المناسبات فاعتذز الإمام عليه السلام عن الجلوس فقال له المنصور: إنّما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم إلّا جلست فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنّؤونه، ويحملون إليه الهدايا و التحف، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السنّ فقال له: يا ابن بنت رسول الله إنّني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن عليّ عليه السلام:
عَجِبْتُ لِمَصْقُولٍ عَلَاكَ فِرِنْدُهُ7
وَلِأَسْهُمٍ نَفَذَتْكَ دُونَ حَرَائِرٍ
أَلَاْ تَغَضْغَضَتِ8 السِّهَامُ وَعَاقَهَا
يَوْمَ الهِيَاجِ وَقَدْ عَلَاكَ غُبَارُ
يَدْعُونَ جَدَّكَ وَالدُّمُوعُ غِزَارُ
عَنْ جِسْمِكَ الإِجْلَالُ وَالإِكْبَارُ
قال: "قبلت هديتك، اجلس بارك الله فيك"، ورفع رأسه إلى الخادم وقال: "امض إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال، وما يصنع به"، فمضى الخادم وعاد وهو يقول: كلها هبة منّي له، يفعل به ما أراد فقال موسى عليه السلام للشيخ: "اقبض جميع هذا المال فهو هبة منّي لك"9.
وهكذا مرّت هذه الأيّام العصيبة على إمامنا الكاظم عليه السلام، وهو ينأى بنفسه عن التعرّض ظاهراً لهذا الحاكم الظالم، في أجواءٍ من التقيّة الضاغطة، حتّى هلك المنصور وهو في طريقه إلى مكّة.
فعن عليّ بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى عليه السلام يقول: "لا والله، لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً". فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا، فلم يلبث أن خرج، فلمّا بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت: لا والله، لا يرى بيت الله أبداً. فلمّا صار إلى البستان اجتمعوا أيضاً إليّ فقالوا: بقي بعد هذا شيء؟! قلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً. فلمّا نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسن عليه السلام فوجدته في المحراب، قد سجد فأطال السجود، ثمّ رفع رأسه إليّ فقال: "اخرج فانظر ما يقول الناس". فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر، فرجعت فأخبرته فقال: "ألله أكبر، ما كان ليرى بيت الله أبداً"10.
مع المهديّ العبّاسيّ:
وهو أبو عبد الله، محمّد بن المنصور، المعروف بالمهديّ، وقد افتتح عهده بالتحبّب إلى الخاصّ والعامّ، والنظر في المظالم، والكفّ عن القتل، وأمن الخائف وإنصاف المظلوم، وبسط يده في الإعطاء فأذهب جميع ما خلّفه المنصور11.
وقد استغلّ الإمام الكاظم هذه الأجواء والظروف، فبدأ بالمطالبة بحقّ آل البيت عليهم السلام، والذي كانت فدك ترمز إليه، فعن عليّ بن أسباط أنّه قال: لمّا ورد أبو الحسن موسى عليه السلام على المهديّ رآه يردّ المظالم فقال: "يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد؟" فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: "إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه﴾ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل عليه السلام ربّه فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها السلام، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"- ثمّ ذكر كيفيّة أخذها من السيّدة فاطمة عليها السلام إلى أن قال- فقال له المهديّ: يا أبا الحسن حدَّها لي، فقال: "حدٌّ منها جبل أحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل"، فقال له: كلّ هذا؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كلّه ممّا لم يوجف على أهله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيل ولا ركاب"، فقال: كثير، وأنظر فيه12.
وقد كان المهديّ خليعاً متهتّكاً منشغلاً بالسماع والملاهي والجواري، وكان لا يشرب النبيذ لا تحرّجاً ولكنّه كان ل13 يشتهيه، وكان أصحابه.. ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم14. وكان في أوّل أمره يحتجب عن الندماء تشبيهاً بالمنصور نحواً من سنة، ثمّ ظهر لهم، فأشير عليه أن يحتجب فقال: إنّما اللذة مع مشاهدتهم15.
ويظهر أنّه كان ولعاً بمجالس الشراب حتّى حاول- بزعمه- التشكيك بحرمته، ممّا استدعى تصدّي الإمام الكاظم عليه السلام له، فعن عليّ بن يقطين قال: سأل المهديّ أبا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم له، فقال له أبو الحسن عليه السلام: "بل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ يا أمير المؤمنين"، فقال له: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله جلَّ اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: "قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَق﴾ فأمّا قوله: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ يعني الزنى المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهليّة، وأمّا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ يعني ما نكح من الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه، فحرَّم الله عزَّ وجلَّ ذلك، وأمّا الإثمّ فإنّها الخمرة بعينه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ وفي موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس﴾ فأمّا الإثمّ في كتاب الله فهي الخمرة والميسر، ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَر﴾ كما قال الله تعالى"، قال: فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين هذه والله فتوى هاشميّة، قال: قلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فوالله ما صبر المهديّ أن قال لي: صدقت يا رافضيّ!16.
وكما هو ديدن الخلفاء أن يلجأوا في المعضلات إلى أهل بيت الوحي ومعدن العلم، حينما تعييهم المذاهب والآراء، فقد اتفق للمهديّ هذا الأمر عند توسعته للمسجد الحرام، فعن الحسن بن عليّ بن النعمان أنّه قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا، فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصب، فقال له عليّ بن يقطين: يا أمير المؤمنين لو (إنّي) كتبت إلى موسى بن جعفر عليه السلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبه، فكيف المخرج من ذلك؟ فقال ذلك لأبي الحسن عليه السلام، فقال أبو الحسن عليه السلام: "ولا بدّ من الجواب في هذا؟" فقال له: الأمر لا بدّ منه، فقال له اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها"، فلمّا أتى الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله، ثمّ أمر بهدم الدار، فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه السلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم، فكتب إليه أن: "أرضخ 17لهم شيئاً" فأرضاهم18.
ولم يستطع المهديّ أن يخفي حقده الدفين على الإمام الكاظم عليه السلام، وقام بحبسه وسجنه - والظاهر أنّ هذه كانت بداية محنة الإمام عليه السلام في السجون مع طغاة عصره- ولكنّ الله تعالى أنجاه من بين يديه بلطفه وقدرته19.
وروى في هذا أبو خالد الرمّانيّ، وأبو يعقوب الزباليّ، قال كلّ واحد منهما: استقبلت أبا الحسن بالأَجفُر20 في المَقدمة الأولى على المهديّ، فلمّا خرج ودّعته وبكيت، فقال لي: "ما يبكيك؟" قلت: حملك هؤلاء ولا أدري ما يحدث، قال: فقال لي: "لا بأس عليّ منه في وجهي هذا ولا هو بصاحبي وإنّي لراجع إلى الحجاز ومارٌّ عليك في هذا الموضع راجع، فانتظرني في يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا فإنّك تلقاني راجعاً"، قلت له: خير البشرى لقد خفته عليك، قال: "فلا تخف". فترصّدته ذلك الوقت في ذلك الموضع فإذا بالسواد قد أقبل ومنادٍ ينادي من خلفي، فأتيته فإذا هو أبو الحسن على بغلة له، فقال لي: "إيهاً أبا خالد"، قلت: لبّيك يا ابن رسول الله الحمد لله الذي خلّصك من أيديهم، فقال: "أما إنّ لي عودة إليهم لا أتخلّص من أيديهم!"21.
مع موسى الهادي:
وهو أبو محمّد موسى بن محمّد المعروف بالهادي، وكان يسمّى موسى أطْبِقْ، لأنّ شفته العليا كانت تقلص، فكان أبوه وكَّل به في صغره خادماً كلّما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطْبِقْ، فيفيق على نفسه ويضمّ شفتيه، فشُهِر بذلك22.
كان قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام23 ، يتناول المسكر، ويلعب، جبّار، وهو أوّل من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة والقسيِّ الموترة، فاتّبعه عماله في ذلك، وكثر السلاح في عصره24.
وقد ألحَّ في طلب الطالبيّين، وأخافهم خوفاً شديد، وقطع ما كان المهديّ يجريه لهم من الأرزاق والأعطية، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم25.
محنة شهيد فخّ:
ولمّا اشتدّ خوف العلويّين وكثر من يطلبهم، ويحثّ عليهم، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عليّ عليهما السلام (وأمّه زينب بنت عبد الله بن الحسن)، وقالوا له: أنت رجل أهل بيتك، وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه، فقال: وإنّي وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر، فبايعه خلق كثير ممّن حضر الموسم، فما وافاه إلّا أقل من خمسمائة26..
وبعد أن تغلّب الحسين على المدينة، خرج قاصداً إلى مكّة ومعه من تبعه من أهله ومواليه وأصحابه، وهم زهاء ثلاثمائة، واستخلف رجلاً على المدينة، فلمّا صاروا بفخ27 تلقتهم الجيوش، فعرض على الحسين الأمان والعفو والصلة، فأبى ذلك أشدّ الإباء، فالتقوا للقتال يوم التروية وقت صلاة الصبح حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين، وجعلت المسوّدة تصيح بالحسين: يا حسين لك الأمان فيقول: لا أمان أريد، ويحمل عليهم حتّى قتل، وقتل معه سليمان بن عبد الله بن الحسن، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، وأصابت الحسن بن محمّد نشابة في عينه فتركها وجعل يقاتل أشدّ القتال حتّى أمنوه ثمّ قتلوه.
وجاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعبّاس، وعندهما جماعة من ولد الحسن والحسين فلم يسألا أحداً منهم إلّا موسى بن جعفر عليه السلام فقالا: هذا رأس حسين؟ قال: "نعم إنّا لله وإنّا إليه راجعون مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله، فلم يجيبوه بشيء..".
وروي عن جماعة أن محمّد بن سليمان لمّا حضرته الوفاة جعلوا يلقّنونه الشهادة وهو يقول:
أَلَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ أَكُنْ
لَقِيتُ حُسَيْناً يَوْمَ فَخٍّ وَلَا الحَسَنْ
فجعل يردّدها حتّى مات28.
وأقامت جثّة الحسين ومن قتل معه ثلاثة أيّام، لم يواروا حتّى أكلتهم السباع والطير29.
ولمّا بلغ والي المدينة مقتل الحسين بفخّ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممّن خرج مع الحسين، فهدمها وحرَّق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة30.
وقد رأينا- فيما تقدّم- موقف الإمام عليه السلام من مقتل الحسين شهيد فخّ، بالرغم من أنّه نأى عليه السلام بنفسه عن الدخول بهذا الأمر، لعلمه بما ستؤول إليه الأمور، هذ، من غير أن يخفي حزنه على تلك العصبة العلويّة، فعن عبد الله بن المفضّل مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: لمّا خرج الحسين بن عليّ المقتول بفخّ، واحتوى على المدينة دعا موسى بن جعفر عليهما السلام إلى البيعة فأتاه فقال له: :يا ابن عمّ، لا تكلّفني ما كلّف ابنُ عمّك31 عمَّك أبا عبد الله عليه السلام32 فيخرج منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبد الله عليه السلام ما لم يكن يريد"، فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً فإن أردته دخلت فيه، وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان، ثمّ ودّعه. فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام حين ودّعه: "يا ابن عمّ، إنّك مقتول فأجد الضراب33، فإنّ القوم فساق، يظهرون إيماناً، ويسرّون شركاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون أحتسبكم عند الله من عصبة"، ثمّ خرج الحسين، وكان من أمره ما كان، قتلوا كلّهم كما قال عليه السلام34.
وفي قصيدة دعبل التي أنشدها بمحضر الإمام الرضا عليه السلام:
أَفَاطِمُ قُومِي يَا ابْنَةَ الخَيْرِ وَانْدُبِي
قُبُورٌ بِكُوفَانٍ وَأُخْرَى بِطَيْبَةٍ
نُجُومَ سَمَاوَاتٍ بِأَرْضِ فَلَاتِ
وأُخْرَى بِفَخٍّ نَالَهَا صَلَوَاتِي35
وروي عن أبي جعفر الجواد عليه السلام أنّه قال: "لم يكن لنا بعد الطفّ مصرع أعظم من فخّ"36.
ولمّا قتل الحسين بن عليّ صاحب فخّ وتفرّق الناس عنه، حمل رأسه والأسرى من أصحابه إلى موسى بن المهديّ، ثمّ أمر برجل من الأسرى فوبّخه ثمّ قتله، ثمّ صنع مثل ذلك بجماعة من ولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وأخذ من الطالبيّين، وجعل ينال منهم إلى أن ذكر موسى بن جعفر صلوات الله عليه فنال منه وقال: "والله ما خرج حسين إلّا عن أمره، ولا اتبع إلّا محبّته، لأنّه صاحب الوصيّة في أهل هذا البيت، قتلني الله إن أبقيت عليه"37.
وعن عليّ بن يقطين قال: رفع الخبر إلى موسى بن جعفر عليهما السلام، وعنده جماعة من أهل بيته، بما عزم عليه موسى بن المهديّ في أمره، فقال لأهل بيته: "ما تشيرون؟"، قالوا: نرى أن تتباعد عن هذا الرجل، وأن تغيّب شخصك منه، فإنّه لا يؤمن شرّه. فتبسّم أبو الحسن عليه السلام، ثمّ قال:
زَعَمَتْ سُخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا
ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلَّابِ38
ثمّ رفع عليه السلام يده إلى السماء، فقال: "إلهي، كم من عدوٍّ شَحَذَ لي ظُبَةَ مُديته39 ، وأرهف لي سِنان حدّه، وداف لي قواتل سُمومه، ولم تنم عنّي عين حراسته، فلمّا رأيتَ ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن مُلمّات الجوائح40 ، صرفتَ ذلك عنّي بحولك وقوّتك لا بحولي ولا بقوّتي، فألقيتَه في الحفير الذي احتفره لي، خائباً ممّا أمَّله في دنياه، متباعداً ممّا رجاه في آخرته، فلك الحمد على ذلك قَدر استحقاقك.
سيّدي اللهم فخُذه بعزّتك، وافلُل حدَّه عنّي بقدرتك، واجعل له شُغلاً فيما يليه، وعجزاً عمّن يُناويه، أللهم وأَعْدِني عليه عَدْوىً41 حاضرة، تكون من غيظي شِفاء، ومن حقّي عليه وفاء، وصِل اللهمّ دعائي بالإجابة، وانظِم شَكاتي بالتغيير، وعرّفه عمّا قليل ما وعدتَ الظالمين، وعرّفني ما وعدتَ في إجابة المضطرّين، إنّك ذو الفضل العظيم والمنّ الكريم".
قال: ثمّ تفرّق القوم، فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى بن المهديّ42.
وهكذا انتهت هذه الفترة الصعبة من حياة الإمام الكاظم لتبدأ مرحلة أخرى هي الأشدّ والأصعب في حياة الإمام عليه السلام، وهي عصر الطاغية هارون الرشيد.
مع هارون الرشيد:
وهو أبو جعفر هارون بن المهديّ، وكان مولعاً بالغناء والمغنّين وهو أوّل من جعل لهم مراتب وطبقات، وأوّل خليفة لعب بالصَّوالجة43 والكرة، وأوّل خليفة لعب بالشطرنج من بني العبّاس44.
وكان يشرب الخمر وأدمن عليه، وكان يدعو خواصّ جواريه إذا أراد الشراب، وربّما يتولّى السقاية بنفسه لندمائه45 ، وكان شديد العلاقة أيضاً بالجواري46.
أفضت الخلافة إلى هارون، وزهرت له الدني، واستوسقت له الأمور، ونال من دنياه كلّ ما اشتهى وأراد، وقد عمّ نفوذه على أغلب أنحاء هذه المعمورة حتّى أثر عنه خطابه للسحاب: اذهبي إلى حيث شئت يأتيني خراجك47.
وقد سار على نهج أسلافه ممّن سبقه من الخلفاء فتتبّع العلويّين وأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فملأ منهم السجون، وسفك منهم الدماء، وأذاقهم ألوان الأذى وصنوف العذاب.
محنة الإمام الكاظم عليه السلام مع الرشيد:
لقد كان هارون الرشيد- كغيره من الخلفاء- يعلم بأنّ الإمامة حقّ لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أخفوا هذا الأمر وحاولوا أن يلبسوه على العامّة، فعن الريّان بن شبيب، قال: سمعت المأمون يقول: ما زلت أحبّ أهل البيت عليهم السلام، وأظهر للرشيد بغضهم تقرّباً إليه، فلمّا حجّ الرشيد كنت أنا ومحمّد والقاسم معه، فلمّا كان بالمدينة استأذن عليه الناس، فكان آخر من أذن له موسى بن جعفر عليهما السلام، فدخل، فلمّا نظر إليه الرشيد تحرّك ومدّ بصره وعنقه إليه حتّى دخل البيت الذي كان فيه، فلمّا قرب منه جثا الرشيد على ركبتيه وعانقه، ثمّ أقبل عليه، فقال له: كيف أنت يا أبا الحسن؟ كيف عيالك؟ كيف عيال أبيك؟ كيف أنتم؟ ما حالكم؟ فما زال يسأله عن هذا وأبو الحسن عليه السلام يقول: "خيرٌ خير"، فلمّا قام أراد الرشيد أن ينهض، فأقسم عليه أبو الحسن عليه السلام فقعد، وعانقه وسلَّم عليه وودَّعه.
قال المأمون: وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلمّا خرج أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قلت لأبي: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتك عملت بهذا الرجل شيئاً ما رأيتك فعلت بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار ولا ببني هاشم! فمن هذا الرجل؟ فقال: يا بنيّ، هذا وارث علم النبيّين، هذا موسى بن جعفر بن محمّد، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا...48
وفي رواية أخرى أنّه قال له: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفته على عباده، فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بنيّ إنّه لأحقّ بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّي ومن الخلق جميع، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم49.
ومن هذه الكلمات لولده المأمون يتّضح الخلفية التي كان يتعاطى من خلالها هارون مع الإمام الكاظم عليه السلام، وحجم الخطر الذي كان يشعر به من وجود هذا الإمام العظيم حتّى وهو في غياهب السجون وظلم المطامير.
وهكذا كانت السنون التي قضاها الإمام عليه السلام في عهد الرشيد أسوأ ما مرّ به في حياته، فقد سخَّر الرشيد كافّة أجهزته القمعيّة لمراقبة الإمام والنيل منه واستدعائه أكثر من مرّة إلى بغداد في مطلع خلافته وهو حاقد عليه، وكان يضعه في سجنه ثمّ يأمر بإطلاقه بعد مدّة من الزمن، وأحياناً كان يتظاهر بإكرامه وتعظيمه دجلاً ونفاقاً50.
*كاظم الغيظ، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الاثنا عشر، سيرة وتاريخ، ج 2 ص 42.
2- القمّي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 335.
3- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 37.
4- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 1 ص 328.
5- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ص 68.
6- المصدر السابق ص 63.
7- فرند السيف بكسر الفاء والراء: جوهره ووشيه، وهو ما يرى فيه شبيه مدبّ النمل أو شبه الغبار.
8- التغضغض: الانتقاص والتفرق
9- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318- 319.
10- الحميري: قرب الإسناد ص 337.
11- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 343.
12- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 543.
13- في المصدر إلّا وهو لا يستقيم.
14- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 577.
15- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 276- 277.
16- الكلينيّ: الكافي ج 6 ص 406.
17- أرضخ الرجل: أعطاهم قليلاً من كثير.
18- العيّاشي محمّد بن مسعود: تفسير العياشيّ ج 1 ص 185.
19- الأربلي: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 3، وقال: ورواه الجنابذيّ وذكر أنّه وصله بعشرة آلاف دينار.
20- موضع بين فيد والخزيميّة في طريق مكّة.
21- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 287.
22- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 279.
23- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 356.
24- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 279- 280.
25- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 404.
26- المصدر السابق.
27- فخّ بفتح الفاء وتشديد الخاء بئر بينه وبين مكّة فرسخ تقريباً.
28- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 160- 165.
29- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 358.
30- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4 ص 601.
31- قال العلّامة المجلسيّ: قوله: ما كلّف ابن عمّك، أي محمّد بن عبد الله، وسمّى أبا عبد الله عمّه مجازاً.
32- يعني الإمام الصادق عليه السلام.
33- أي أحسن القتال.
34- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 366.
35- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 248.
36- المصدر السابق ج 48 ص 165.
37- المجلسيّ: بحار الأنوار، ج 48 ص 151.
38- في هامش الأمالي: البيت لكعب بن مالك، وقيل: لحسّان بن ثابت، وسَخينة: لقب قريش، لأنّها كانت تُعاب بأكل السَّخينة، وهي طعام يُتَّخذ من الدقيق، وإنّما يأكلونها في شدَّة الدهر وغلاء السعر.
39- الظبة: حدّ السيف ونحوه، والمُدية: الشَّفرة الكبيرة.
40- الجائحة: المصيبة تحلّ بالرجل في ماله فتجتاحه كلّه.
41- أعداه: نصره وأعانه وقوّاه، والعدوى: طلبك إلى والٍ ليُعديك على من ظلمك، أي ينتقم منه.
42- الصدوق: الأمالي ص 459.
43-الصوالجة: جمع صولجان، وهو عصا يعطف طرفها، يضرب بها الكرة على الدواب، فارسي معرّب.
44- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 295.
45- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر علهما السلام ج 2 ص 67.
46- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 291.
47- القرشيّ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 21.
48- الصدوق: الأمالي ص 458.
49- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 1 ص 85.
50- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة عليهم السلام ج 11 ص 377.
عاصر الإمام الكاظم عليه السلام العديد من الحكّام العبّاسيّين الطغاة، خلال فترة إمامته التي امتدّت حوالى خمس وثلاثين سنة، وهم على الشكل التالي:
أبو جعفر المنصور.
محمّد المهديّ.
موسى الهادي.
هارون الرشيد.
وبالرغم من تفاوت أذواق هؤلاء وأساليبهم في العمل، فقد كانوا متّفقين على عداء الطالبيّين ومعاملتهم بالقسوة والغلظة، ومطاردتهم في كلّ حدب وصوب1.
ونحن نشير ها هنا إلى بعض ما روي من أحداث جرت بين الإمام عليه السلام وحكّام عصره:
مع أبي جعفر المنصور:
وقد تناولنا في كتابنا "صادق العترة" شيئاً عن حياته وعن معاناة الإمام الصادق عليه السلام معه، ولكنّه لم يتعرّض ظاهراً للإمام الكاظم عليه السلام 2، ولعلّ ذلك يعود إلى بعض الأسباب التي انتهجها الأئمّة عليهم السلام في التعاطي مع أمثال هذه الظروف القاسية:
منها: أسلوب النصّ على الإمام الكاظم عليه السلام: فلقد كان الإمام الصادق عليه السلام لا سيّما في أواخر عمره الشريف يتحاشى الصراحة في النص على إمامة ولده الكاظم عليه السلام إلّا لخواصّ أصحابه، وذلك خوفاً من السلطات الحاكمة التي كانت تراقبه أشدّ المراقبة في السنين الأخيرة من حياته المباركة، كما تؤكّد ذلك مواقف المنصور معه واهتمامه بمعرفة وصيّه عندما بلغه نبأ وفاته عليه السلام، فقد دعا أبو جعفر المنصور في جوف الليل أبا أيوب الخوزيّ، فلمّا أتاه رمى كتاباً إليه، وقال: هذا كتاب محمّد بن سليمان يخبرنا بأنّ جعفر بن محمّد قد مات، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وأين مثل جعفر! ثمّ قال له: اكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدّمه واضرب عنقه، فكتب وعاد الجواب: قد أوصى إلى خمسة أحدهم أبو جعفر المنصور، ومحمّد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، وحميدة. قال المنصور: ما إلى قتل هؤلاء سبيل.
وفي رواية (أخرى): أوّلهم أبو جعفر المنصور، ثمّ عبد الله، وموسى، ومحمّد بن جعفر، ومولى لأبي عبد الله.
ويبدو من وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لهؤلاء الخمسة أنّه كان يقدّر حراجة الموقف ويخاف على خليفته من أولئك الطغاة، فصاغ وصيّته على هذا النحو، وأخبر ثقات أصحابه بخليفته الشرعيّ، وأوصاهم بالكتمان حتّى عن عامّة الشيعة ريثما يتهيّأ الجوّ المناسب لذلك3.
ولم يكن أسلوب الإمام الصادق عليه السلام في النص على ولده الكاظم عليه السلام ليخفى على النابهين والواعين من أصحابه، فقد ورد عن داود بن كثير الرقّي أنّه قال: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر واجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً و مسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة فنزل وزار أمير المؤمنين عليه السلام ورأى في ناحية رجلاً وحوله جماعة، فلمّا فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء ويسمعون من الشيخ فسألهم عنه، فقالوا: هو أبو حمزة الثماليّ، قال: فبينا نحن جلوس إذ أقبل أعرابيّ، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمّد عليهما السلام، فشهق أبو حمزة وضرب بيده الأرض، ثمّ سأل الأعرابيّ: هل سمعت له بوصيّة؟ قال: أوصى إلى ابنه عبد الله، وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور، فقال أبو حمزة: الحمد لله الذي لم يضلّنا، دلّ على الصغير، ومنَّ على الكبير وستر الأمر العظيم، ووثب إلى قبر أمير المؤمنين فصلّى وصلّين، ثمّ أقبلت عليه وقلت له: فسِّر لي ما قلته؟ فقال: بيَّن أنّ الكبير ذو عاهة، ودلَّ على الصغير بأن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر بالمنصور، حتّى إذا سأل المنصور من وصيّه؟ قيل أنت4.
ومنها: أسلوب التقيّة الذي اتّبعه الإمام الكاظم عليه السلام وأصحابه معه، حيث نجدهم يكنّون عن الإمام في رواياتهم بقولهم، قال العبد الصالح، أو قال السيّد، أو قال العالم، أو قال أبو الحسن5 ، ونحو ذلك من التعابير التي توحي بالجوّ الخانق الذي كان يحيط بالإمام عليه السلام، خصوصاً في عصر هذا الطاغية المنصور، فإنّه بعد قتله للإمام الصادق عليه السلام بالسمّ، وقضائه على الثورات العلويّة في زمانه، لم يغيّر من سياسته ضدّ العلويّين، بل بقي هاجس القلق والخوف يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمرّ في اضطهادهم، فزجّ الأبرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض أحياء في أسطوانات البناء، وبثَّ الجواسيس، لأجل أن يحيط علماً بكلّ نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كلّ حركة، كما سمح للتيّارات الإلحاديّة كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامّة الناس لإضلالهم، واستغلّ بعض العلماء لتأييد سياسته وإسباغ الطابع الشرعيّ على حكمه6.
وبالرغم من عدم تعرّض المنصور للإمام عليه السلام ظاهراً فقد حكي- في موقف نادر- : أنّ المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر عليه السلام بالجلوس للتهنئة في بعض المناسبات فاعتذز الإمام عليه السلام عن الجلوس فقال له المنصور: إنّما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم إلّا جلست فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنّؤونه، ويحملون إليه الهدايا و التحف، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السنّ فقال له: يا ابن بنت رسول الله إنّني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن عليّ عليه السلام:
عَجِبْتُ لِمَصْقُولٍ عَلَاكَ فِرِنْدُهُ7
وَلِأَسْهُمٍ نَفَذَتْكَ دُونَ حَرَائِرٍ
أَلَاْ تَغَضْغَضَتِ8 السِّهَامُ وَعَاقَهَا
يَوْمَ الهِيَاجِ وَقَدْ عَلَاكَ غُبَارُ
يَدْعُونَ جَدَّكَ وَالدُّمُوعُ غِزَارُ
عَنْ جِسْمِكَ الإِجْلَالُ وَالإِكْبَارُ
قال: "قبلت هديتك، اجلس بارك الله فيك"، ورفع رأسه إلى الخادم وقال: "امض إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال، وما يصنع به"، فمضى الخادم وعاد وهو يقول: كلها هبة منّي له، يفعل به ما أراد فقال موسى عليه السلام للشيخ: "اقبض جميع هذا المال فهو هبة منّي لك"9.
وهكذا مرّت هذه الأيّام العصيبة على إمامنا الكاظم عليه السلام، وهو ينأى بنفسه عن التعرّض ظاهراً لهذا الحاكم الظالم، في أجواءٍ من التقيّة الضاغطة، حتّى هلك المنصور وهو في طريقه إلى مكّة.
فعن عليّ بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى عليه السلام يقول: "لا والله، لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً". فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا، فلم يلبث أن خرج، فلمّا بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت: لا والله، لا يرى بيت الله أبداً. فلمّا صار إلى البستان اجتمعوا أيضاً إليّ فقالوا: بقي بعد هذا شيء؟! قلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً. فلمّا نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسن عليه السلام فوجدته في المحراب، قد سجد فأطال السجود، ثمّ رفع رأسه إليّ فقال: "اخرج فانظر ما يقول الناس". فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر، فرجعت فأخبرته فقال: "ألله أكبر، ما كان ليرى بيت الله أبداً"10.
مع المهديّ العبّاسيّ:
وهو أبو عبد الله، محمّد بن المنصور، المعروف بالمهديّ، وقد افتتح عهده بالتحبّب إلى الخاصّ والعامّ، والنظر في المظالم، والكفّ عن القتل، وأمن الخائف وإنصاف المظلوم، وبسط يده في الإعطاء فأذهب جميع ما خلّفه المنصور11.
وقد استغلّ الإمام الكاظم هذه الأجواء والظروف، فبدأ بالمطالبة بحقّ آل البيت عليهم السلام، والذي كانت فدك ترمز إليه، فعن عليّ بن أسباط أنّه قال: لمّا ورد أبو الحسن موسى عليه السلام على المهديّ رآه يردّ المظالم فقال: "يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد؟" فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: "إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه﴾ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل عليه السلام ربّه فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها السلام، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"- ثمّ ذكر كيفيّة أخذها من السيّدة فاطمة عليها السلام إلى أن قال- فقال له المهديّ: يا أبا الحسن حدَّها لي، فقال: "حدٌّ منها جبل أحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل"، فقال له: كلّ هذا؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كلّه ممّا لم يوجف على أهله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيل ولا ركاب"، فقال: كثير، وأنظر فيه12.
وقد كان المهديّ خليعاً متهتّكاً منشغلاً بالسماع والملاهي والجواري، وكان لا يشرب النبيذ لا تحرّجاً ولكنّه كان ل13 يشتهيه، وكان أصحابه.. ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم14. وكان في أوّل أمره يحتجب عن الندماء تشبيهاً بالمنصور نحواً من سنة، ثمّ ظهر لهم، فأشير عليه أن يحتجب فقال: إنّما اللذة مع مشاهدتهم15.
ويظهر أنّه كان ولعاً بمجالس الشراب حتّى حاول- بزعمه- التشكيك بحرمته، ممّا استدعى تصدّي الإمام الكاظم عليه السلام له، فعن عليّ بن يقطين قال: سأل المهديّ أبا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم له، فقال له أبو الحسن عليه السلام: "بل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ يا أمير المؤمنين"، فقال له: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله جلَّ اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: "قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَق﴾ فأمّا قوله: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ يعني الزنى المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهليّة، وأمّا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ يعني ما نكح من الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه، فحرَّم الله عزَّ وجلَّ ذلك، وأمّا الإثمّ فإنّها الخمرة بعينه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ وفي موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس﴾ فأمّا الإثمّ في كتاب الله فهي الخمرة والميسر، ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَر﴾ كما قال الله تعالى"، قال: فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين هذه والله فتوى هاشميّة، قال: قلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فوالله ما صبر المهديّ أن قال لي: صدقت يا رافضيّ!16.
وكما هو ديدن الخلفاء أن يلجأوا في المعضلات إلى أهل بيت الوحي ومعدن العلم، حينما تعييهم المذاهب والآراء، فقد اتفق للمهديّ هذا الأمر عند توسعته للمسجد الحرام، فعن الحسن بن عليّ بن النعمان أنّه قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا، فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصب، فقال له عليّ بن يقطين: يا أمير المؤمنين لو (إنّي) كتبت إلى موسى بن جعفر عليه السلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبه، فكيف المخرج من ذلك؟ فقال ذلك لأبي الحسن عليه السلام، فقال أبو الحسن عليه السلام: "ولا بدّ من الجواب في هذا؟" فقال له: الأمر لا بدّ منه، فقال له اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها"، فلمّا أتى الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله، ثمّ أمر بهدم الدار، فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه السلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم، فكتب إليه أن: "أرضخ 17لهم شيئاً" فأرضاهم18.
ولم يستطع المهديّ أن يخفي حقده الدفين على الإمام الكاظم عليه السلام، وقام بحبسه وسجنه - والظاهر أنّ هذه كانت بداية محنة الإمام عليه السلام في السجون مع طغاة عصره- ولكنّ الله تعالى أنجاه من بين يديه بلطفه وقدرته19.
وروى في هذا أبو خالد الرمّانيّ، وأبو يعقوب الزباليّ، قال كلّ واحد منهما: استقبلت أبا الحسن بالأَجفُر20 في المَقدمة الأولى على المهديّ، فلمّا خرج ودّعته وبكيت، فقال لي: "ما يبكيك؟" قلت: حملك هؤلاء ولا أدري ما يحدث، قال: فقال لي: "لا بأس عليّ منه في وجهي هذا ولا هو بصاحبي وإنّي لراجع إلى الحجاز ومارٌّ عليك في هذا الموضع راجع، فانتظرني في يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا فإنّك تلقاني راجعاً"، قلت له: خير البشرى لقد خفته عليك، قال: "فلا تخف". فترصّدته ذلك الوقت في ذلك الموضع فإذا بالسواد قد أقبل ومنادٍ ينادي من خلفي، فأتيته فإذا هو أبو الحسن على بغلة له، فقال لي: "إيهاً أبا خالد"، قلت: لبّيك يا ابن رسول الله الحمد لله الذي خلّصك من أيديهم، فقال: "أما إنّ لي عودة إليهم لا أتخلّص من أيديهم!"21.
مع موسى الهادي:
وهو أبو محمّد موسى بن محمّد المعروف بالهادي، وكان يسمّى موسى أطْبِقْ، لأنّ شفته العليا كانت تقلص، فكان أبوه وكَّل به في صغره خادماً كلّما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطْبِقْ، فيفيق على نفسه ويضمّ شفتيه، فشُهِر بذلك22.
كان قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام23 ، يتناول المسكر، ويلعب، جبّار، وهو أوّل من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة والقسيِّ الموترة، فاتّبعه عماله في ذلك، وكثر السلاح في عصره24.
وقد ألحَّ في طلب الطالبيّين، وأخافهم خوفاً شديد، وقطع ما كان المهديّ يجريه لهم من الأرزاق والأعطية، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم25.
محنة شهيد فخّ:
ولمّا اشتدّ خوف العلويّين وكثر من يطلبهم، ويحثّ عليهم، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عليّ عليهما السلام (وأمّه زينب بنت عبد الله بن الحسن)، وقالوا له: أنت رجل أهل بيتك، وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه، فقال: وإنّي وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر، فبايعه خلق كثير ممّن حضر الموسم، فما وافاه إلّا أقل من خمسمائة26..
وبعد أن تغلّب الحسين على المدينة، خرج قاصداً إلى مكّة ومعه من تبعه من أهله ومواليه وأصحابه، وهم زهاء ثلاثمائة، واستخلف رجلاً على المدينة، فلمّا صاروا بفخ27 تلقتهم الجيوش، فعرض على الحسين الأمان والعفو والصلة، فأبى ذلك أشدّ الإباء، فالتقوا للقتال يوم التروية وقت صلاة الصبح حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين، وجعلت المسوّدة تصيح بالحسين: يا حسين لك الأمان فيقول: لا أمان أريد، ويحمل عليهم حتّى قتل، وقتل معه سليمان بن عبد الله بن الحسن، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، وأصابت الحسن بن محمّد نشابة في عينه فتركها وجعل يقاتل أشدّ القتال حتّى أمنوه ثمّ قتلوه.
وجاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعبّاس، وعندهما جماعة من ولد الحسن والحسين فلم يسألا أحداً منهم إلّا موسى بن جعفر عليه السلام فقالا: هذا رأس حسين؟ قال: "نعم إنّا لله وإنّا إليه راجعون مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله، فلم يجيبوه بشيء..".
وروي عن جماعة أن محمّد بن سليمان لمّا حضرته الوفاة جعلوا يلقّنونه الشهادة وهو يقول:
أَلَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ أَكُنْ
لَقِيتُ حُسَيْناً يَوْمَ فَخٍّ وَلَا الحَسَنْ
فجعل يردّدها حتّى مات28.
وأقامت جثّة الحسين ومن قتل معه ثلاثة أيّام، لم يواروا حتّى أكلتهم السباع والطير29.
ولمّا بلغ والي المدينة مقتل الحسين بفخّ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممّن خرج مع الحسين، فهدمها وحرَّق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة30.
وقد رأينا- فيما تقدّم- موقف الإمام عليه السلام من مقتل الحسين شهيد فخّ، بالرغم من أنّه نأى عليه السلام بنفسه عن الدخول بهذا الأمر، لعلمه بما ستؤول إليه الأمور، هذ، من غير أن يخفي حزنه على تلك العصبة العلويّة، فعن عبد الله بن المفضّل مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: لمّا خرج الحسين بن عليّ المقتول بفخّ، واحتوى على المدينة دعا موسى بن جعفر عليهما السلام إلى البيعة فأتاه فقال له: :يا ابن عمّ، لا تكلّفني ما كلّف ابنُ عمّك31 عمَّك أبا عبد الله عليه السلام32 فيخرج منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبد الله عليه السلام ما لم يكن يريد"، فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً فإن أردته دخلت فيه، وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان، ثمّ ودّعه. فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام حين ودّعه: "يا ابن عمّ، إنّك مقتول فأجد الضراب33، فإنّ القوم فساق، يظهرون إيماناً، ويسرّون شركاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون أحتسبكم عند الله من عصبة"، ثمّ خرج الحسين، وكان من أمره ما كان، قتلوا كلّهم كما قال عليه السلام34.
وفي قصيدة دعبل التي أنشدها بمحضر الإمام الرضا عليه السلام:
أَفَاطِمُ قُومِي يَا ابْنَةَ الخَيْرِ وَانْدُبِي
قُبُورٌ بِكُوفَانٍ وَأُخْرَى بِطَيْبَةٍ
نُجُومَ سَمَاوَاتٍ بِأَرْضِ فَلَاتِ
وأُخْرَى بِفَخٍّ نَالَهَا صَلَوَاتِي35
وروي عن أبي جعفر الجواد عليه السلام أنّه قال: "لم يكن لنا بعد الطفّ مصرع أعظم من فخّ"36.
ولمّا قتل الحسين بن عليّ صاحب فخّ وتفرّق الناس عنه، حمل رأسه والأسرى من أصحابه إلى موسى بن المهديّ، ثمّ أمر برجل من الأسرى فوبّخه ثمّ قتله، ثمّ صنع مثل ذلك بجماعة من ولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وأخذ من الطالبيّين، وجعل ينال منهم إلى أن ذكر موسى بن جعفر صلوات الله عليه فنال منه وقال: "والله ما خرج حسين إلّا عن أمره، ولا اتبع إلّا محبّته، لأنّه صاحب الوصيّة في أهل هذا البيت، قتلني الله إن أبقيت عليه"37.
وعن عليّ بن يقطين قال: رفع الخبر إلى موسى بن جعفر عليهما السلام، وعنده جماعة من أهل بيته، بما عزم عليه موسى بن المهديّ في أمره، فقال لأهل بيته: "ما تشيرون؟"، قالوا: نرى أن تتباعد عن هذا الرجل، وأن تغيّب شخصك منه، فإنّه لا يؤمن شرّه. فتبسّم أبو الحسن عليه السلام، ثمّ قال:
زَعَمَتْ سُخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا
ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلَّابِ38
ثمّ رفع عليه السلام يده إلى السماء، فقال: "إلهي، كم من عدوٍّ شَحَذَ لي ظُبَةَ مُديته39 ، وأرهف لي سِنان حدّه، وداف لي قواتل سُمومه، ولم تنم عنّي عين حراسته، فلمّا رأيتَ ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن مُلمّات الجوائح40 ، صرفتَ ذلك عنّي بحولك وقوّتك لا بحولي ولا بقوّتي، فألقيتَه في الحفير الذي احتفره لي، خائباً ممّا أمَّله في دنياه، متباعداً ممّا رجاه في آخرته، فلك الحمد على ذلك قَدر استحقاقك.
سيّدي اللهم فخُذه بعزّتك، وافلُل حدَّه عنّي بقدرتك، واجعل له شُغلاً فيما يليه، وعجزاً عمّن يُناويه، أللهم وأَعْدِني عليه عَدْوىً41 حاضرة، تكون من غيظي شِفاء، ومن حقّي عليه وفاء، وصِل اللهمّ دعائي بالإجابة، وانظِم شَكاتي بالتغيير، وعرّفه عمّا قليل ما وعدتَ الظالمين، وعرّفني ما وعدتَ في إجابة المضطرّين، إنّك ذو الفضل العظيم والمنّ الكريم".
قال: ثمّ تفرّق القوم، فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى بن المهديّ42.
وهكذا انتهت هذه الفترة الصعبة من حياة الإمام الكاظم لتبدأ مرحلة أخرى هي الأشدّ والأصعب في حياة الإمام عليه السلام، وهي عصر الطاغية هارون الرشيد.
مع هارون الرشيد:
وهو أبو جعفر هارون بن المهديّ، وكان مولعاً بالغناء والمغنّين وهو أوّل من جعل لهم مراتب وطبقات، وأوّل خليفة لعب بالصَّوالجة43 والكرة، وأوّل خليفة لعب بالشطرنج من بني العبّاس44.
وكان يشرب الخمر وأدمن عليه، وكان يدعو خواصّ جواريه إذا أراد الشراب، وربّما يتولّى السقاية بنفسه لندمائه45 ، وكان شديد العلاقة أيضاً بالجواري46.
أفضت الخلافة إلى هارون، وزهرت له الدني، واستوسقت له الأمور، ونال من دنياه كلّ ما اشتهى وأراد، وقد عمّ نفوذه على أغلب أنحاء هذه المعمورة حتّى أثر عنه خطابه للسحاب: اذهبي إلى حيث شئت يأتيني خراجك47.
وقد سار على نهج أسلافه ممّن سبقه من الخلفاء فتتبّع العلويّين وأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فملأ منهم السجون، وسفك منهم الدماء، وأذاقهم ألوان الأذى وصنوف العذاب.
محنة الإمام الكاظم عليه السلام مع الرشيد:
لقد كان هارون الرشيد- كغيره من الخلفاء- يعلم بأنّ الإمامة حقّ لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أخفوا هذا الأمر وحاولوا أن يلبسوه على العامّة، فعن الريّان بن شبيب، قال: سمعت المأمون يقول: ما زلت أحبّ أهل البيت عليهم السلام، وأظهر للرشيد بغضهم تقرّباً إليه، فلمّا حجّ الرشيد كنت أنا ومحمّد والقاسم معه، فلمّا كان بالمدينة استأذن عليه الناس، فكان آخر من أذن له موسى بن جعفر عليهما السلام، فدخل، فلمّا نظر إليه الرشيد تحرّك ومدّ بصره وعنقه إليه حتّى دخل البيت الذي كان فيه، فلمّا قرب منه جثا الرشيد على ركبتيه وعانقه، ثمّ أقبل عليه، فقال له: كيف أنت يا أبا الحسن؟ كيف عيالك؟ كيف عيال أبيك؟ كيف أنتم؟ ما حالكم؟ فما زال يسأله عن هذا وأبو الحسن عليه السلام يقول: "خيرٌ خير"، فلمّا قام أراد الرشيد أن ينهض، فأقسم عليه أبو الحسن عليه السلام فقعد، وعانقه وسلَّم عليه وودَّعه.
قال المأمون: وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلمّا خرج أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قلت لأبي: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتك عملت بهذا الرجل شيئاً ما رأيتك فعلت بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار ولا ببني هاشم! فمن هذا الرجل؟ فقال: يا بنيّ، هذا وارث علم النبيّين، هذا موسى بن جعفر بن محمّد، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا...48
وفي رواية أخرى أنّه قال له: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفته على عباده، فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بنيّ إنّه لأحقّ بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّي ومن الخلق جميع، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم49.
ومن هذه الكلمات لولده المأمون يتّضح الخلفية التي كان يتعاطى من خلالها هارون مع الإمام الكاظم عليه السلام، وحجم الخطر الذي كان يشعر به من وجود هذا الإمام العظيم حتّى وهو في غياهب السجون وظلم المطامير.
وهكذا كانت السنون التي قضاها الإمام عليه السلام في عهد الرشيد أسوأ ما مرّ به في حياته، فقد سخَّر الرشيد كافّة أجهزته القمعيّة لمراقبة الإمام والنيل منه واستدعائه أكثر من مرّة إلى بغداد في مطلع خلافته وهو حاقد عليه، وكان يضعه في سجنه ثمّ يأمر بإطلاقه بعد مدّة من الزمن، وأحياناً كان يتظاهر بإكرامه وتعظيمه دجلاً ونفاقاً50.
*كاظم الغيظ، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- آل ياسين الشيخ محمّد حسن: الأئمّة الاثنا عشر، سيرة وتاريخ، ج 2 ص 42.
2- القمّي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 335.
3- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 37.
4- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 1 ص 328.
5- المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، أعلام الهداية، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ص 68.
6- المصدر السابق ص 63.
7- فرند السيف بكسر الفاء والراء: جوهره ووشيه، وهو ما يرى فيه شبيه مدبّ النمل أو شبه الغبار.
8- التغضغض: الانتقاص والتفرق
9- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318- 319.
10- الحميري: قرب الإسناد ص 337.
11- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 343.
12- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 543.
13- في المصدر إلّا وهو لا يستقيم.
14- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 577.
15- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 276- 277.
16- الكلينيّ: الكافي ج 6 ص 406.
17- أرضخ الرجل: أعطاهم قليلاً من كثير.
18- العيّاشي محمّد بن مسعود: تفسير العياشيّ ج 1 ص 185.
19- الأربلي: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ج 3 ص 3، وقال: ورواه الجنابذيّ وذكر أنّه وصله بعشرة آلاف دينار.
20- موضع بين فيد والخزيميّة في طريق مكّة.
21- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 287.
22- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 279.
23- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 356.
24- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 279- 280.
25- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 404.
26- المصدر السابق.
27- فخّ بفتح الفاء وتشديد الخاء بئر بينه وبين مكّة فرسخ تقريباً.
28- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 48 ص 160- 165.
29- المسعوديّ: مروج الذهب ج 3 ص 358.
30- الطبريّ: تاريخ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4 ص 601.
31- قال العلّامة المجلسيّ: قوله: ما كلّف ابن عمّك، أي محمّد بن عبد الله، وسمّى أبا عبد الله عمّه مجازاً.
32- يعني الإمام الصادق عليه السلام.
33- أي أحسن القتال.
34- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 366.
35- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 248.
36- المصدر السابق ج 48 ص 165.
37- المجلسيّ: بحار الأنوار، ج 48 ص 151.
38- في هامش الأمالي: البيت لكعب بن مالك، وقيل: لحسّان بن ثابت، وسَخينة: لقب قريش، لأنّها كانت تُعاب بأكل السَّخينة، وهي طعام يُتَّخذ من الدقيق، وإنّما يأكلونها في شدَّة الدهر وغلاء السعر.
39- الظبة: حدّ السيف ونحوه، والمُدية: الشَّفرة الكبيرة.
40- الجائحة: المصيبة تحلّ بالرجل في ماله فتجتاحه كلّه.
41- أعداه: نصره وأعانه وقوّاه، والعدوى: طلبك إلى والٍ ليُعديك على من ظلمك، أي ينتقم منه.
42- الصدوق: الأمالي ص 459.
43-الصوالجة: جمع صولجان، وهو عصا يعطف طرفها، يضرب بها الكرة على الدواب، فارسي معرّب.
44- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 295.
45- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر علهما السلام ج 2 ص 67.
46- السيوطيّ: تاريخ الخلفاء ص 291.
47- القرشيّ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 21.
48- الصدوق: الأمالي ص 458.
49- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 1 ص 85.
50- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة عليهم السلام ج 11 ص 377.