مجلس شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام -2
وَمُحْكِمَ دِيْنِ الْمُصْطَفَىْ وَهْوَ دَارِسُ
بِهَا أُرْغِمَتْ مِنْ شَانِئِيْكَ الْمَعَاطِسُ
فَخَارَاً لَه تَعْنُو النُّجُوْمُ الكَوَانِسُ
وَأَظْلَمَ فِيْهِ دِيْنُهُ وَهْوَ شَامِسُ
مَضَىْ وَعَلَيْهِ الْمَكْرُمَاتُ حَبَائِسُ
هَوَاناً بَنُوْ الْعَبَّاسِ وَهْيَ عَوَابِسُ
قَضَىْ وَبِهَا لَمْ تُشْفَ مِنْهُ النَّسَائِسُ
بَكَاهُ الْمُوَالِيْ وَالْعَدُوُّ الْمُشَاكِسُ
لَيَوْمٌ عَلَىْ الدِّيْنِ الْحَنِيْفِيِّ نَاحِسُ
وَمَارَسَ مِنْ أَعْدَائِهِ مَا يُمَارِسُ1 أَيَا صَفْوَةَ الْهَادِيْ وَيَا مُحْيِيَ الْهُدَىْ
لَمَّا مَضَىْ الْهَادِيْ أَرَيْتَ مَعَاجِزاً
بِنَفْسِيَ مَنْ نَالَتْ بِهِ سُرَّ مَنْ رَأَى
بِنَفْسِيَ مَنْ أَبْكَىْ النَّبِيَّ مُصَابُهُ
بِنَفْسِيَ مَحْبُوْساً عَلَىْ حَبْسِ حَقِّهِ
بِنَفْسِيَ مَنْ فِيْ كُلِّ يَوْمٍ تَسُوْمُهُ
بِنَفْسِيَ مَسْمُوْماً تَشَفَّتْ بِهِ الْعِدَىْ
بِنَفْسِيَ مَكْرُوْباً قَضَىْ بَعْدَ سَمِّهِ
فَلَا كَانَ يَوْمُ الْعَسْكَرِيِّ فَإِنَّهُ
حَكَىْ جَدَّهُ عُمْراً وسُمّاً وَغُرْبَةً
شعبي:
على أبو محمّد يويلي تراكم الهم عقب ما كبد أبوه انمرد بالسم
عليه المعتمد كل يوم يشتد يويلي وظلّ يجور على أبو محمّد
سقاه السم لمن كبده تمرَّد ولا راقب الباري ولا تندم
أبوذيّة:
وحق العسكري ووالده وسمهم علامة بكل قلب يضوي وسمهم
حيف اتجاسر الظالم وسمهم ابذاك السجن واندفنوا سويّه
لقد تعرّض هذا الإمام العظيم لمحنٍ كثيرة:
1- السجن:
وقد كان حاله فيه كحال جدّه الإمام الكاظم عليه السلام، فعن عليّ بن عبد الغفّار قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف، ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد عليه السلام، فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين.
وعن المحموديّ قال: رأيت خطّ أبي محمّد لمّا أخرج من حبس المعتمد: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون﴾2.
2- محاولة القتل والاغتيال:
وقد وقع ذلك في مواضع عديدة:
منها: أنّه سلّم أبو محمّد عليه السلام إلى نحرير3 فكان يضيّق عليه ويؤذيه، قال: فقالت له امرأته: ويلك اتق الله، لا تدري من في منزلك؟! وعرَّفته صلاحه وقالت: إنّي أخاف عليك منه، فقال: لأرمينّه بين السباع، ثمّ فعل ذلك به، فرُئي عليه السلام قائماً يصلّي وهي حوله.
ومنها: ما عن أحمد بن الحارث القزوينيّ قال: كنت مع أبي بسرّ من رأى، وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمّد، قال: وكان عند المستعين بغل لم يُرَ مثله حسناً وكبراً، وكان يمنع ظهره واللجام والسرج، وقد كان جمع عليه الراضة4، فلم يمكن لهم حيلة في ركوبه، قال: فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين، ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا حتّى يجيء، فإمّا أن يركبه، وإمّا أن يقتله فتستريح منه، قال: فبعث إلى أبي محمّد ومضى معه أبي، فقال أبي: لمّا دخل أبو محمّد الدار كنت معه، فنظر أبو محمّد إلى البغل واقفاً في صحن الدار. فعدل إليه فوضع بيده على كفله، قال فنظرت إلى البغل وقد عرق حتّى سال العرق منه، ثمّ صار إلى المستعين، فسلّم عليه فرحّب به وقرب، فقال: يا أبا محمّد ألجم هذا البغل، فقال أبو محمّد لأبي: ألجمه يا غلام، فقال المستعين: ألجمه أنت، فوضع طيلسانه، ثمّ قام فألجمه، ثمّ رجع إلى مجلسه وقعد، فقال له: يا أبا محمّد أسرجه، فقال لأبي: يا غلام أسرجه، فقال: أسرجه أنت، فقام ثانية فأسرجه ورجع، فقال له: ترى أن تركبه؟ فقال: نعم، فركبه من غير أن يمتنع عليه ثمّ ركّضه في الدار، ثمّ حمله على الهملجة5 فمشى أحسن مشي يكون، ثمّ رجع ونزل، فقال له المستعين: يا أبا محمّد كيف رأيته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثله حسناً وفراهةً وما يصلح أن يكون مثله إلّا لأمير المؤمنين، قال: فقال: يا أبا محمّد فإنّ أمير المؤمنين قد حملك عليه، فقال أبو محمّد لأبي: يا غلام خذه، فأخذه أبي فقاده.
ومنها: أنّه لمّا همّ المستعين في أمر أبي محمّد (العسكريّ) عليه السلام بما همّ وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة، و أن يحدث عليه في الطريق حادثة انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم، وكان بعد مضيّ أبي الحسن (الهادي) عليه السلام بأقلّ من خمس سنين. فكتب إليه محمّد بن عبد الله والهيثم بن سيّابة: بَلَغنا -جَعَلَنا الله فداك- خبرٌ أقلقنا وغمّنا، وبلغ منّ، فوقَّع: بعد ثلاث يأتيكم الفرج، قال: فخُلع المستعين في اليوم الثالث، وقعد المعتزّ، وكان كما قال6.
3- الشهادة:
إلى أن جاء المعتمد العبّاسيّ، ودسّ للإمام عليه السلام السمّ، وصار الإمام جليس الدار وطريح الفراش.. ثمانية أيّام.. يعاني الآلام والأوجاع من أثر السمّ..
ولمّا اعتلّ بعثوا إلى الخليفة أنّ ابن الرضا قد اعتلّ، فركب من دار الخلافة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته.. وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليّ عليهما السلام وتعرّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً. فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنّه قد ضعف، فركب إليه بعض أصحاب الخليفة وأمر المتطبّبين بلزومه وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليه السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهار، فلم يزالوا هناك حتّى توفّي عليه السلام..
قال إسماعيل بن عليّ: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام في المرضة التي مات فيها وأنا عنده، إذ قال لخادمه عقيد- وكان الخادم أسود نوبيّاً قد خدم من قبله عليّ بن محمّد وهو ربيّ الحسن عليه السلام - فقال (له): يا عقيد إغل لي ماء بمصطكي7، فأغلى له، ثمّ جاءت به صقيل الجارية أمّ الخلف عليه السلام. فلمّا صار القدح في يديه وهم بشربه فجعلت يده ترتعد حتّى ضرب القدح ثنايا الحسن عليه السلام، فتركه من يده، وقال لعقيد: أدخل البيت فإنّك ترى صبيّاً ساجداً فأتني به. قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى فإذا أنا بصبيّ ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلّمت عليه فأوجز في صلاته، فقلت: إنّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه، إذا جاءت أمّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليه السلام.
قال أبو سهل: فلمّا مَثُلَ الصبيّ بين يديه سلّم، وإذا هو دُرّيّ اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلمّا رآه الحسن عليه السلام بكى وقال: يا سيّد أهل بيته اسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربّي، وأخذ الصبيّ القدح المغليّ بالمصطكي بيده ثمّ حرّك شفتيه ثمّ سقاه، فلمّا شربه قال: هيّئوني للصلاة، فطُرح في حجره منديل فوضّأه الصبيّ واحدة واحدة، ومسح على رأسه وقدميه. فقال له أبو محمّد عليه السلام: أبشر يا بنيّ، فأنت صاحب الزمان، وأنت المهديّ، وأنت حجّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي وأنا ولدتك... ولَدَك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت خاتم (الأوصياء) الأئمّة الطاهرين، وبشَّر بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسمَّاك وكنَّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت، ربّنا إنّه حميد مجيد.
قالوا: ثمّ أخذ ولده الحجّة|، وضمّه إلى صدره الشريف وجعل يقبّله ويودّعه ويبكي، ويوصيه بوصاياه وسلّمه ودائع الإمامة، ثمّ سكن أنينه، وعرق جبينه، وغمّض عينيه، ومدّ يديه ورجليه، وفاضت روحه الطاهرة..
رحم الله من نادى: وا إماماه.. وا سيّداه.. وا مظلوماه..
بعد ما ودّع ابنه ابقلب مجروح تشاهد ويل قلبي وطلعت الروح
ثار صياح أهل بيته وعلا النوح تنادي مات أويلي الحسن بالسم
وقام الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه بتجهيز أبيه الإمام العسكريّ عليه السلام، ولمّا وضع الإمام في نعشه مكفّناً تقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه، يقول الراوي: فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عمّ، فأنا أحقّ بالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر، وقد أربدّ وجهه واصفرّ. فتقدّم الصبيّ وصلّى عليه ودُفن إلى جانب قبر أبيه عليهما السلام..
ولمّا مضى الإمام عليه السلام صارت سُرَّ مَنْ رأى ضجّة واحدة- مات ابن الرضا- وبعث السلطان إلى داره من يفتّشها ويفتّش حجرها، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ فذكر بعضهنّ أنّ هناك جارية بها حمل فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها "نحرير" الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطّلت الأسواق وركب بنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس إلى جنازته عليه السلام، فكانت سُرَّ مَنْ رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة..
اجت الناس تتراكض ابدهشه لگوا دار العلوم اشلون وحشه
بكوا عالباب لمّن طلع نعشه تلقوه ابلطم يدمي الخدين
وعن الرضا عليه السلام أنّه قال: لا بدّ من فتنة صمّاء صيلم يسقط فيها كلّ بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض وكلّ حرّى وحرّان، وكلّ حزين لهفان..
سارت بالنعش تبكي حواليه لما دفنوه ردوا للعزا اعليه
بس احسين ما واحد وصل ليه ثلث تيام عاري ابغير تكفين
لهفي عليك سيّدي أبا عبد الله! من الذي غسّلك وكفّنك وشيّعك؟!
مَا غَسَّلُوْهُ وَلَا لَفُّوْهُ فِيْ كَفَنٍ يَوْمَ الطُّفُوْفِ وَلَا مَدُّوْا عَلَيْهِ رِدَا
*مجالس الأئمة المعصومين2،سلسلة مجالس الأئمة المعصومين، اعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
1- القصيدة للسيّد صالح النجفيّ المعروف بالقزوينيّ رحمه الله.
2- سورة الصف الآية 8.
3- هو خادم من خدم الخليفة وكان راعيَ سباع الخليفة وكلابه، ومن خواصّه، وكان شقيّاً من الأشقياء، والنحرير: الحاذق الفطن.
4- جمع رائض، أي الذي يتولّى تربية المواشي.
5- نوع من المشي.
6- وروي مثله مع المعتزّ أيضاً والله العالم.
7- المصطكي: شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة ويستخرج منه صمغ يعلك، وهو دواء.
وَمُحْكِمَ دِيْنِ الْمُصْطَفَىْ وَهْوَ دَارِسُ
بِهَا أُرْغِمَتْ مِنْ شَانِئِيْكَ الْمَعَاطِسُ
فَخَارَاً لَه تَعْنُو النُّجُوْمُ الكَوَانِسُ
وَأَظْلَمَ فِيْهِ دِيْنُهُ وَهْوَ شَامِسُ
مَضَىْ وَعَلَيْهِ الْمَكْرُمَاتُ حَبَائِسُ
هَوَاناً بَنُوْ الْعَبَّاسِ وَهْيَ عَوَابِسُ
قَضَىْ وَبِهَا لَمْ تُشْفَ مِنْهُ النَّسَائِسُ
بَكَاهُ الْمُوَالِيْ وَالْعَدُوُّ الْمُشَاكِسُ
لَيَوْمٌ عَلَىْ الدِّيْنِ الْحَنِيْفِيِّ نَاحِسُ
وَمَارَسَ مِنْ أَعْدَائِهِ مَا يُمَارِسُ1 أَيَا صَفْوَةَ الْهَادِيْ وَيَا مُحْيِيَ الْهُدَىْ
لَمَّا مَضَىْ الْهَادِيْ أَرَيْتَ مَعَاجِزاً
بِنَفْسِيَ مَنْ نَالَتْ بِهِ سُرَّ مَنْ رَأَى
بِنَفْسِيَ مَنْ أَبْكَىْ النَّبِيَّ مُصَابُهُ
بِنَفْسِيَ مَحْبُوْساً عَلَىْ حَبْسِ حَقِّهِ
بِنَفْسِيَ مَنْ فِيْ كُلِّ يَوْمٍ تَسُوْمُهُ
بِنَفْسِيَ مَسْمُوْماً تَشَفَّتْ بِهِ الْعِدَىْ
بِنَفْسِيَ مَكْرُوْباً قَضَىْ بَعْدَ سَمِّهِ
فَلَا كَانَ يَوْمُ الْعَسْكَرِيِّ فَإِنَّهُ
حَكَىْ جَدَّهُ عُمْراً وسُمّاً وَغُرْبَةً
شعبي:
على أبو محمّد يويلي تراكم الهم عقب ما كبد أبوه انمرد بالسم
عليه المعتمد كل يوم يشتد يويلي وظلّ يجور على أبو محمّد
سقاه السم لمن كبده تمرَّد ولا راقب الباري ولا تندم
أبوذيّة:
وحق العسكري ووالده وسمهم علامة بكل قلب يضوي وسمهم
حيف اتجاسر الظالم وسمهم ابذاك السجن واندفنوا سويّه
لقد تعرّض هذا الإمام العظيم لمحنٍ كثيرة:
1- السجن:
وقد كان حاله فيه كحال جدّه الإمام الكاظم عليه السلام، فعن عليّ بن عبد الغفّار قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف، ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد عليه السلام، فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين.
وعن المحموديّ قال: رأيت خطّ أبي محمّد لمّا أخرج من حبس المعتمد: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون﴾2.
2- محاولة القتل والاغتيال:
وقد وقع ذلك في مواضع عديدة:
منها: أنّه سلّم أبو محمّد عليه السلام إلى نحرير3 فكان يضيّق عليه ويؤذيه، قال: فقالت له امرأته: ويلك اتق الله، لا تدري من في منزلك؟! وعرَّفته صلاحه وقالت: إنّي أخاف عليك منه، فقال: لأرمينّه بين السباع، ثمّ فعل ذلك به، فرُئي عليه السلام قائماً يصلّي وهي حوله.
ومنها: ما عن أحمد بن الحارث القزوينيّ قال: كنت مع أبي بسرّ من رأى، وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمّد، قال: وكان عند المستعين بغل لم يُرَ مثله حسناً وكبراً، وكان يمنع ظهره واللجام والسرج، وقد كان جمع عليه الراضة4، فلم يمكن لهم حيلة في ركوبه، قال: فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين، ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا حتّى يجيء، فإمّا أن يركبه، وإمّا أن يقتله فتستريح منه، قال: فبعث إلى أبي محمّد ومضى معه أبي، فقال أبي: لمّا دخل أبو محمّد الدار كنت معه، فنظر أبو محمّد إلى البغل واقفاً في صحن الدار. فعدل إليه فوضع بيده على كفله، قال فنظرت إلى البغل وقد عرق حتّى سال العرق منه، ثمّ صار إلى المستعين، فسلّم عليه فرحّب به وقرب، فقال: يا أبا محمّد ألجم هذا البغل، فقال أبو محمّد لأبي: ألجمه يا غلام، فقال المستعين: ألجمه أنت، فوضع طيلسانه، ثمّ قام فألجمه، ثمّ رجع إلى مجلسه وقعد، فقال له: يا أبا محمّد أسرجه، فقال لأبي: يا غلام أسرجه، فقال: أسرجه أنت، فقام ثانية فأسرجه ورجع، فقال له: ترى أن تركبه؟ فقال: نعم، فركبه من غير أن يمتنع عليه ثمّ ركّضه في الدار، ثمّ حمله على الهملجة5 فمشى أحسن مشي يكون، ثمّ رجع ونزل، فقال له المستعين: يا أبا محمّد كيف رأيته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثله حسناً وفراهةً وما يصلح أن يكون مثله إلّا لأمير المؤمنين، قال: فقال: يا أبا محمّد فإنّ أمير المؤمنين قد حملك عليه، فقال أبو محمّد لأبي: يا غلام خذه، فأخذه أبي فقاده.
ومنها: أنّه لمّا همّ المستعين في أمر أبي محمّد (العسكريّ) عليه السلام بما همّ وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة، و أن يحدث عليه في الطريق حادثة انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم، وكان بعد مضيّ أبي الحسن (الهادي) عليه السلام بأقلّ من خمس سنين. فكتب إليه محمّد بن عبد الله والهيثم بن سيّابة: بَلَغنا -جَعَلَنا الله فداك- خبرٌ أقلقنا وغمّنا، وبلغ منّ، فوقَّع: بعد ثلاث يأتيكم الفرج، قال: فخُلع المستعين في اليوم الثالث، وقعد المعتزّ، وكان كما قال6.
3- الشهادة:
إلى أن جاء المعتمد العبّاسيّ، ودسّ للإمام عليه السلام السمّ، وصار الإمام جليس الدار وطريح الفراش.. ثمانية أيّام.. يعاني الآلام والأوجاع من أثر السمّ..
ولمّا اعتلّ بعثوا إلى الخليفة أنّ ابن الرضا قد اعتلّ، فركب من دار الخلافة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته.. وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليّ عليهما السلام وتعرّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطبّبين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً. فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنّه قد ضعف، فركب إليه بعض أصحاب الخليفة وأمر المتطبّبين بلزومه وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليه السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهار، فلم يزالوا هناك حتّى توفّي عليه السلام..
قال إسماعيل بن عليّ: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام في المرضة التي مات فيها وأنا عنده، إذ قال لخادمه عقيد- وكان الخادم أسود نوبيّاً قد خدم من قبله عليّ بن محمّد وهو ربيّ الحسن عليه السلام - فقال (له): يا عقيد إغل لي ماء بمصطكي7، فأغلى له، ثمّ جاءت به صقيل الجارية أمّ الخلف عليه السلام. فلمّا صار القدح في يديه وهم بشربه فجعلت يده ترتعد حتّى ضرب القدح ثنايا الحسن عليه السلام، فتركه من يده، وقال لعقيد: أدخل البيت فإنّك ترى صبيّاً ساجداً فأتني به. قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى فإذا أنا بصبيّ ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلّمت عليه فأوجز في صلاته، فقلت: إنّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه، إذا جاءت أمّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليه السلام.
قال أبو سهل: فلمّا مَثُلَ الصبيّ بين يديه سلّم، وإذا هو دُرّيّ اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلمّا رآه الحسن عليه السلام بكى وقال: يا سيّد أهل بيته اسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربّي، وأخذ الصبيّ القدح المغليّ بالمصطكي بيده ثمّ حرّك شفتيه ثمّ سقاه، فلمّا شربه قال: هيّئوني للصلاة، فطُرح في حجره منديل فوضّأه الصبيّ واحدة واحدة، ومسح على رأسه وقدميه. فقال له أبو محمّد عليه السلام: أبشر يا بنيّ، فأنت صاحب الزمان، وأنت المهديّ، وأنت حجّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي وأنا ولدتك... ولَدَك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت خاتم (الأوصياء) الأئمّة الطاهرين، وبشَّر بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسمَّاك وكنَّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت، ربّنا إنّه حميد مجيد.
قالوا: ثمّ أخذ ولده الحجّة|، وضمّه إلى صدره الشريف وجعل يقبّله ويودّعه ويبكي، ويوصيه بوصاياه وسلّمه ودائع الإمامة، ثمّ سكن أنينه، وعرق جبينه، وغمّض عينيه، ومدّ يديه ورجليه، وفاضت روحه الطاهرة..
رحم الله من نادى: وا إماماه.. وا سيّداه.. وا مظلوماه..
بعد ما ودّع ابنه ابقلب مجروح تشاهد ويل قلبي وطلعت الروح
ثار صياح أهل بيته وعلا النوح تنادي مات أويلي الحسن بالسم
وقام الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه بتجهيز أبيه الإمام العسكريّ عليه السلام، ولمّا وضع الإمام في نعشه مكفّناً تقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه، يقول الراوي: فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عمّ، فأنا أحقّ بالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر، وقد أربدّ وجهه واصفرّ. فتقدّم الصبيّ وصلّى عليه ودُفن إلى جانب قبر أبيه عليهما السلام..
ولمّا مضى الإمام عليه السلام صارت سُرَّ مَنْ رأى ضجّة واحدة- مات ابن الرضا- وبعث السلطان إلى داره من يفتّشها ويفتّش حجرها، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن بالحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ فذكر بعضهنّ أنّ هناك جارية بها حمل فأمر بها فجعلت في حجرة ووكّل بها "نحرير" الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطّلت الأسواق وركب بنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس إلى جنازته عليه السلام، فكانت سُرَّ مَنْ رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة..
اجت الناس تتراكض ابدهشه لگوا دار العلوم اشلون وحشه
بكوا عالباب لمّن طلع نعشه تلقوه ابلطم يدمي الخدين
وعن الرضا عليه السلام أنّه قال: لا بدّ من فتنة صمّاء صيلم يسقط فيها كلّ بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض وكلّ حرّى وحرّان، وكلّ حزين لهفان..
سارت بالنعش تبكي حواليه لما دفنوه ردوا للعزا اعليه
بس احسين ما واحد وصل ليه ثلث تيام عاري ابغير تكفين
لهفي عليك سيّدي أبا عبد الله! من الذي غسّلك وكفّنك وشيّعك؟!
مَا غَسَّلُوْهُ وَلَا لَفُّوْهُ فِيْ كَفَنٍ يَوْمَ الطُّفُوْفِ وَلَا مَدُّوْا عَلَيْهِ رِدَا
*مجالس الأئمة المعصومين2،سلسلة مجالس الأئمة المعصومين، اعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
1- القصيدة للسيّد صالح النجفيّ المعروف بالقزوينيّ رحمه الله.
2- سورة الصف الآية 8.
3- هو خادم من خدم الخليفة وكان راعيَ سباع الخليفة وكلابه، ومن خواصّه، وكان شقيّاً من الأشقياء، والنحرير: الحاذق الفطن.
4- جمع رائض، أي الذي يتولّى تربية المواشي.
5- نوع من المشي.
6- وروي مثله مع المعتزّ أيضاً والله العالم.
7- المصطكي: شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة ويستخرج منه صمغ يعلك، وهو دواء.